"الفصل الخامس"

731 13 0
                                    

" الفصل الخامس"
 
التفت كلاهما اثر صوتها الرنان الذي صدح فجأة ، حدّق فيها " فارس" قبل أن يمضي نحوها بـ خُطى متعجلة و هو يزأر بـ شراسة :
- انتي جاية تهببي إيه هنا ؟ جاية تتفرجي على ابنك و هو بيموت ؟
فـ وقف " عمر" على الفور و هو يتحسس تلك الكدمة في وجهه ، و سريعًا ما سدّ الطريق أمامه ليحول دون أن يخطو خطوة إضافية نحو والدته :
- بقولك إيه! لحد هنا و كفاية ، هتستغبى على أمي قسمًا بالله ما هسكتلك
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا و قد تخشب بـ محلهِ ، و سريعًا ما قبض على تلابيبه ليجتذبهُ اليه هادرًا باستهجان :
- انت فاكر نفسك راجل يالا و لا إيه ؟ ده انت حتة عيـ..
تلك المرة ضربهُ " عمر" بـ مقدمة جبهته فـ ابتلع الأخير كلماتهِ مُجبرًا إثر الصدمة ، ارتد جسده للخلف بينما يحدجهُ بنظراتٍ مشتعلة ، كاد أن ينقض عليهِ لولا أنها وقفت حاجزًا في المنتصف و هي تقول بفتور :
- انتو هتتخانقوا قدامي ، يامن فيـن ؟
شملها " فارس" بنظراتٍ متأججة قبل أن ينقل نظراتهُ نحو " عمر" الذي سريعًا ما حال بينه و بينها و هو يقف أمامها كـ السد المنيع متمتمًا بنبرة مستشاطة :
- حاسبي يا ماما .. أصله نسى نفسه و مش بعيد يمد ايده عليكي !
تمكن ذهنهُ من تحليل ذلك التغيير المُفاجئ في تصرفاتهِ ، فـ باتت نظراته أكثر اظلامًا ، حدّق بها بنظراتٍ يكاد يلتهمها حيّة قبل أن يُردف بصوتٍ حالك مُدينًا إياها :
- يبقى انتي اللي ورا كل ده
تغضن جبينها بعدم فهم ثم تمتمت بلا اكتراث :
- بقولك ايه يا فارس ، أنا مش فايقالك ، و مش فايقة أحلل كلامك السخيف ده ، و الموقـ...
فقاطعها موضحًا بـ شجب جليّ :
- طبعًا من ساعة ما رجعت و انتي بتلعبي في دماغه ، عايزة توقعي بيننا !
و گأنها بُهتت قليلًا و جلّ الارتباك على صفحة وجهها ، زاغت نظراتها و هي تتظاهر بـ عدم الفهم و :
- انت بتقول ايه يا فارس .. قولتلك ان أنا..
فـ كز على أسنانهِ بقوةٍ محاولًا كظم غيظه و هو يكاد يخطو نحوها لاعنًا من بين أسنانه المُطبقة :
- يا بنت الـ....
فـ هدر " عمر" باحتدامٍ جعلهُ يبتلع سبابهِ دون أن يكمله و هو يرمقهُ بنظراتٍ تطاير منها الشرر :
- فــــارس... متنساش انت بتكلم مين ، الزم حدودك.. دي أمي !
فكاد يُهشم أسنانهِ من فرط تشديدهُ على عضلات فكّه ، نقل نظراتهُ المتّقدة اليهِ و هو يقول محتجًا :
- انت مش فاهم هي بتعمل ايه .. عايزة توقع بـ....
- بـس ..مش عايز أسمع حرف زيادة ، كفاية !
تحممّت الدماء في أوردتهِ أكثر و كثر ، تضاعفت نظراته شراسة و هو يحيد ببصره لينظر نحوها ، ليجدها قد وقفت على أطراف أصابعها لتواكب طول ابنها من خلفهِ ، و تراقصت على شفتيها ابتسامة شامتة رافقتها نظرة ظفر التمعت في حدقتيها ، فـ كاد يُطبق على عنقها فـ ينتشل الروح من جسدها و ينتهي أمرها في الحال، توعّدها "فارس" بالردّ العنيف:
- ماشي .. ماشي يا هدي ، مش معنى انك كسبتي جولة يبقى الحرب انتهت
تصنعت البارءة حين حانت من " عمر" التفاتةً نحوها ، و أحنت بصرها عنهُ و هي تقول بـ وداعةٍ لا تتناسب معها :
- الله يسامحك يا فارس ، ده أنا ابني جوا بين الحياة و الموت و انت شوف بتقول ايه ؟
شملها بازدراءٍ بينما تمتمت موجهة حديثها إلى " عمر" :
- وديني عنده يا عمر ، و ديني عند أخوك ، ده .. ده لو حصل له حاجة أنا هموت فيها
- تعالي يا ماما
أفسح الطريق أمامها لتمر ، و شملهُ بنظرات ازدراء ثم تبعها للأعلى ، طرد زفيرًا حارًا و هو يتابعه بنظراتهِ فـ بدا و كأنه يُنفث دخانًا .. يبدو أنهُ اليوم سـ يخسر اثنين من أعز الأشخاص إلى قلبهِ ، أو بـ معنى أدق أنه "خسر".. أحدهما على الأقل .
................................................
لطمت على فخذيها العديد من المرات و قد حاوطت رأسها بحجاب قصير و عقدتهُ من الخلف، عسى أن يذهب عنها ذلك الصُداع الذي يفتك من خلايا رأسها و ينهشها نهشًا .. أُصيبت بتلك الحالة عقب اختفائهِ المُفاجئ عن الوسط .. و عقب أن باءت جميع مُحاولاتها للاتصال بهِ بالفشل و ذهبت أدراج الرياح ، فـ كانت تهذي و هي تنعي حظها :
- يا ترى عملت إيه يا ابني ، لتكون وقعت معاه ، آآآه يا حسرة قلبي عليك يا ابني
استمعت إلى نداء زوجها بصوتهِ الضعيف المتحشرج و الذي امتزج مع السعال ، فـ كفكفت دموعها على الفور و نهضت لـ توفض بداخل غرفتهِ متمتمة بآسى :
- أيوة يا فتحي
فـ أشار _ ذلك الذي غزا الشيب شعر رأسهُ و اشتعل بهِ ،و و هن العظم منه_ لابنتهُ التي نامت بـ عمقٍ بين ذراعيهِ لـتنتقل " ميرفت" نحوهما ، انحنت قليلًا لتنتشل الصغيرة ذات الثماني سنوات من بين ذراعي والدها ، و حملتها لتسكن أحضانها ، فـ كانت تعبيرات زوجها واجمة و هو يسأل :
- ابنك معرفتيش عنه حاجة ؟
تقوست شفتيها بتعاسة و هي تردف بقنوط :
- لا يا حاج
فـ نفخ الأخير بـ حنق بالغ :
- تلاقيه مع أصحابه الصايعين اللي شبهه ، خلفة الغم و الندم ، بدل ما يكون عندي راجل يقف جمبي في مرضي ، يبقى عندي واحد عاق ناقص ألف أدور عليه ألمه من الشوارع
و أشار إلى ساقيهِ لـيرمي إلى مرضهِ أي الشلل النصفيّ و هو يطرد زفيرًا حارًا من بين شفتيهِ :
- أنا معرفتش أكمل تربيته ، اعتبرني متت عشان بقيت عاجز مش قادر له !
فـ جلست أمامه على الفراش و ابنتها مازالت في أحضانها ، ربتت بلطفٍ على كفهِ المجعد ثم تمتمت بعتاب لطيف:
- يا حاج متقولش كده ، ده ابنك بيحبك والله
فـ أشاح بكفهِ ساخرًا مما تقول :
- بيحبني .. ده أنا موتي على إيده ، حسبي الله و نعم الوكيل
فـ احتدت نبرتها :
- بتحسبن على ابنك يا حاج فتحي ؟
أشاح بوجههِ بعيدًا و هو يتمتم ممتعضًا :
- بلا بحسبن بلا مبحسبنش ، قفلي السيرة
قطبت حاجبيها مردفة باحتجاج :
- لأ يا حاج ، مش هقفل .. انت مبتطيقش ابنك و أنا عارفة ، ده.....
فـ قاطعها بنبرة محتدمة :
- عايزاني أعمل ايه ؟ آخده بالحضن !
ثم تبدلت نبرتهُ للعتاب الجاف :
- ناسية؟ ناسية يا ميرفت ؟
أدركت أنه لن يتخلى عن موقفه و سيعيد فتح الدفاتر القديمة ، فـ زفرت بانزعاج مجيبة بفتور:
- أه ناسية يا فتحي !
و احتدت نبرتها هي تُخفض رأسها لتلكز ابنتها بعنف :
- بت يا فرح ، قومي عشان تروحي تنامي في أوضتك
لم تستجب لها ، فـ لكزها بعنفٍ أشد و هي تهدر بـ تأفف :
- قومي بقى يا فرح ده انتـ..
فـنهرها زوجها هادرًا :
- بالراحة على البنت يا ميرفت ، قومي شيليها وديها أوضتها ، مش هتصحيها !
- أوف .. طيب
فـ حدجها بنظراتٍ مُستشاطة ثم قال مستوقفًا لها قبل أن تنهض:
- ناسية ان هي اللي باقيالي ، بعد ما ابنك قتل أخوه اللي كان حيلتي !
أدركت أن لا مفر من حديثه ، و أنه يبدو أنه احتبس بداخله تلك القصة المريرة ، و لكن بحلول الآن فـ ما كان ليصمت ، امتقع وجهها و هي ترد بنبرة حانقة :
- اللي راح راح يا فتحي
فـ أشاح بكفهِ مستهجنًا ما حدث:
- مكنش هيروح لولا ابنك اللي بموتي فيه ، ضيعلي ابني منه لله !
تقوست شفتيها بحزن ، و تجمعت الدموع في مقلتيها رغمًا عنها ، ثم أحنت بصرها عنه لتردف بآسى :
- ده عمره يا فتحي
ثم حملت صغيرتها و هي تستقيم بوقفتها متمتمة بنبرة خالجها القهر :
- بلاش نتكلم في الموضوع ده ، سيرته بتوجع قلبي يا فتحي ، كان المفروض أعمل ايه يعني ؟ أخسر ابني التاني كمان ؟ أبقى خسرت الاتنين ؟
فـ استند بكلتا كفيهِ على الفراش و بصعوبة اندس أسفل الأغطية ، و أطبق جفنيه و هو يقول ساخطًا :
- عمره ما هيتقفل طول ما ابنك عايش ، حسبي الله و نعم الوكيل
تنهدت بحرارة و هي تضم ابنتها إلى صدرها و بنبرة حانية مغيرة دفة الحديث :
- أحضر لك الأكل؟
فرد عليها بفتورٍ جلي :
- مش عايز ، اخرجي و خدي الباب في ايدك ، أنا هنام
نظرت نحوه بشجنٍ ، و ما كان منها إلا أن انصاعت لأمرهِ و تركته و انصرفت ، بينما انسدلت عبرة من بين جفنيهِ و هو يتمتم بـ قهرٍ :
- حسبي الله لا اله إلا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم
و انخرط في نوبة بكاءٍ صامتة ، فـ بفضل ابنهِ البكري قد أقبل ابنهُ الأوسط ذو الأربع عشر ربيعًا على المواد المخدرة حتى أُصيب بالإدمان و توفى اثر جرعة زائدة عن الحد نهشت خلاياه و أصابته في مقتلٍ ، من يومها و هو ناقم على ابنه البكري الذي لم يفتعل حسنةً واحدة بحياتهِ .. بل و أودي بحياة شقيقهِ الأصغر لمشاركتهِ فيما يفعل ، و بدون علم والديهما لفترةٍ طويلة ، أو كما يبدو .. بدون علمهِ هو فقط .
..................................................................
لم تكن لتترك حالها لتلك الحالة القانطة التي انتابتها و على حين غرّة ، باتت تعبيراتها أكثر تصميمًا و هي تستعيد صوتهُ الذي استمعت إليهِ قبل دقائق ، فـ اعتقدت بأنهُ مؤشر جيد لاستعادتهِ الوعي قريبًا ، استندت على الجدار لـتنهض و هي تكفكف دموعها ، ثم تحركت بخطى حثيثة حتى بلغت الحاجز الزجاجي الذي يُمكنها من رؤية ما يحدث بالداخل ، فكان الطبيب ينغز ابرة طبية بالمصل فلم تكترث و هي تمضي نحو باب الغرفة و فتحتها لتدلف و هي تقول:
- أنا هفضل هنا و مش هتخرجوني!
ارتبك فور أن استمع إلى صوتها ، حتى أنّ رجفة سرت بجسدهِ ، و تعالت نبضات قلبه ، و لكنهُ لم يتراجع عما يفعل ، لم يكن لينطق بحرف ، إن توارى وجهه خلف القناع الطبي فـ صوتهُ يعلم أنها سـ تتعرف عليهِ حتمًا،  ليست غبية إلى الحد الذي لا يُمكنها من التعرف عليه ، تغضن جبينها من صمتهِ على غير ما توقعت أنهُ سيحاول طردها و ابعادها عن الوسط ، و لكنها تفاجأت بهِ ينزع الإبرة الطبية بعد أفرغ  المادة السامة بـ المصل ليمتزج بالمحلول الطبيّ الذي يُغذي وريدهُ ، استدار و هو  ينظر بالاتجاه الآخر، متحركًا بخطى سريعة نحو الباب محاولًا مواراة وجهه عن عينيها التى تابعته بنظراتٍ ثاقبة متعجبة ، و لكنهُ رغمًا عنه نظر نظرة واحدة نحوها فـ فغرت شفتيها اثر الصدمة و حدّقت بهِ بـ ذهول ، كانت عيناه مألوفتان لديها و كأنها رأتهُ سابقًا ، حاولت اطالة النظر اليه و لكنهُ أشاح بوجههِ على الفور و هو يلج للخارج ، تابعتهُ بنظراتٍ متعجبة ثم رمشت عدة مرات ، هل يُعقل أنه فردًا من عائلته التي لم تلتقِ به كثيرًا و لكنها رأتهُ ذات مرة ؟
مرّت دقائق ظلت متيبسة محلها لا يصدر عنها ردّ فعل، محدقة في أثره، و قد لاحت فكرة ما في ذهنها، و شرعت تتسع في محاولة منها لحل تلك الأحجية.
قُذف الرعب في قلبها حين استمعت إلى صوت نبضاتهِ الصادرة من جهاز قياس ضربات القلب تتزايد ، ثم أصدرت الأجهزة الأخرى أصواتًا لم تتفهم مدلولاتها ، التفتت نحوهُ على الفور لينهج صدرها علوًا و هبوطًا ، شحب لون وجهها و هي تمضي نحوه ، تنقلت نظراتها على الأجهزة فـ لم تفهم شيئًا ، انحنت عليهِ قليلًا و هي تتمتم باضطراب راجٍ :
- لا لا لا متومتش .. متومتش ، استنى أرجوك ، متسيبنيش أعيش باقي العمر بالذنب ده ، أرجوك متموتش دلوقتي
- ميـــن اللي سمحلك تدخلي هنا ؟
التفتت نحو الطبيب الذي اقتحم الغرفة على حين غرة ، فـ هدرت بهِ بتشنجٍ واضح :
- انت عملت فيه ايه ؟ انت حطيتله ايه حصل له كده ؟
تغضن جبين الأخير و هو يدنوَ منها قائلًا بنبرة ممتعضة :
- حاسبي يا مدام لو سمحتي ، أنا مش عارف بتتكلمي عن ايه
ثم هدر بصوتهِ مناديًا على الممرضات ، بينما حدّقت بوجههِ و هي تردد بسخط :
- مش انت المسؤول عن حالته ؟ حطيت له ايه في المحلول ؟
فـ التفت نحوها ليردد بتأفف :
- انا المسؤول عن حالته و لسه داخله حالًا ، يبقى حطيتله حاجة ازاي ، اطلعي برا لو سمحتي خليني أشوف شغلي
حملقت بهِ بـ صدمةٍ واضحة بينما دلفن الممرضات لتقول احداهن باضطراب :
- ايوة يا دكتور
- هاتيلي حقنة "........" بسرعة
و أشار للأخرى آمرًا بـ :
- انتي خليكي معايا ، خليكو جاهزين لأي ....
لم تتابع قوله الذي تُرك ناقصًا بل كانت محدقة بعينيهِ .. بـ الفعل ليس نفس اللون حتى ، انتفض جسدها حين ابتلع كلماتهُ ليُشير اليها و هو يهدر بـ نبرة مستهجنة :
- و المدام دي بتعمل ايه هنا ، حد يطلعها برا
فـ اصطحبتها احداهن عنوةً للخارج بينما كانت تحيد ببصرها المشدوه لتحدق بجسده حتى التفنن من حولهِ فباتت رؤيتهُ أصعب ، حتى تركتها الممرضة خارجًا و دلفت لتتابع عملها .
.............................................................................
كان " عمر" يسير و هي من خلفه سالكًا الطريق نحو غرفة العمليات ، حتى بلغها ، فـ حدق ببابها قليلًا حتى رآى نفس الممرضة التي سلمت ملابسهُ له تسير بجواره فـ استوقفها متمتمًا بصوت جامد :
- متعرفيش هيخرج امتى ؟
فـ رددت بنبرة عملية :
- المريض اتنقل غرفة "..." في العناية المركزة عشان حالته مش مستقرة ، عن اذنك
و مضت في طريقها ، بينما هدرت " هدى" بصوتٍ محتد :
- العناية !
شملت المشفى و أركانها بنظراتٍ متأفف ثم تمتمت باشمئزاز :
- ابن هدى الرياني يترمي في عناية في مستشفى لوكال زي دي ؟ انت اتجننت عشان تعمل كده ؟
فـ التفت و هو يردد بنبرة ضائقة :
- يا ماما و ده وقته! مكنش قدامنا حل غير ده !
ثم حاوط كتفيها محاولًا امتصاص ضيقها مردفًا:
- خلينا نطلع نشوفه
تفاجأ بـ ذراعه يحول أمامه مانعًا اياه من التقدم خطوة و هو يردد بصوتٍ قاتم :
- على جثتي ان ده حصل !
...............................................................................
ترك كوب الشاي الذي كان يرتشف منهُ جانبًا ثم نظر للجالس أمامهُ ليُردف بمرارة :
- كل حاجة بتضيع من ايدي يا موسى .. كل حاجة
فـ أسند الأخير الكوب بعنفٍ و هو يردد بامتعاض :
- يعني انت ازاي تفكر في بنتك كده يا حسين .. مش كده يا أخي ، دي يارا مفيش في أخلاقها ، هو أنا هعرفك على بنتك بردو ؟
طرد زفيرًا حارًا من صدرهِ فبدا و گـ أنه ينفث نيرانًا ، فرك جفنيهِ بإرهاق قائلًا بفتور :
- خلاص بقى يا موسى .. متزيدش هم على همي يا أخي ، أنا مش ناقص
فـ صمت الأخير مُجبرًا و هو ينظر نحوه بعدم اقتناع بينما كان يردد :
- من ساعة ما ابن يوسف دخل حياتي و هي بتتهد ، لولا ان القتل جريمة كان فاتني مخلص عليه
فـ لم يصمت حينئذ و هو يعنفه :
- انت هتعيده تاني يا حسين ؟ مش كنت هتقتله جت في بنتك و كانت هتضيع ، ما تهدى بقى يا أخي و تفكر بعقل شوية
أشاح بكفهِ قائلًا بعتاب اختلج نبرتهُ :
- يعني مش شايف اللي أنا فيه ؟
فـ تقوست شفتيه باستهجان :
- ايه اللي انت فيه ؟ حسين انت المفروض تحاول تخلص بنتك ، مش تجيب الذنب عليها !
ارتفع حاجب الأخير باستنكار بينما تابع الأخير :
- تقدر تقولي انت عملت ايه عشانها ؟ تعرف هي عايشة دلوقتي ازاي؟ عارف جوزها ده بيعاملها ازاي ؟ تعرف هي عايشة و لا ميتة أصلًا
فـخرج عن صمتهِ مردفًا بشجب :
- يعني شايف في إيدي حاجة أعملها و معملتهاش ؟
- دي مشكلتك ! مستني الفرصة تيجي لحد عندك ، انت محاولتش تعمل أصلًا عشان تـ....
فـ نفخ الأخير و هو يستقيم في وقفته مقاطعًا بتأفف :
- يــــوه .. أنا ماشي
فوقف الأخير و هو يردد بقنوط :
- يا ابني اسمعني بقى و متبقاش كده
فهدر و هو يسحب هاتفهُ و سلسلة مفاتيحه :
- مش عايز أسمع حاجة
ثم فتح حافظة نقوده و أخرج مبلغًا نقديًا و تركهُ على الطاولة و بتهكم أردف :
- لما تبقى تلاقيلي حل ابقى كلمني ، عشان أنا مش فايق أسمع كلام ملوش لازمة .
ثم تركه و انصرف مبتعدًا عن المحيط بأسرهِ .
...................................................................................
كان الأخضر هو السائد ، و گأنها الجِنان .. سعف النخيل بـقامتهِ الشامخة يحفّ الأراضي من بعيد ، الكلأ الأخضر يبتلع الأراضي بأكملها من أسفله ، أشجار بكافة الأنواع و الأشكال هنا و هناك ، غصونها ممتدة مُتشابكة معًا، و فروعها تلوح في مظهرٍ بديع، نهرٌ لم يرى مثيلهُ رؤيا العين .. مياههِ صافية تنعكس عليها آشعة الشمس التى نُسِجت گخيُوطٍ من حرير فـ تلألأت صفحتهُ النقية ، هواءٌ لم يتنفس مثله من قبل أشرحَ صدره:
- يامن
استمع لصوته الذي يحفظه عن ظهر قلب ، فـ التفت على الفور ليجده خلفه بـ الضبط ، شعّت حدقتاه شوقًا و هو يتمتم بصوت حانٍ:
- بابا !
على عكس المرةِ الماضية ، كان ثغرهُ مفترًا بابتسامة هادئة ، نظراتهُ حانية ، تلك المرة كان يقول :
- وحشتني يا ابني
ازدرد ريقه و هو يخطو خطوة نحوه :
- و انت .. و انت كمان وحشتني ، خدني معاك يا بابا
فـ استوقفهُ متمتمًا و هو يهز رأسه نفيًا :
- مينفعش يا ابني
فـ زفر " يامن" بحنق قبل أن يُردف بامتعاض :
- ده مش مكاني يا بابا ، مش عايز أسيبك تاني ، أنا عايز أكون جمبك
- بس في حد محتاجلك يا ابني ، حد مينفعش تسيبه
تغضن جبينه قائلًا بفتور :
- عمر مش صغير دلوقتي ، و فارس موجود و ..
فتمتم بنبرتهِ الهادئة :
- مش عمر يا ابني .. حد محتاجلك أكتر مننا كلنا ، حد انت غلطت معاه و لازم تصلح غلطك ، لازم ترجع
فسأله متشككًا بعدم فهم:
- قصدك مين ؟
فـ أشار خلفهُ و هو يقول بجدية :
- هي
التفت الى حيث أشار فـ كانت هي .. كانت تجلس أمام النهر تجمع المياه الصافية بين كفيها و ترتشف منها ، و گأنها أسرته فـ ظلّت نظراتهُ معلقة بها ، تأمل ملامحها الهادئة غير الذابلة على غير المعتاد ، خصلات شعرها المنسابة على كتفيها ، تدارك نفسه سريعًا فـ حاد ببصره عنها ليلتفت اليهِ قائلًا بقنوط جامد :
- هي مش عايزاني يا بابا و....
مرّ من جوارهما شخصًا يرتدي ملابسًا سوداء ، و مواريًا رأسهُ بقلنسوةٍ بذات اللون ، فـ تعلقت نظرات " يامن" بهِ لم فلم يُبالي كثيرًا ، عاد ينظر نحو والده و هو يقول بصوتٍ حاد :
- أنا بعترف اني ظلمتها و حاولت أ.......
صوت صرخاتها جعل فؤاده و كأنهُ انخلع من محله ، فـ التفت نحوها ليجد نفس الشخص يدفعها بعنفٍ من كتفها لتهوِي في النهر العميق ، شُده مما حدث بينما كان والده يردد هلعًا :
- الحقها يا ابني بسرعة
فـ لم يكن لينتظر قوله ، أوفض نحو النهر و هو يبحث عن ذلك الشخص و لكنه اختفى ، فلم يكترث سوى بانقاذ حياتها ، قفز بداخلهُ على الفور ليعمّ الظلام التام ، و هو يسبح للأسفل عبر تجويف النهر باحثًا عنها و لكن لا أثر لها ، عمّ الصمت لبعض الوقت و هو يتلفت هنا و هناك بحثًا عنها ، حتى استمع إلى صوتها أقصى اليسار ، فـ سبح نحوها ليجد ذلك ما كان إلا سرابًا ، أخذ الظلام يتمكن من الوسط رويدًا رويدًا حتى احتلّه بالكامل و ظل هو ينقب عنها و قد صارت الرؤية أصعب لديهِ ، كان يسبح إلى الأعمق فـ الأعمق حتى بات ذلك أكثر صعوبة ، فرغت رئتيهِ من الأكسجين تقريبًا فشعر بتشوش الرؤية حتى انعدمت تمامًا ،  ظل يُصارع حتى يحتفظ بوعيه و لكن هيهات ، فقد ثقل جفنيهِ متأثرًا بالاختناق الذي أصابهُ حتى توقف تمامًا عن الحركة و تخشب جسده وسط تلك المياه العميقة التي بدت و گأنها ابتلعت جسده بداخلها .
.......................................................................
حالة من الهرج و المرج سادت في ذلك الطابق ، الحالة تزداد سوءً و لا يتمكن أحدهم من السيطرة عليها ، حتى أنهُ تم استدعاء كبير الأطباء علّه يتمكن من استرداد روحه من مخالب الموت .
بينما كانت تتابع ما يحدث بالخارج ، فاضت عيناها بالدموع متأثرة بتلك الحالة التي انحدر اليها فـ بدا و كأن بينهُ و بين الموت شعرة واحدة ، صوت صفيرًا مُطولًا صدر عن جهاز قياس النبضات جعل جسدها يتخشب في محله و هي محدقة بهِ ، اتسعت حدقتيها و فغرت شفتيها بصدمةٍ ، تصارعت نبضاتها معًا و كأنهُ سيخرج من محله ، كتمت شهقاتها بكفيها و هي تتمتم بصوتٍ غير مستوعِب:
- لأ!
....................................................
...........................
....................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now