"الفصل العاشر"

731 12 4
                                    

" الفصل العاشر"
حينها لم تكن قد مسّت قلبي .. لقد توغلت لأنسجتهِ حتى باتت بين دقاتهِ
___________________________________________________
شفاهُهما قد فُغرت من فرط الصدمة ، و الأبصار قد شُخِصت ، و قد كان الأعظم تأثيرًا " حبيبة" شعرت و كأن دلوًا من الثلج سُكب فوق رأسها ، تثلجت أطرافها تمامًا فلم تعد تشعر بهم ، قشعريرة سرت في جسدها تجلّت بارتعاشة كفيها و ذلك الشحُوب المُفاجئ الذي أصاب بشرتها أنبأك أنها قد تفقد الوعي من فرط ما شعرت بهِ آنذاك ، حركت حدقتيها نحوه ترمقهُ برجاءٍ و كأن الحل بين يديهِ ، متناسية تلك المُشادة التي نشبت بين كلاهما من دقائقٍ معدودة ، و لكنهُ لم يكن ينظر نحوها ، تدارك الأمر و شرع ذهنهِ يُحلل ما قيل ، تلاشى تأثير الصدمة تدريجيًا حتى باتت تعبيراته أقرب للجدية ، تحركت شفتيهِ ليتفوّه بنبرة شبه مُهتزة :
- بنتي ؟ حضرتك أكيد في غلط في الموضوع و ....
فقاطعهُ الضابط بنبرة خالية من التعاطف :
- يارا الحديدي مطلوب القبض عليها لمحاولة قتل زوجها " يامن الصياد"
كتمت شهقتها المصدومة بكفِها و قد شعرت بدقات قلبها تصمّ أذنيها ، بينما تغضن جبينهُ و هو يردد مشدوهًا :
- ايـه ؟ انت بتقول إيه يا حضرة الظابط ؟
فـدفعهُ بغلظةٍ داحرًا إيّاه عن طريقهِ و هو يهدر بمن حولهِ يأمرهم بـ:
- فتشوا البيت و هاتوها !
....................................................................................
كان مُدركًا حق الإدراك أن ما يفتعلهُ مجرد محاولة واهية .. أن يبحث عن ابن عمهِ في بِقاع القاهرة كمن يبحث عن إبرة في كومة القش، ترك سيارتهِ بالجراج الخاص بالمشفى و ترجل عنها ، و تبعهُ فردين الحِراسة ، كان جفنيهِ منتفخان حمراوين من اثر الإجهاد ، يومين لم يزر النوم بهما جفنيهِ و لو دقيقتين فقط ، مرّ أولًا على المقهى الخاص بالمشفى ليبتاع كوبًا من القهوة يُنشط خلايا ذهنهِ التي نفذ طاقتها و باتت تحتاج للراحة ، سحب كوب القهوة و مضى مبتعدًا ، استقلّ المصعد و هو يرتشف من كوبهِ بالرغم من تلك الأدخنة المُنبعثة منه ، و لكنهُ لم يكن ليكترث كثيرًا لسخونتهِ التي أصابت لسانهِ ، لم يتلذذ بطعمهِ و لم يشعر بهِ من الأساس ، فقط كـ شئ يؤدي غرضه و سيتخلص منه ، انفتح بابيّ المصعد و قد بلغ الطابق المنشود فخرج منهُ متوجهًا نحو غرفتهِ ، و حالما وصل حتى بابها كان قد أنهى تقريبًا نصف مشروبهِ الدافئ ، مر أولًا على الطبيب ، زفر أنفاسهِ المختنقة و هو يستوضح بإحباط :
- يعني مفيش أي تحسن ؟
زمّ الطبيب شفتيهِ و هو يسير بجوارهِ في الرواق ثم قال :
- للأسف .. بس مش عايزك تقلق يا فارس بيه ، ده شئ متوقع خاصةً بعد التسمم اللي حصل ، أكيد مكناش متوقعين إنه يفوق بين يوم و ليلة!
تأفف ضجرًا من ذلك ، خلل أصابعه بخصلاته معيدًا لها للخلف ، ثم دس كفه بجيبه و هو يقول بنبرة ثابتة :
- أكيد مش متوقع إنه يفوق ، لكن على الأقل مؤشر للتحسن !
فـ لم يكفّ عن تفاؤلهِ و هو يلوى ثغره ببسمةٍ بسيطة مردفًا بصوتٍ عذب :
- ان شاء الله خير ، اللي قادر ينجيه من موت محتوم .. قادر على كل شئ يا فارس بيه
ضمّ شفتيهِ معًا قبل أن يحيد ببصرهِ عنه متمتمًا بصوتٍ خافت أعقب تنهيدة مُطولة :
- و نعم بالله !
استطرد الطبيب و هو يحك بسبابتهِ فكه :
- بيقولوا ان زمن المعجزات انتهى .. رغم إني و الله شايف إن المعجزات مبتخلصش
تغضن جبينه و هو ينظر نحوهُ مستفهمًا فكان يسترسل حديثه الرخيم :
- شغلنا علمنا كده .. المعجزات مبتخلصش ، يمكن كان المريض مكتوب له الموت .. لكن بدعوة متصدق اتصدق لهُ المريض قبل الحادثة انه ربنا يطول في عمره  نجيته !..بيقولوا ان " لكل أجلٍ كتاب" و ده طبعًا صح ، لكن المكتوب ممكن يتغير مش زي ما الناس فاكرة .. المكتوب مكتوب و الكلام ده في الفاضي ، ربنا سبحانه و تعالى قادر يغير المكتوب ده .. و بالدعاء المكتوب بيتغير ، الدعاء بيتولد من رحم الأمل .. لو مفيش أمل و لو بنسبة 1% الإنسان مش هيدعي ، و الأمل بيتولد من رحم الإيمان و الثقة في الله كلها دائرة متصلة !
فاغرًا فاهُ و كأنه لم يستوعب كلمةً واحدة مما قِيلت .. و هجدهُ الليل كان كافيًا ليُعطّل تروس ذهنهِ ، رمش بعينيهِ عدة مرات فتعجب الطبيب صمتهُ ، التفت فـ إذ بهِ يجدهُ هكذا اتسعت ابتسامتهِ و هو يردد مومِئًا برأسهِ :
- سوري يا فارس بيه ، الظاهر إني اندمجت شوية !
فرك جبينهُ قبل أن يفتر ثغره بابتسامة ساخرة :
- أنا اللي دماغي مش مستوعبة أي حاجة !.. طب على الأقل ينفع أشوفه
كانا قد وصلا تقريبًا حيثُ غرفتهِ ، كانا ينعطفان يسارًا بينما كان الطبيب يُجيبه :
- حاليًا مفيش مانع بما إن الحالة مستقرة .. رغم إن مفيش تحسن ملحوظ
مرّا من أمام الحاجز الزجاجي فأدار الطبيب المقبض و خطى نحو الداخل ، بينما تعلّقت أنظاره بشئ حين نظر خلالهِ جعل قدماه تتسمران بمحلهما ، تصلب جسده بالكامل و قد غزت الصدمة تعبيراتهُ ، حملق بالحاجز الزجاجي قبل أن تنفرج شفتاه بابتسامة عريضة هاتفًا باسمهِ بتهدج من بين شفتيهِ :
- يامن !
..................................................................................
- حصلت مشكلة جامدة بينهم ، أوضتي في نفس الدور ، لما سمعت صوت التكسير و الصريخ من أوضتهم روحت أشوف في إيه ، و الحال انهُ كان بيواجهها باللي عرفه عن خيانتها ليه مع ابن خالها ، لما أدركت انه كشفها ، قتلته !
ليس هُو حتمًا.. ليس ذلك الفرد الذي اعتقدتهُ من قبل يملك قلبًا على عكس أخيه و باقي أفراد عائلتهِ، و لكنهُ سيفعل أي شئ في سبيل ردّ إنتقامه لأخيه من تلك الفتاة التي كادت تودي بحياته، فتحرمهُ من والدهِ مجددًا، و إن كان سيختلق كذبًا، و يؤلف القصص من أجل فقط أن تخمد نيرانهِ المندلعة بين أضلعهِ.
"عُمر".. الذي شعر من قبل بخطأ أخيه نحوها، و لامهُ على ما ارتكب في حقّها، و اقترافهِ ذنب لم يغتفر، أضحى الآن آخر، أضحى أشد شراسة، برزت أنيابهِ و قد استعدّ لغرسها و اجتثاث أوردتها فقط من أجل أخيه.
تقلّصت أنامل "عُمر" على المقود و قد شعر بالحميم ينساب بتريّث مميت في أوردته، فـ بدا وجههُ ككتلة متوهجة من النيران الملتهبة، تكررت جملتهِ تلك التي رددها قبلًا في المخفر و هو يدلي بأقوالهِ على أذنيه ،فـ شعّت عيناهُ حِقدًا و هو يردد متوعّدًا إياها بشراسة مريبة:
- إن ما خليتك تتعفني في السجون مبقاش أخو يامن الصياد
حكّ بكفه الآخر جلد عنقهِ، و قد لاح على أطراف شفتيه ابتسامة قاتمة، سحب هاتفهِ عن المقعد المجاور، نظر في شاشتهِ عقب أن لاحظ اهتزازتهِ المستمرة، اعتقد في البداية "فارس" كما هو الحال منذ مدة، و لكنهُ وجد آخرًا، فقرر أن يجيب، و تلك الابتسامة المريبة لا تفتؤ تحتلّ شفتيه:
- لأول مرة في حياتي.. عايز أشكرك يا أمي!
« تناهى إلى مسامعهِ همسٌ متردد بإذنه إلى أذنه، عقب أن قرر مغادرة قسم العناية الفائقة، و الانتقال للمقهى الخاص بالمشفى عقب أن شعر أن النوم يزحفُ إلى جفنيه، سحب "عُمر" كوبهِ البلاستيكيّ، و همّ بالمغادرة، و لكنه أصغى إلى الصوت الذي بات أكثر دقة، حتى التفت يمينًا ليجد عمّه أمامه، تغضن جبينه و هو يردد:
- ماما؟
و غيّر وجهتهِ ليخطو نحوه أثناء نطقهِ:
- بتعملي إيه هنا الوقتي؟
- هقولك
سحبتهُ "هدى" من مرفقهِ لتدحر به عن هنا قبل أن يلمحهما "فارس"، حتى بلغ به منطقة تكاد تكون نائية عن البشر، فسأل "عمر" بنفاذ صبر طفيف و هو يجتذب ذراعه:
- في إيه يا ماما؟
زمّت "هدى" شفتيها، ثم سألت بشئ من الريبة لما ستتلقاهُ عن حالة ابنها:
- يامن.. عامل إيه؟
فقابل سؤالها بسؤال أثار فضولهِ:
- انتي عرفتي مكاننا إزاي؟
تنهدت "هدى" بضيق، مُعقّبة:
- مش مهم ده دلوقتي، قولي.. أخوك عامل إيه؟
أومأ "عمر" و هو يفيض القول إليها بـ:
- حالته مستقرة، لكن مش عارفين هيفوق امتى
فقالت "هُدى"و قد غلّفت الضغينة نبرتها، و انبثقت نظرة حامية في عينيها:
- هي السبب، هي اللي عملت كده في أخوك، لازم تتعدم على عملتها!
ضاقت عيناهُ و هو ينظر صوبها بشئ من الاسترابة، فتابعت "هُدى" مؤنّبة إياه:
- أخوك عمل كل حاجة عشانك يا عمر، مش مستعد تعمل حاجة عشانه؟
- قصدك إيه؟
ارتفع ذقنها و قد بدت في عينيها نظرة قاتمة، ثُم قالت باحتدام:
- قصدي ترجع لهُ حقه من اللي وصلته للحالة دي
و تريّثت أثناء متابعتها، و قد انفرجت شفتيها بزاوية ابتسامة:
- و أنا هقولك إزاي!»
............................................................
 
استعانت بنثر حبّات المياه على وجهها عسى أن تعود إلى وعيها عقب غِيابها المؤقت عنهُ لما أصابها من صدمةٍ عصفت بها كانت كافية لتنتشل منها الوعي بتلقيها ذلك الخبر المُفجع الذي لم تكن لتتخيل أنها ستستمع إليهِ ، خبر حلّ كـ الصاعقة على ابنتها التي باتت النوائب تُحيطها كـدَائرة و هي تقبعُ بـ منتصفها تنتظر يدًا لن تمتد إليها و عصًا لم يُكتب لها التوكأ عليها .. لم تجد منها أي استجابة فقُذِف في قلبها الرعب ، حتى أنها لم تنتبهِ إلى انسدال الدموع من عينيها و هي تهدر منادية عليها من بين شهقاتِها :
- ماما.. أرجوكي اصحي ، ماما !ردي عليا ، متقلقينيش أكتر من كده ، أرجوكي ، مامـا !
جثى على ركبتيهِ أمامها و هو يردد بصرامةٍ أجفلتها دافعًا كفيهِ عنها :
- حاسبي و اهدي !
انتزع غِطاء قنينة العطر ثم نثر منهُ على كفهِ بغزارة ، قرّب كفه من أنفها فتشنجت عضلات وجهها ، فهللت " ولاء" قائلة من بين تهدج أنفاسها :
- شكلها هتفوق يا بابا
استمر فيما يفعل بينما أُذنيهِ تلتقطان الحديث من حولهِ لأولئك الغير مباليين مُطلقًا بما حل بتلك السيدة :
- مفيش أثر ليها يا فندم
زفر الأخير حانقًا و هو يحك بسبابتهِ ذقنهِ ، وجه أبصارهُ نحو " حسين" ثم ردد و هو يدنوَ منه :
- هي فيـن ؟
فكان ردهُ جامدًا بدون أن يلتفت نحوه :
- معرفش
كزّ بعنفٍ على أسنانهِ مشددًا على عضلات فكهِ حتى تشنج .. ثم ردد من بين أسنانهِ المُطبقة :
- هي فين يا حسين؟
رفع أنظارهُ نحوه و قد أظلمت نظراتهُ ، ناول قنينة العطر لـ "ولاء" التي ازدردت ريقها و هي تتابع ما يحدث بأنظارٍ متوترة ، سحبت القنينة منه و تناوبت عنهُ في محاولة افاقتها ، و أنفاسِها متهدجة ، صدرها ينهج علوًا و هبوطًا من فرط الهلع .. تحكم بصعوبةٍ في نبرتهِ و هو يهب واقفًا على قدميهِ مردفًا بثبات :
- المفروض اني أعرف مكانها ازاي و هي كانت في بيت جوزها ؟ مش الجريمة اللي اتهمتوها بيها إنها قتلته ؟ يبقى ازاي هنا ؟
عقد الأخير ساعديه أمام صدره و هو يمرر نظراتهِ على وجهه محاولًا سبر أغوراه ثم استطرد :
- و اللي متعرفوش انها كمان كانت معاه في المستشفى.. و هربت !
حاد ببصرهِ عنه و هو يقول ساخطًا :
- و الله و أنا مشوفتش خِلقتها من يوم ما اتجوزت ! مش هروح أخبيها في بيتي كمان بعد جريمتها !
ارتفع حاجبيه استنكارًا لما يتفوّه بهِ و قد بدا لهُ أن الأب و الإبنة أقرب للأعداء ، أومأ برأسهِ و هو يردف ساخرًا عقب أن حلّ ساعديهِ :
- هعمل نفسي مقتنع باللي سمعته ، و بنتك هنوصلها بطريقتنا !
أشار لمن حولهِ فانسحبوا تِباعًا من المنزل ، بينما ظلت تلك النظرات الغير مفهومة تتبادل فيما بينهما ، حتى مرّ من جوارهِ فافترّ ثغرهُ عن الابتسامة الماكرة انحنى عليه قليلًا ليتظاهر بأنهُ ينزح ذرة غُبارٍ عن كتفهِ ، ثم مال عليه يفح بإذنهِ هامسًا :
- كمال بيه بيبلغك سلامه يا.. يا حسين!
توهجت عيناهُ بدرجةٍ كبيرة ، أمال نظراتهِ ليحدق به بجمرات عينيهِ فـ كان يمضى من جوارهِ و تلك الابتسامة لا تُفارق شفتيهِ :
- سلام يا حسين !
و انصرف صافقًا الباب خلفه ، بينما كانت مُحدقة بهِ متعجبة ذلك التغيير الذي طرأ على ملامحه فهتفت بارتياع:
- بابا هو قالك ايه ؟
كوّر قبضتيهِ حتى ابيضت مفاصل أصابعه ، ثم زمجر غاضبًا و هو يلكم به المنضدة الصغيرة فسقط ما فوقها مُتهشمًا ، انتفضت و هي تصرخ هلعًا بينما كان يهدر بصوتهِ و كأنهُ جُن :
- ابن الـ××××× عايز إيه مني و مين عيلتي ؟ مش كفاية سيبتله البلد كلها و ضيعت سنين عمري بعيد عن أهلي ، هو أنا مش هخلص من العيلة دي بقى ؟
لم تتمكن من إدراك ما حلّ بهِ ، و لكن الذعر فقط متملكًا منها ، هيئتهِ تلك لم ترها من قبل ، ما كان منها إلا أن انحنت على والدتها التي كانت تستمع إلى ما يدور حولها ، و لكنها غير قادرة على تفريق جفنيها ، مُحتجزة في حالة ما بين الوعي و اللاوعي ، أحاطتها لتسكن أحضانها و دفنت وجهها في كتفها و هي تجهش ببكاءٍ حار ، لا تعلم عن سببهِ المُحدد.. ما آلت إليهِ عائلتها ، ما أُلحق بوالدتها ، أو ما ارتكبتهُ شقيقتها و كونها بين صفوف المجرمين و الأقسى أنها فرّت من الشرطة و الآن هي تُلاحق من قِبلهم ، أو حالة والدها الذي شرع يُطيح بكل ما أمامهُ فاقدًا القُدرة على التمييز ، أو تبكي بكائها الناجم عن عجزها عن تقديم يدِ المُساعدة إلى أيّهم ، فـ ما كان منها سوى النحيب المكتوم، بالإضافة إلى كونها تشعر حاليًا أنها حرفيّا.. عاجزة!
..................................................................................
ما ظنّته أن زوجها يغطّ في سبات عميق، و لم تكن تتخيل أنهُ متيقّظًا على الرغم من كون الوقت لا يزال باكرًا، و لكنها وجدته في انتظارها في البهو، نهض "كمال" عن جلستهِ فور أن رآها أمامه أخيرًا، ثم سألها باستهجان:
- يعني إيه تخرجي الوقتي يا هدى؟ انتي اتجننتي؟
تقوست شفتيها و هي تردد بلا اكتراث، معيدة خُصلة من خصلاتها للخلف:
- فيها إيه يعني يا كيمو!
دقق "كمال" النظر في ملامحها، و قد بدا مستريبًا بخصوص أمر موتهِ، يخشى أن يكون انتُشل من مخالب الموت، فسأل بتوجّس كمن خلف جديّة نبرته:
- انتي عرفتي حاجة عن ابنك؟.. كنتي عنده؟
هزت "هدى" رأسها بالسلب، ثم قالت نافية ذلك:
- لأ.. معرفش عنه حاجة
و احتدت نبرتها و هي تتوسط خصرها بكفيها، قائلة:
- و هعرف حاجة عنه ازاي و انت ابنك نقله كمان من المستشفى، و رافض حتى يرد على مكالماتي
تنفّس "كمال" الصعداء و قد شعر بشئ من الارتياح، على الأقل لم يستمع لأخبار جيّدة عنه، ذلك يكفي.. أما أمر وفاتهِ فسينتشر كانتشار النار في الهشيم، و يكون قد تخلص من تلك الفتاة ابنة عدوّه، فيكون كما يقولون.. من قذف طائرين بحجرٍ واحد.
و لكن سريعًا ما اشتدت ملامحه و قد انعقد حاجبيه، ثُم سأل باستنكار:
- و لما انتي متعرفيش عنه حاجة، كنتي بتعملي إيه برا الساعة دي!
 مش فايقة لأي حاجةReally- كيمو.. أنا راجعة تعبانة و
و زيّفت التثاؤب فغطّت ثغرها بكفها، ثم لوحت بهِ في وجههِ ببرود تام:
Good night- عايزة أنام،
و خطت نحو الغرفة بارحة محلّها، بخطى رشيقة، تغضن جبين "كمال" و هو يتابعها بنظراتٍ متقدة، ثم غمغم بكلماتٍ تنُم عن سخطه، و لم يتوقف لديها كثيرًا، بل أن تفكيرهُ تطرّق لذلك الذي يعتقد وافتهُ المنيّة، و يتربّص أن يصله ذلك الخبر لكي تُخمد نيرانهِ المتأججة.
.........................................................
و كأنهُ لم يكن يُجابه ملك الموت منذ سُويعات قليلة ، ارتفع كفهُ الموصول بالإبرة الطبيّة و هو يجتذبها بكفهِ الآخر إليهِ حتى بلغ عُنقها ، فقبض عليهِ بعنفٍ و قد بدت عيناهُ و كأن الجحيم استعرّت نيرانه بهما ، حدجها بنظراتٍ عينيهِ المُطلقة شُواظًا و هو يُردد هادرًا بصوتهِ القاتم :
- انطقي فيـن مراتي ، عملتوا فيها إيــه ؟ انطقــي !
تثلّجت أطرافها تمامًا و قد تسارعت نبضاتها فـ امتزجت مع صوت نبضاتهِ الهادرة عن جهاز النبضات فـ أُثير الرعب أكثر في نفسِها و بدا و كأنهُ ينخر عِظامِها ، كانت أصابعهُ تنطبق على عنقِها أكثر فشعرت بهِ يكاد يُتهشم بين قبضتهِ ، حاولت الحديث فخرج صوتها مُتلعثمًا ممتزجًا مع هلعِها المُبرر :
- مـ..معرفش.. معرفش بتتكلم عن إيه !
و ليتها ما تحدثت ، حيثُ دوى صوتهِ گالرعد في أرجاءِ الغرفة و أصابعه تنطق أكثر و أكثر على عنقها :
- انطقــــي
اصطبغَ وجهها بـ الزُرقة التي طالت شِفاها ، ذلك الجحيم الذي رأتهُ بين حدقتيهِ لم تكن لتنساهُ ما حييت ، سـيظل مُرافقًا لها بأحلامِها و يقظتها كـكَابوسٍ مُزعِج إن كُتب لها الحياة ، جحظت عيناها فـ بدت على بُعد إنشًا واحدًا من الموت ، ثانيتين كانتا تفصل بينها و بينه ، ما كان لها مُنقِذًا هو فتح الباب على حين غرّة ، فلم يحيد بنظراتهِ عنها ، كاد الطبيب يصيح مهللًا لإفاقتهِ الغير متوقعة بالمرة و التي لم يُحسب حسبانها ، و لكن تلاشى ذلك تمامًا ، فـ إفاقتهِ لم تكن خيرًا .. بل كانت نيرانًا تطال ما حولها مُلتهمة إيّاه ،فيضانًا يجتثُّ الأخضر و اليابِس ، احتلّ الرعب قسماتهِ و هو يهرول مقتربًا منهُ مرددًا بارتياع :
- باشا !
حاول عبثًا الفصل بينهما ، و لكنهُ بدا و كأن أصابعهُ قد التصقت بعنقها ، ازدرد ريقهُ و هو يردد راجيًا :
- اهدى يا باشا ، البنت عملت إيه بس يخليـ....
قاطعهُ بصوتهِ الجهوري بدون أن يحيد بنظراتهِ عنها:
- فيـن مراتـــي ؟
- مراتك اللي كانت السبب في اللي انت فيه ، مراتك اللي كانت هتقتلك من غير ذرة ندم واحدة !
 أرخى أنامله تدريجيًا عنها حين اخترقت أذناه صوته ، شرع ذهنه يحلل كلماتهِ فعادت بهِ ذاكرتهِ إلى ذلك الحدث ، ترك عنقها أخيرًا دافعًا لها بعنفٍ للخلف فـ ارتد جسدها و تعثرت ، كادت تسقط و لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة ، سعلت عدة مرات  و هي تحاول التقاط أنفاسها ، كانت عينيها جاحظتين بدرجةٍ ملحوظة و هي تُحيط بكفِها الرقيق عنقها و تلك العلامات البارزة التى تركتها أصابعه الغليظة عليها ، سارع الطبيب بمحاولة تهدئتها و هو يقتادها بعيدًا عن ذلك المُحيط بارحًا الغرفة يردد بنبرتهِ المُضطربة:
- اهدي يا رحمة ، اهدي.. معلش هو مش في وعيه !
حاولت التقاط أنفاسها فـ استصعبت ذلك ، ظلت متسعة العينين حتى انسدلت الدموع منهما و هي تردد غير مُصدقة أن حياتها كانت على المحك :
- مش مصدقة اللي حصل لي .. أنا .. أنا كنت هموت على ايده
ربت على كتفها برفقٍ ثم نادى إحدى الممُرضات التي أصابها الذهول من حالتها ، أودعها لديها ، ثم استوفض عائدًا للغرفة..
 كان " يامن" مُحدقًا بهِ بشراسةٍ  هو يدنو من فِراشه متابعًا تهكمه :
- مراتك اللي مكفهاش الي عملته ، حطيتلك سم في المحلول بعد ما ضمنت إنك هتعيش !
كزّ بعنفٍ على أسنانهِ متجاهلًا تلك الآلام التي تكاد تفتك بهِ ، تشنجت عضلات جسدهِ بالكامل و هو يجأر بصوتهِ المُستهجِن:
- انت بتقول ايـه ؟
تلاشت السخرية عن ملامحهِ ليحل التجمد محلها و هو يقول :
- بقول اللي حصل ، البت كانت هتخلص عـ....
فقاطعهُ بصوتٍ دوى كـ الرعد في أرجاء الغرفة :
- متقولش بت !
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا و هو مُحملقًا بهِ بشدوه ، بينما الأخير يُكافح حتى يتمكن من الاستيعاب ، ذلك الكمّ من الاحداث المُخزّن بذهنهِ ، كمّا مُختلطًا ما بين الواقع و الخيال ، الحقيقة و الأحلام فبات غير قادرًا على التفريق بينهما ، لم تؤلمهُ جِراح صدرهِ كما اشتدت الآلام برأسهِ  حتى كادت تفتك بها ، تأوه بخفوتٍ و هو يعتدل في جلستهِ نازعًا تلك الأسلاك الموصولة بصدرهِ العاري إلا من الشاش الطبي الملفوف حول جرحه ، انتفض " فارس" و هو يدنو منه مرددًا باستنكار :
- انت بتعمل ايه بالظبط ؟
دفعهُ بعيدًا و هو يحدجهُ شزرًا هادرًا بنبرةٍ صارمة :
- حاسب
أخفض ساقيهِ و كاد يستقيم واقفًا و ما لبث إلا أن تهاوى جسدهِ مرةً أخرى فوق الفراش ، دفن رأسهُ بين كفيهِ مستندًا بمرفقيهِ إلا ركبتيهِ وهو يكز على أسنانهِ متألمًا مشددًا على عضلات فكهِ محاولًا ألا يصدر عنهُ صوتًا.
أصواتٍ.. أصوات لا تكف عن الثرثرة برأسهِ ، و خيالاتٍ تمر أمام عينيهِ ، أطياف أشخاص منهم من يعلم و آخرون جاهلًا بشخصهم ، صوتها .. صوت والدهِ.. صوت والدتهِ .. صوت عمهِ البغيض.. و أصواتًا أخرى .. كلٌ اختلط برأسهِ ، راقبهُ " فارس" بنظراتٍ زائغة ، دنا منهُ و جثى أمامهُ على ركبتيهِ ، زمّ شفتيهِ قبل أن يتحدث بصوتهِ الهادئ :
- يامن .. اهدى .. اهدي أرجوك ، لازم تهدى ، مينفعش تتحرك و انت في حالتك دي !
أطبق جفنيهِ بقوةٍ مُستشعرًا ذلك الشعور البغيض .. شعور العجز، و كأنه مُقيدًا بأغلالٍ من حميم ، نهج صدرهُ علوًا و هبوطًا و هو يُزيح كفيهِ عن وجههِ فكانت الرؤية شبه مُشوشة ، رمش عدة مرات حتى اتضحت ، فردد مُقتضبًا :
- هي فين ؟
زفر أنفاسهِ الحارقة و هو يستقيم بوقفتهِ قبل أن يجيبه بإيجازٍ قاتم :
- هربت .. هربت بعد ما عرفت إنها اتكشفت و إن الشرطة قالبة الدنيا عليها
كانت كلمتهِ المُقتضبة حافزًا لخلاياه ، فـ تمكن من الانتصاب في وقفته  مُجتذبًا إيّاه من تلابيبهِ تاركًا لسخطهِ العنان و نظراتهِ المُتقدة تنغرس بحدقتيّ الأخير :
- هي دي الأمانة اللي سلمتهالك .. هي دي الأمانة اللي وصيتك عليها !
لم يحاول أن ينزح كفيهِ عن ياقتهِ تاركًا العنان لهُ عسى لسعير روحهِ أن يهدأ ، و لكنهُ دافع عن حالهِ قائلًا بصوتٍ مُستهجن :
- مستحتقش.. متستحقش إنك تأمنّي عليها ، متستحقش أحميها و هي كانت هتقتلك !
تمتم من بين أسنانهِ المُطبقة بنبرةٍ تلبك الأبدان و كأنهُ لم يستمع إلى كلمةٍ واحدة مما قِيلت :
- و رحمة أبويا يا فارس لو جرالها حاجة مش هيكفيني فيها روحك.. مش هيكفيني روحكم كلكم !
دفعهُ بعنفٍ للخلف فـ ارتدّ جسده ، حدّق بهِ بأعين مذهولة و قد تجلّى ذلك على ملامحه ، بينما شحذ قِواه التي اكتسبها من تلك الطاقة النارية بداخله ، تحرك بخطواتٍ بطيئة و هو يجر ساقيهِ بالكاد ، حتى بلغ الخزانة الصغيرة بجانب الغرفة ، كان "فارس" قد مرّ على القصر ليجلب ثيابًا لهُ، تحسّبًا لاستفاقته في أي وقت، على الرغم من كونهِ لم يكن يتوقع أن يستفيق بتلك السرعة، اجتذب احدى الشماعات التي تحمل حِلة قاتمة ، و شرع يخلع عنهُ لباس المشفى ، ارتفع حاجبي " فارس" الأيسر استنكارًا ثم مضى نحوهُ معنفًا إياه :
- انت أكيد اتجننت .. بتعمل إيه ؟ بقولك
التفت تحوهُ يُحدجه بنظراتٍ كـ الشُواظ بينما يرتدي بِنطاله :
- انت تخرس خالص .. مش عايز أسمع لك نفس
تنهد بضيقٍ بالغ أعقبهُ بقوله المُحتج :
- يامن.. انت مش في وعيك ، و مش فاهم و لا فاكر حاجة ، أرجوك تهدى و تسمعني للآخر
أغلق سِحاب بنطاله ثم اجتذب القميص و بصعوبةٍ جمّة تمكن من ارتدائهِ ، شرع يغلق أزرارهِ و هو يتقدم بخطواتهِ للأمام متجاهلًا إياه ، فـ وقف بجسدهِ كـ حائلًا و هو يردد بنبرة حاسمة :
- يامن.. من الآخر مش هتخرج من هنا !
كوّر قبضتهِ بقوةٍ حتى برزت مفاصلهِ التي ابيضت ، رمقهُ بنظراتٍ قاتمة و كاد يمر من جوارهِ لولا أنهُ تزحزح ليسد عنهُ الطريق و هو يرمقه بتحدٍ سافر ، فـ هدر بنبرةٍ محذرة :
- فارس ، أنا شياطين الدنيا كلها بتتنط في وشي ، ابعد عن طريقي بدل ما ابعدك بطريقتي !
فردد بنبرةٍ جادة و هو يدنوَ منه خطوة :
- يا ابني أنا خايف عليك .. مينفعش تخرج بحالتك دي !
فردد بنبرة ذات مغزى بدون أن يرمش :
- لو كنت خايف عليا مكنش البوليس قالب عليها الدنيا .. لو كنت خايف عليا كنت عملت بوصيتي ، لو كنت خايف عليا بجد زي ما بتقول كنت حفظت الأمانة اللي سلمتهالك
صمت هنيهة قبل أن يردف بنبرة ساخرة :
- بس أنا غلطان .. دي مش عيلة أئتمن فيها فرد على حاجة تخصني !
فلم يكن ليصمت اثر اتهاماتهِ فردد مستنكرًا :
- كنت هحافظ عليها .. كنت هحافظ على أمانتك لولا اللي هي عملته .. فكرتها ندمانة و اللي عملته كان في ساعة غضب ، لكن انها تدبّر لموتك و تحطلك سُم في المحلول خلاني هاين عليّا أقتلها !
تغضن جبينه و هو يردد مستفهمًا بلهجة ناريّة:
- قصدك إيه ؟
فـ أشار " فارس" متنهدًا بحرارة :
- اهدى و اقعد و أنا هفهمك
فردد بنبرةٍ حالكة صارمة :
- خلّص.. هات اللي عندك !
زفر أنفاسهِ المختنقة قبل أن يسرد عليه بإيجاز :
- زي ما بقول .. كنت مفكرها ندمانة بعد اللي حصل ، فكرتها ساعة غضب و خلاص حتى لحد هنا كنت محافظ على أمانتك اللي سلمتهالي ، محطيتش في دماغي إني أعترف و لا أبلغ عنها
ارتفع جانب ثغرهِ بابتسامةٍ ساخرة قبل أن يُردف متهكمًا :
- بس أبويا متوصاش
فردد ساخرًا من قولهِ بنبرةٍ قاتمة :
- قولتلي بقى ! أبوك!
تلاشى أي تعبير ينُم عن السخرية عن تعبيراته قبل أن تتشنج  عضلات فكهِ أثناء قولهِ :
- أبوك ده حسابه زاد .. حسابه زاد معايا أوي ، بس معلش .. ليه وقتهُ معايا !
فـ دافع عنهُ قائلًا بنبرة شبه خافتة و قد حاد ببصرهِ عنه :
- بصراحة هو مغلطش.. دي ما صدقت إن حالتك عدت الخطر .. خافت تعيش فـ حطيلتك سُم في المحلول !
فكانت نبرته واثقة بشكلٍ مريب و عيناهُ لم تطرفا :
- مش يارا
ارتفع حاجبه الأيسر مردفًا باستهجان :
- ايه اللي يخليك متأكد كده ؟
فردد بنبرةٍ حادة و هو يخطو خطوةً للأمام متجاوزًا له :
- مش شغلك
فـ أمسك بساعدهِ مانعًا إياه من التقدم و قد لانت نبرته :
- يامن اسمعني .. مش هسيبك تخرج و انت في الحالة دي .. فكر في نفسك الأول
اجتذب ذراعهُ بعنفٍ من قبضته و هو يردد بنبرة محتدمة خرجت من شفتيهِ بلا وعيٍ منه:
- أفكر في نفسي ازاي و أنا مش عارف هي فين .. مش عارف حالتها إيه و لا عارف عاملة إيه .. مش عارف لجأت لمين و هي ملهاش حد تلجأ له
أشار بكفهِ مُسطردًا بصوتٍ حالك :
- ابوها الو××× ما هيصدق يبيعها ، و أمها.. أمها حبها لجوزها عاميها عن بناتها ، حبها لجوزها اتعدى حُبها لبنتها !
أشار بعينيهِ مُسترسلًا :
- عايزني أفكر في نفسي ازاي ؟ عايز روحي ترتاح ازاي و هي مش معايا، مش جمبي و مش شايفها بعنيا، مش....
ابتلع كلماتهِ.. تخشبت الكلمات على أطراف لسانهِ قبل التفوّه بها ، لا يعلم من أين نسج لسانهُ تلك الأحرف ، و من أين أنتج ذهنه تلك الكلمات ، اضطربت ملامحهُ بشكلٍ ملحُوظ جعل جبين " فارس" يتغضن تعجبًا ، بل أنهُ فغر شِفاه و هو محملقًا بوجههِ ، مما جعل " يامن" يزفر متأففًا و هو يسحب سترتهِ و تقدم و هو يرتديها متمتمًا بفتور :
- أوف.. أنا ماشي
و قبل أن يُدير المِقبض كان قد وقع سؤالهِ الصريح على مسامعه وقع الصاعقة :
- انت حبيتها ؟
........................................................................
..........................
......................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Donde viven las historias. Descúbrelo ahora