"الفصل الثاني و الثمانون"

739 18 0
                                    

"الفصل الثاني و الثمانون"
طوال الطريق لم تكفّ عن تشنجها و انفعالها الزائد في كل حركة و لو بسيطة تصدر عنها، حتى بلغا القصر الجديد الخاص بهم، فوجدتها فرصة سانحة للهروب، ترجّلت "يارا" عن السيارة صافعة الباب بعنف في وجههِ فتابعها بنظراته المُحتدة قبل أن يترجل هو الآخر صافقًا الباب، حثّ "يامن" خطاهُ ليبلغها، ثم اجتذبها من مرفقها ليجبرها على الالتفات إليه و هو ينظر لعينيها مباشرة بنظرة ناريّة، ثم ردد بنفاذ صبر متضجّر:
- انتي هتفضلي كدا كتير؟
سحبت بعنفٍ مقصود ذراعها من قبضته و هي تهدر باحتداد:
- أنا أساسًا واحدة بتلكك عشان تتخانق، حاسب عديني
و قبل أن تهمّ بالمضي كان يستوقفها بقولهِ القاتم و هو يجتذب ذراعها بعنفٍ أشدّ مستهجنًا فعلتها:
- آخر مرة تسيبيني و تمشي و أنا بكلمك
فصرخت فيه بعنفٍ هادر:
- المفروض إني أسمع أوامرك بالحرف و أنفذها؟ ليـه؟ ها؟ ليــه؟
و صمتت هنيهة تلتقط أنفاسها المهتاجة ، قبل أن تتابع و عيناها تضيقان في شجبٍ:
- عشان انت الراجل مش كده؟.. عشانك الراجل تعمل اللي هواك و اللي على مزاجك، تبوس دي و تحضن في دي و تفعص في دي عادي، مش كده؟
و قبل أن يقاطعها كان تقول قاصدًا إشعال جذوات الغضب بداخلهِ:
- لكن لو اتبدلنا.. لو انت شوفتني ببوس واحد قدامك كنت هتسكت؟
رُغمًا عنه.. انطبقت أناملهُ أكثر على عضدها حتى شعرت بأصابعهِ الغليظة تترك آثارها عليها، تأوهت بصوتٍ خفيض و هي تحنى أهدابها عنهُ صارخة و هي تحاول سحب ذراعها منهُ:
- سيب إيدي.. انت بتوجعني!
أطبق بكفهِ الآخر على فكّها بشئ من العنفٍ ليجبرها على النظر إليه و قد ارتجفت عضلة من عضلات صدغيه و هو يحدجها بنظرة شعرت بها تخترقها، شعرت بأصابعهِ تحفر حفرًا في وجهها و تكاد تُهشم عظام فكها، دنا بوجههِ من وجهها مُقلصًا المسافة بينهما، فلفحت أنفاسهِ المنفعلة بشرتها كنفحاتٍ من حميم، أثناء ترديدهِ الذي كان أشبه بالفحيح و قد تعمّد أن يخفض نبرته لتكن أشدّ وقعًا على خلاياها قبل مسامعها فتثير اضطرابها:
- كنت أخلص عليكي قبل ما تكوني عاملاها!
نهج صدرها علوًا و هبوطًا بانفعال و قد توهّج وجهها بالحمرة، و بتحدٍ رددت:
- يبقى أنا كمان من حقي أخلص عليك!
كانت حركة مباغتة منها حين تسحّب كفها لتسحب من ملابسهِ سلاحه المرخّص، و ألصقت فوهتهِ بمنتصف صدره و هي تضيق عينيها باستهجان:
- صح و لا غلط؟
أرخى قليلًا قبضته عن فكها دون أن يحررهُ، و لكنه حرر ذراعها و شفتيه تنبعجان بابتسامة قاتمة و هو يردد بصلابة:
- اتفضلي!
شعّت عيناها شررًا مستطر في نظراتها الموجهة نحوه، ثم قالت بغيرة مُستعرة لم تتمكن من مواراتها:
- هي ميـن؟
فكانت نبرتهِ متحديّة على الرغم من بروده:
- و لو مرديتش؟
تشبثت "يارا" بمقبض السلاح بكلتا يديها و هي تحركهُ لليسار قليلًا، حيث تتسلط فوهتهِ على موضع قلبه النابض، و هي تنطق من بين أسنانها محذرة:
- هي.. مين؟
- تالين!
...............................................................
 كانت قد غفت على الأريكة و كأن شعور الانهاك و كثرة التفكير تملّك منها، استغلّت هي سكون الوسط و قد اعتقدت أن أختها أيضًا تغطّ بسباتٍ عميق، و قد استمعت إلى بضع كلمات متناثرة عن ذلك الحديث الذي جرى صباحًا مع ابن عمّها، و ما استنتجتهُ أنه طلب أختها للزواج، و لم تفهم شيئًا آخر..
 خطت "يورا" بخطى رشيقة نحو المطبخ و قد دغدغ الجوع أمعائها، فراحت تبحث عمّا يرضيه، دلفت و كادت تمضي نحو البرّاد، و لكنها تجمدت محلها حين وجدت "ولاء" تجلس دافنة وجهها في ساعديها المستندة بهما أعلى المنضدة التي تتوسط المطبخ، تاركة قدح الشاي الخاص بها أمامها و قد بدا أنها لم ترتشف منهُ رشفة واحدة حتى..
 همّت "يورا" بأن تقبل عليها تلقائيًا و قد أثار صوت نحيبها المكتوم شعورًا غريبًا لديها، و لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة، كادت تعود أدراجها و قد عبست مفسرة أنا الأمر برمتهِ لا يعنيها، و لكن شهقة امتزجت بأنّة متوجعة من "ولاء" المجبرة ساقها جعلتها تلتفت مجددًا رغمًا عنها، لم تقوَ "يُورا" على الوقوف ساكنة، أو أن تتركها هكذا وسط انهيارها التام،  فسارت نحوها بتروٍ متلكئ و هي تطرق برأسها، أصغت "ولاء" لخطاها القريبة منها، فارتفعت إليها عينيها الوامضتين العبرات التي اكتظت بها، تبيّن لـ "يورا" وجهها المصطبغ بحمرة البكاء و شعيرات عينيها الدموية، فتنهدت بحرارة و هي تربت على كتفها برفقٍ مدمدمة بترقق:
- إيه اللي مزعلك كده؟
فـ وجدت نفسها عفوية للغاية و هي تفضي إليها القول من بين نشيجها:
- تعبانة.. تعبانة أوي
و ألقت بنفسها في أحضانها و كأنها رأتها شقيقتها "يارا"، ارتكنت برأسها لصدرها و هي تلف ذراعيها حول جسدها و هي تردد بمرارة ممزجة مع شهقتها المقطعة لنياط القلوب:
- و بحبه أوي!.. أوي
و كأن صاعقة مسّتها، ارتجف جسد "يورا" و اختضّ بأكمله دون أن تلاحظ "ولاء" ذلك مطلقًا وسط ما تعانيه، جفّ حلقها و حملقت عيناها بها و هي تخفضهما نحوها، ازدردت "يورا" ريقها و قد بدت مرتبكة للغاية، للحظة حاولت دفعها لتدحرها عنها، و لكن استوقفتها "ولاء" و استبقتها بقولها الباكي:
- مش هقدر أنام غير لما أسمع صوته، و مش راضية أرد عليه، مش عارفة أنام!!
و انخرطت في نوبة من البكاء، فارتفع حاجب "يورا" استهجانًا، ثم قالت بعبوسٍ متصنعة الضجر:
- طب ما هو اتقدم لك و هتتجوزوا، عايزة إيه بقى!
فصرخت "ولاء" باحتجاج:
- لأ طبعًا.. مش موافقة
فسألتها "يورا" و هي تضيق عينيها في اغتياظ:
- انتي عندك شيزوفرينيا؟!
دحرت "ولاء" نفسها عن شقيقتها، ثم نظرت لشاشة هاتفها التي انبثقت باتصال هاتفيّ منهُ للمرة المائة ربما، فعبست أكثر و انبجست العبرات من عينيها، سحبت "يورا" مقعدًا لها و هي تلقى نظرة لهاتفها، ثم جلست جوارها و هي تعقد كفيها معًا عقب أن نفضت خصلاتها للخلف، و سألتها ببرود:
- مش هتردي
فرددت صارخة باعتراض رافض:
- قولت لأ
بحركةٍ مباغتة، سحبت "يورا" الهاتف لتجيب اتصالهِ، فحملقت عينا "ولاء" بها غير مستوعبة فعلتها، حتى رددت "يورا" و هي تفتح مكبر الصوت:
-حبيبتك قاعدة تعيط زي المجانين، بتقول مش عارفة تنام غير لما تسمع صوتك.. سمعها صوتك من غير ما تكلمها لأنها مش هترد عليك!
 زفر "فارس" حانقًا و هو يحني أهدابهِ، فأطبقت "ولاء" أسنانها بغيظٍ و هي تنظر نحوها بتمقّط تام، حاولت سحب الهاتف منها و قد تحجرت الدموع في عينيها، و لكن "يورا" راوغتها فلم تتمكن، حتى استكان جسدها مع صوتهِ الذي بزغ من الهاتف:
- ولاء.. أنا مقدرش على بعدك، مقدرش أعيش يوم واحد من غير ما أسمع صوتك، مقدرش أعيش من غيرك يا ولاء، متحكميش على قصتنا بالموت قبل ما تبدأ و تدفنيها عشان غلطة أنا مليش ذنب فيها يا ولاء، أرجوكي فكري تاني
و صمت هنيهة، فلانت نظرات "يورا" و قد تأثرت من كلماتهِ التي تعبث بالأوتار، نظرت نحو "ولاء" نظرة مشجعة لتحثّها على الرد، و لكنها زمّت شفتيها بعبوسٍ دون أن تجيبهُ، و كأنهُ إعلان عن تمرّدها، حتى تابع "فارس" معترفًا:
 - أنا بحبك يا ولاء.. و الله العظيم بحبك
أسبلت "ولاء" أهدابها و قد عادت العبرات تنساب على طول وجنتيها، كبتت شهقاتها التي تصارع في تمرد لتظهر بشقّ الأنفس، حتى لكزتها "يورا" لكزة خفيفة في ساعدها و هي تشير بعينيها إليها لتجيبهُ، و لكنها ظلّت متسمرة لم ترفع حتى نظراتها إليها، فتنهد "فارس" بحرارة و هو يعقد حاجبيهِ، ثم قال شاجبًا موقفها:
- يعني مش عايزة تردي بردو؟
حاولت "يورا" تلطيف الأجواء فيما بينهما، فهمست بابتسامة باهتة:
- معلش.. هي هتعرف تنام لكن انت مش مكتوب عليك النوم النهاردة!
- ولـــ.....
أنهت "يورا" المكالمة قبل أن يُنهي نطقه باسم محبوبتهِ، فرددت "ولاء" و هي تنظر للهاتف باستنكارٍ معاتب:
- رديتي ليه؟
رفعت "يورا" كتفيها و هي تقول بسلاسة كاذبة:
- عشان عايزاكي تنامي و أخلص منك و من صوت عييطك ده، لأني بجد مصدعة جدًا
انبثقت نظرة ناريّة من عينيّ "ولاء" نحوها، ثم قالت و هي تنزح عبراتها بعنف:
- أنا مش عارفة قاعدة بعمل إيه معاكي أصلًا
نهضت "يورا" مبادرة، ثم مضت نحو البراد و هي تهتف ببرود و كأن الملل قد أصابها:
- و لا أنا.. لكن أنا بصراحة مش همشي لأني جعانة جدًا، انتي امشي براحتك
و راحت تبحث في الأرفف عقب أن فتحت البرّاد، فلم تجد ما يسدّ جوعها سوى أنواع الجبن العديدة التي لم تستسيغها في تلك اللحظة تحديدًا، زفرت بحنق و هي تتوسط خصرها بكفها، ثم رددت و هي تقوس شفتيها بانزعاج:
- أوف.. مفيش غير الجبن، أنا نفسي في بطاطس محمرة
- بتحبيه؟
التفتت "يورا" إليها لتجيبها بتلقائيّة شغوفة:
- جـدًا، متتخيليش بحبه قد إيه
و راحت تنظر للأرفف نظرة عابرة شموليّة قبل أن تصفع البراد في سئم مغمغمة:
- لكن أنا فاشلة.. مش بعرف أطبخ
نقطتين تشاركتا بها التوأمتين جعلت شفتيها تنبعجان عن ابتسامة رغمًا عنها، و قبل أن تهمّ "يورا" بالرحيل و قد تهدل كتفيها حين لم تجد ما يُشبع جوعها، كانت "ولاء" تستبقيها و هي تمسح ما علق بأهدابها من دموع:
- طب استنى.. أنا هعملك
توقفت "يورا" محلها، ثم التفتت إليها و هي تسألها بتشكك:
- بجد؟
- بجد
تحمّست "يورا" كثيرًا و هي تعاود الجلوس مجددًا، ثم قالت ممتنة إليها بابتهاج:
- teşekkürler çok teşekkürler
 - "شكرًا.. شكرًا جزيلًا"
-rica ederim
- "على الرحب و السعة"
..................................................................
سنوات عمرهِ مرّت أمام عينيه و قد تكرر مشهدًا ما أرهق روحهُ و عذبها بما يكفيه و يفيض، ذلك المشهد الذي تسبب فيه بقتلها، و إن كان لم يقتنع أنهُ فعلها يومًا، و ألقى الذنب كاملًا على "يامن".
لم ترمش عيناهُ و هو عالقٌ عليها بشخوصٍ، حتى دمدم باسمها، حينها فقط.. انجلت الوداعة عن وجهها، و تلاشت بسمتها و قد بددتها الرياح، لتحلّ محلها ملامح شرسة قاسية، استجمعت "تالين" بأسها لتجيبهُ بأنفٍ مرفوع بشموخ:
- لسه فاكرني يا نائف؟.. و لا نسيتني؟
ارتجفت شفتاهُ و هو يعود خطوة للخلف و شحوب وجههِ يتفاقم، شعر بالدماء تفور في أوردتهِ، هزّ "نائف" رأسه نفيًا و هو يرفض وجودها رفضًا قاطعًا:
- مستحيـل.. مستحيل تكوني حقيقة! انتي مُتّي، انتي ميتة!
تراءت لهُ ابتسامة مريرة هازئة غزت محياها و هي تجيبهُ بسخرية:
- أنا مُتت يا نائف.. مُتت من زمان أوي، مُتت كتير، و أولهم كانت لما شوفتك معاها!
حلقهِ يجفّ و ريقهُ الذي يبتلعه فتتحرك تفاحة آدم بعنقه صعودًا و هبوطًا كالعلقم المرّ، في حين حادت "تالين" بنظراتها عنه لتشمل غرفة مكتبه بعينيها اللاعتين ببريقٍ غريب و هي تردد طاردة تنهيدة حارة من صدرها:
- يــا.. يا ترى فات قد إيه على آخر مرة كنت هنا فيها؟
و راحت تخبط بطرف سبابتها ذقنها و هي تضيق عينيها و كأنها تتذكر:
- يا ترى قد إيه؟.. يوم؟ يومين؟ سنة؟ سنتين؟
هزّ مجددًا رأسه بالسلب و هو يعود مرتدًا للخلف خطوة، فقست ملامحها فجأة و هي ترتكز ببصرها عليه متحفّزة في وقفتها:
- و لا سبع سنين؟
فصرخ فيها:
- انتي متتي، أنا شوفتك بعيني!، انتي ميّتة!
ابتسامتها الشرسة كنمرة مجروحة اتسعت حتى أبرزت أسنانها من خلفها و هي تقول:
 انت محاولتش حتى تتدور على جثتي.. كأني كنت صفحة في حياتك و حرقتها!I think شوفتني!.. -
فبزغ صوتهُ و قد رعد بهِ بغضبٍ مستعرّ:
- يعني إيه؟.. يعــني إيـــــه!
- يعني يا زوجي العزيز.. يامن زوّر شهادة موتي، عشان كان عارف إنك مش هتسيبني غير في القبر!
« راقبتهُ عيناهُ اللاتي كأعين الصقر الثاقبة و هو يستقلّ سيارتهِ و قد بدى و كأن الجنون قد مسّه فسارع بالفرار عن هنا و هو يتحدث بكلماتٍ مبهمة، و فور أن تحرك بالسيارة مخلفًا ذرات الرمال بصق "يامن" في إثره و هو يسبّه بأقذع الألفاظ، انحرفت عينا "يامن" و هو يخطو نحو الحافة أثناء خلعهِ لسترته و تركها أرضًا و قد فتح أولى أزرار قميصه فتبيّن حافة السترة المضادة للرصاص من أسفله، حتى توقف لدى الحافة تمامًا، و التي توقف كالسدّ المنيع أمام "نائف" احتياطًا لئلّا يعبرها، فتراءت لهُ تجلس على ذلك النتوء القريب للغاية و البارز من الجبل و قد فاضت عيناها بالدموع، انحنى "يامن" فارتفعت أنظارها نحوهُ لتتبين لهُ تلك الموضة اللمعة بعينيها الدامعتين، بسط "يامن" كفهُ إليها و هو يشير بعينيه في إشارة مشجعة لها لتحتضن كفهُ بكفها، تقوست شفتيها بقهر و هي تنهض لتقف مستقيمة و قد انحنت هامتها، نظرت مطولًا لكفه الغليظ الذي ينتظرها، و بعد وقت لم تحتسبه كان كفها الرقيق يمتدّ ليضمه "يامن" إليهِ و هو يبسط ذراعه الآخر ليرفع جسدها إليه، حتى أجلسها لدى الحافّة و جلس جوارها، فلم يكن منها إلا أن استندت بجبينها على جبينهُ و أعينها لا تكفّ عن ذرف الدموع المتحسرة، لفحت أنفاسها الحارة وجههُ، فمرر "يامن" إبهامهِ على وجنتها في محاولة منهُ لتهدئتها:
- اهدى
- أنا تعبانة.. تعبانة أوي يا يامن
و ابتعدت قليلًا لتتبين لها نظراته الصلبة التي لم تتأثر، فهمست من بين أسنانها بمرارة:
- ليه يعمل فيا كده يا يامن؟.. ليــه؟
ألقى بكلماتهِ الواضحة في وجهها دون اكتراث لمحاولاتها لإفراغ ما بجبعتها، علّ سعير صدرها يخمد:
- انتي ميتة يا تالين.. سامعاني؟
أحنت أهدابها و هي تشهق شهقات متوالية، فـ أردف مُشددًا على كلماتهِ:
- نائف مش هيسيبك.. كان لازم أعمل ده
أومأت برأسها متقبلة ما كُتب عليها، و لكنها تشبثت بقميصهِ و هي تسألهُ باهتمامٍ قلق:
- انت كويس؟
لم يكترث لإجابتها، نهض عن الأرضية مستقيمًا في وقفتهِ و هو يجتذبها من عضدها ليجبرها على الوقوف، فشعرت بجسدها يخور بضعفٍ تملك منها، أحاطت جسدهُ بذراعيها و هي تلفّ إحداهما حول جذعه، و ارتكنت برأسها على صدرهِ و هي تردد بلوعة:
- كلمني يا يامن.. كلمني كتير، كلمني و قابلني، متسبينيش لوحدي يا يامن
- مش هسيبك
ارتفعت أنظارها نحوهُ فعلقت عيناها على خضراوتيه الملتهبيتين، انعقد حاجبيها و هي تُلحّ أكثر متشبثة بثيابه:
- هكلمك.. هكلمك ابقى رد عليا، خليك دايمًا جمبي يا يامن، أنا ماليش حد غيرك
فكانت كلمتهِ ككلمات أخرى لا يردد غيرها في مثل تلك المواقف:
- متخافيش.. أنا معاكي!
فراحت تهذر بالكلمات التي تركت في نفسها ألمًا لا يوصف:
- قتل ابني يا يامن.. قتل ابني في بطني.. آآه، قتل ابني، قتلـه!»
..............................................................
كان اتفاقًا مسبقًا، خطة مُحكمة دبّرها "يامن"، كان هُو من اصطحب "نائف" لتلك المنطقة تحديدًا عقب مناورات بالسيارتين، و من بعدها أعان "تالين" على السفر للخارج، لـ "روما" تحديدًا، بهوية مختلفة تمامًا، فكان ذلك يسيرًا، لم ينقطع التواصل بينهما كما تعهّد لها، بالنهاية كان يشعر بتأنيب الضمير كونهُ المتسبب بزواجها من "نائف" فقط لتحاول محوهُ من ذهنها و حياتها، و لم تكن تعلم أنها فتحت بابًا من الجحيم على نفسها.
تراءت الذكريات و لاحت كوشمٍ ترك أثرًا لا يمحى في قلبها أمام عينيها و هي تراهُ بتعبيراته التي باتت أكثر شراسة، فتابعت "تالين" ببأس اكتسبتهُ طوال تلك السنون و هي تعقد ساعديها أمام صدرها:
- اتفاجأت؟ و لا اتضايقت؟
كان مندفعًا مهتاجًا و هو يخطو من جوارها أثناء جأرهِ:
- و عزة جلال الله ما هيعدي اليوم عليه غير و هو في قبرهُ
و لم يكترث لوجودها، لم يكترث سوى لفكرة واحدة نمت في ذهنه و أينعت، لقد عانى بفقدان زوجتهِ، عانى بتعذيب الضمير، عانى بذنبٍ لم تقترفهُ يداه، و في النهاية و بعد سنوات يكتشف دون سابق إنذار أن معاناتهِ لم تكن سوى معاناة وهميّة، تابعت "تالين" رحيله بأعين ناقمة أثناء غمغمتها:
- بالعكس.. اليوم مش هيعدي عليك انت غير و انت في قبرك، و حقي منك هاخده بإيدي!
خرجت "تالين" من الفيلا الصغيرة الخاصة بـ "نائف" بأكملها لتستقرّ في مقعد السائق بسيارتها، ضغطت "تالين" على دوّاسة البنزين و هي تنطلق بأقصى سرعتها لتتبعهُ، مناوراتٌ عِدة بينهما ليُضللها و لكنهُ لم يتمكن، و إذ بـ "تالين" تصدم خلفيّة سيارته بمقدمة سيارتها صدمة عنيفة ارتدّ بها جسدها للأمام، فصرخ "نائف" و هو يحاول التحرك للجانب قليلًا:
- يا بنت المجنونة!
تهشّمت مقدمة سيارتها و أصابت بخدوشٍ عدة من كثرة ارتطامها لتجبرهُ على السير في الطريق الذي تبغيهِ هي، و لم يكن قادرًا على صدّ هجماتها العنيفة التي تتطلب رطمهِ لسيارتها أيضًا، و لكنهُ لم يفعل، حتى اقتادتهُ "تالين" لدهاء لنفس البُقعة، توسعت عينا "نائف" في شدوهٍ مريب و هوى يرى السيارة تقتاد فعليّا للحافة و "تالين" تدفعهُ دفعًا بسيارتها، و ما إن حاول أن يمنع حدوث ما رأى أنها قد عقدت العزم على تحقيقهِ، كانت "تالين" تمنحهُ دفعة قوية للأمام جعلته يفقد السيطرة كُليّا على السيارة، شحب وجههُ شحوب الموتى و قد بلغ قلبهُ حنجرتهِ، حتى انتشت "تالين" تمامًا و تملّك الظفر منها قد شعرت بأنها نالت ثأرها أخيرًا و بعد طول انتظار منهُ، و هي ترى سيّارتهِ تهوى عن ذلك الارتفاع الشاهق.
 و ما هي إلا دقائق.. بضع دقائق فقط و كانت أذناها تطنّان من صوت الانفجار المدوّي الذي أفزع الطيور التي شرعت تخفق بأجنحتها مبتعدة عن هنا، حينها فقط شعرت أن الهواء الذي تطردهُ من صدرها زفيرًا عاديّا، لا لهيبًا مسعرًا تربع في أحضانها طوال تلك السنون انبعجت شفتاها ببسمة ظافرة و شابها الألم الساحق في الوقت ذاته، تلمّست "تالين" تلقائيّا بطنها التي خلت من طفلها منذ زمن بعيد و قد تشوشت الرؤية لديها لدى تجمّع العبرات الغزير في مقلتيها، تركت العنان لدموعها المريرة لتنحدر على وجنتيها، و هي تغمغم  بارتياحٍ:
- رجعت حقك يا روحي.. رجعت حقك خلاص!
« كانت "الڤيلا" الخاصة بهما خالية من جميع الخدم، و يعمّها الظلام المهيب و يكسوها بدهاليزها و خباياها، حينما كانت  تستعين بإنارة هاتفها و قد تفاجأت بالكهرباء منقطع و لا تعلك كيف صِدقًا لتتمكن من التماس طريقها حيثُ تصعد للأعلى، خطت في الرواق المؤدي لحجرتهما و لكنها تيبّست محلها و قد شعرت بقلبها يتواثب قرعًا بين أضلعها، كتمت شهقاتها بكفها و قد انسابت العبرات الحارقة على وجنتيها و هي تستمع لتلك الضحكة الرقيعة التي بدت واضح للغاية وسط ذلك السكون، أرهفت السمع فلا تعلم  كيف ازدجت ساقيها لتبتعد عن هنا و قد شعرت بالغثيان.
 الأرض تميد بها، و الدنيا ضاقت عليها بما رحُبت، راحت تترجل عن الدرج ركضًا و قد تملّك منها الاختناق الرهيب و أطبق على أضلعها، زوجها يجتمع بإحداهنّ في غرفتهما التي جمعتهما، أعلى فراشٍ ضمّها معًا، و هي لا تملك سوى الفرار و كبح شهقاتها و نحيبها بشِقّ الأنفس، طعنة غادرة لأنوثتها من جديد، و اليوم بأكثر بشاعة ، شعرت بصعوبة في التنفس..
 همّت بالرحيـل و قد تعهدت أنها ستكون المرة الأخيرة التي تدلف فيها مجددًا حتى تيبّست قدماها تمامًا و هي تلمح شيئًا ما مُلقى على إحدى الأرائك، خطت نحوه مجبرة ساقيها على الحراك و هي تسلط إنارة الهاتف عليه، إنها حقيبة رفيقتها المقرّبة، رفيقتها منذ الطفولة، بهت لون وجهها و شحب شحوب الموتى و هي تنفي برأسها في رفضٍ قاطع لما يدور بخلدها، و بحركة مرتجفة إثر ارتعاشة كفيها الحاملين للهاتف راحت تمرر إبهامها على شاشته لتقطع شكها باليقين على الرغم من يقينها المُؤكد، و تبدد كل شئ.. كالسراب الوهميّ.. حين صدح رنين هاتف رفيقتها من هاتفها الذي تحويه حقيبتها، خطوة للخلف خطتها لتبتعد عن محيط الحقيبة و كأنها حيّة تسعى لتدغها، ريقها كالعلقم المُر و قد علقت به غصة معذبة لروحها..
تلاحقت أنفاسها فنهج صدرها علوًا و هبوطًا، تأوّهت "تالين" و هي تلفّ بطنها التي تضُم طفلهما بذراعها و قد داهمتها آلامًا تكاد تفتك بها، و لم تجد سواهُ لتلتجئ إليه، اقتادت قدماها رغمًا عنهما تجرّهما جرًا و أنفاسها تتلاحق بشكلٍ مريب و قد تفصّد جبينها بحبات العرق المُتلألئة، حتى أتاها ردّه حين كانت تخرج عن البوابة الرئيسيّة للفيلا، فرددت غير قادرة على تحمل الألم الساحق من بين تهدج أنفاسها:
- يـ..يامن الحقني، الـ..الحلق ابني، ابني هيموت يا يامن، هيموت بسببه! »
تذكر جيّدًا حين ترك "يامن" ما بيده و أتاها ركضًا و نقلها من فوره للمشفى، في محاولة منهُ للحفاظ على حياة طفلها و ابن رفيقهِ المقرب  الذي أضحى إليه ألد الأعداء، و لكنهُ فشل في النهاية، لم يتمكن من إنقاذه، فقدت طفلها و فقدت معهُ روحها، بسببهِ و بسبب ملذّاته المحرمة التي كان يغرق بها، طعنةً من رفيقتها المقربة، طعنةً منهُ، طعنة قصمت ظهرها لفقدانها طفلها الذي لم تُكتب لهُ الحياة.
 تنفسّت "تالين" أخيرًا الصعداء و هي تقبض جفونها بارتياح تسلل لروحها المعذبة بعد سنون، و لم تملك إلا أن تقول و كأنها توقن لنفسها:
- خدت حقك.. ارتاح يا روحي، ارتاح!
............................................................
إنهُ شعورٌ فريـد.. جعل الراحة و الجذل و الحبور الرهيب يتسلل لنفسها أخيرًا عقب أن أدركت أنها تخلّصت من كابوسهِ و طيفه الذي عكّر صفوهم مطوّلًا، و أخيرًا.. صار "نائف" مجرد جثة متفحّمة عقب أن فحّم الكثير و سفك دماء الكثير ممن لم يكن لهم يدًا بالأمر، لقى نهاية تليقُ بهِ بعد طول انتظار، نزحت "يارا" أي شعور بالحنق من زوجها جانبًا إثر إخفائهِ تلك الحقائق التي قصّها عليها تباعًا البارحة.
وقفت "يارا" في منتصف المطبخ و هي تردد موجّهة حديثها للطباخ:
- و عايزاك تعمل كمان بروست.. ولاء بتحبه، آه و مكرونة بشاميل.. ماما بتموت فيها و ...
اخترق حاسّة الشمّ لديها عبقه فالتفتت من فورها لتجدهُ يقف مستندًا بكتفه لإطار الباب، اتسعت ابتسامتها التي زيّنت محياها و هي تخطو نحوهُ بتلهفٍ أثناء قولها المُبتهج:
- أنا مش مصدقة يا يامن.. مش مصدقة إننا خلصنا منهُ أخيرًا
تلفت "يامن" حولهُ و رائحة الطعام الشهي تدغدغ أنفه، ثم عاد ينظر إليها و هو يضيق عينيه مستفسرًا:
- إيه كل دا!.. انتي عازمة حد؟
أومأت برأسها و هي تردد بإشراق:
 - أيوة.. كلهم جايين النهاردة
اضمحلّت المسافة بين حاجبيه و هو يردد بعدم فهم:
- كلهم!
اصطحبتهُ للخارج و هي تردد بجذل لا يُوصف:
- مش مهم.. المهم ان النهاردة أسعد يوم في حياتي
و توقفت في منتصف البهو فتوقفت أمامها بدوره، شملت وجههُ بعينيها التي تكادان تدمعان من فرط الحبور، تشبثت بكفهِ بكف، و لفّت ذراعها الآخر حول بطنها و هي تردد بارتياح مُتلهّف:
- مش قادرة أصدق إن كل حاجة انتهت، انت لسه معايا، و ابننا معانا
و انبعجت شفتيها لتكشف اللثام عن أسنانها و هي تغمغم بعدم استيعاب:
- مش قادرة أصدق.. دي.. دي النهاية اللي كنت بحلم بيها، هي دي النهاية يا يامن
رغمًا عنهُ افترّ ثغره بشبح ابتسامة لم تصل لعينيه و هو يحنى أهدابهِ لبطنها الذي يضُم طفله، ثم عاد يرفع نظراتهِ إليها مجددًا، دنا منها مقلصًا المسافة فلفحت أنفاسهِ الدافئة وجنتيها، طبع قبلة عابرة على طرف شفتيها فـ أطبقت جفونها مستسلمة لهُ كليّا، و ما إن همّ بالتقام شفتيها حتى استمع لقرع الجرس، فتأفف و هو يسبّ بصوت خفيض مبتعدًا عنها..
 حينما كانت هي بكامل تحفّزها و هي تتابعهُ بنظراتها، ألقت "يارا" نظرة لساعة الحائط فاتسعت ابتسامتها و تهدجت أنفاسها، ظلّت متوقفة قليلًا تتابعهُ بعينين متحديتين حتى بلغ "يامن" الباب، و ما إن أدار المقبض حتى تصلّبت ملامحه كليّا بشكلٍ يناقض ضجيج نبضاته الثائرة، تعلقت أنظارهِ بها مُطولًا، و لكنها فور رؤيته نكّست رأسها و هي تحرم عيناها فرصة إشباع جوعها إليه، ارتخى كفه عن المقبض و هو يحدجها بنظرة أظلمت فجأة، حتى غمغمت "سهير" بصوتٍ منكسر:
- يارا..قـ..قصدي يارا هانم كلتني يا يامن بيه، قالتلي إنها محتاجة مساعدتي و ..
حاد بنظره الجاف عنها و هو يقبض فكيهِ، فتابعت "سهير" بتلعثم:
- لو.. لو عايزني أمشي فـ..
- ادخلي
رددها "يامن" بصلابة آمرة رُغم أنفهِ، و هو يفتح لها الباب على مصراعيه، فدلفت ليصدح صوت زوجتهِ التي أقبلت توّا لاستقبالها من خلفهِ:
- ماما سهير.. ازيك؟
و ضمتها بعاطفة إليها فبادلتها "سهير" عناقًا اشتمّت فيه رائحة ابنها، لم تنحرف نظرات "يامن" للخلف على الرغم من كون صوتها يستحوذ على تركيزه بالكامل، حتى أقبلت "أُمنية" و هي تطرق وجهها خجلًا، رفع "يامن" عنها حرجها و هو يردد آمرًا مشيرًا بعينيهِ بلهجة ذات مغزى:
- ادخلي يا.. بنت خالتي!
عضت "أمنية" شفتها السفلى في توتر و هي تعبث بأناملها بارتباك، ارتفعت أنظارها إليه لتشمل وجهه بنظرة مختلفة، كان أبعد من خيالها.. أن يكون ذلك المتجبر المتسلّط ابن خالتها "سهير" التي اعتنت بها.
 نظرتها إليهِ طالت و هو يبادلها إياها أيضًا، حتى حادت هي أولًا و هي تمر من جواره غير قادرة على نطق كلمة واحدة، توقف "يامن" و هو ينفخ بضجر منتظرًا أن تنهى زوجتهِ أمر السلام و الترحاب الحفيّ الزائد، حتى دلفتا "سهير" و "أمنية" فمضت "يارا" نحوه و هي تسألهُ ببراءة مُصطنعة:
- مالك يا بيبي؟.. واقف عندك ليه؟
رمقها بنظرة ناريّة بعثت شررًا مستطرًا إليها و هو يطبق أسنانهِ في اغتياظ، ثم حاد عنها و هو يزفر في احتداد قائلًا:
- انتي اللي بعتيلها؟
أومأت "يارا" و هي تردد بسلاسة استفزّتهُ:
- أيوة.. ما انت عارف يا بيبي إني ماليش في جو الطبيخ ده خالص، و ماما سهير هي عارفة كل واحد في العيلة بيحب إيه و هتسهل عليا الموضوع و....
فقاطعها "يامن" بصرامة مُحتدة:
- يارا
فسألتهُ ببراءة و هي ترفع حاجبيها بلطف:
- نعم؟
نفخ "يامن" باختناق مبتلعًا كلماتهِ في جوفه دون أن يتمكن من نطق كلمة واحدة مما كاد يلقيها على مسامعها، ثم ردد و هو يشيح عنها:
-  أوف..أنا ماشي
- استنى
التفت إليها ليجدها تشبّ على أطراف قدميها لتمنحهُ قبلة خاطفة على شفتيه، و ما إن ابتعدت حتى اتسعت ابتسامتها و هي تمسح برفقٍ على صدره بكلتا كفيها متمتمة بدلالٍ:
- متتأخرش!
................................................................
طاولة عريضـة امتدت بأصنافها المختلفة ، جمعت أنواعًا شتى من الطعام و.. العُشاق.
يترأس "يامن" الطاولة على يمينهِ جلست زوجته، و على يسارهِ تُرك المقعد شاغرًا باتفاقٍ مُسبق بين "يارا" و "فارس"، فـ ما إن همّت "سهير" بأن تجلس في نهاية الطاولة، حتى رددت "يارا" من فورها و هي تشير إليها:
- تعالي يا ماما سهير.. مكانك هنا!
و أشار "فارس" بدورهِ لأمنية:
- تعالي يا أمنية جمب سهير
نظر "يامن" نحو زوجته من طرفه و قد تفهم تلاعبها الخبيث ذاك، فنفخ في ضيقٍ أطبق على صدره، و لكن "سهير" لم تتحرك قيد أنملة و قد تسلطت نظراتها على ابنها، حتى ردد "فارس" و هو يضع كفيهِ على كتفيها:
- تعالي يا سهير
و اقتادها.. فجلست مجبرة على يسارهِ، تململ "يامن" في جلسته و قد اخترق عبقها أنفهِ عن ذلك القرب، حاول جاهدًا ألا تحيد عينيهِ إليها، بينما يستشعر عينيها الفائضتين بالعبرات مسلطتين عليهِ..
جلست "أُمنية" جوارها امتثالًا لقول "فارس"، بينما جلست "ولاء" إلى جوار أختها تليها "حبيبة" و جوارها "رهيف"، و في النهاية جلست "يُورا" مفضلة الابتعاد عن الجميع، و قد أتت إلى هنا فقط امتثالًا لمطلب "فارس" عقب أن أوصل لها رسالة توأمتها، جلس "فارس" قبالة "ولاء"، و "مايكل" قبالة "رهيف" و قد رفضت "رهف" رفضًا قاطعًا أن تجلس جوار أختها، و فضّلت أن تجلس جوار "مايكل" ، و ما إن احتلّ كُل مقعده، حتى شرعوا يتبادلون أطراف الحديث، و ربما الضحكات الخافتة من حينٍ لآخر.
عداهُ.. حيث كان ملتزمًا الصمت التام و هو يتناول طعامهُ ، و كأن كل خلية بجسده متوترة، يكاد يشعر أنها تواري دمعاتها التي شقّت سبيلها على وجنتيها بطرف كم عبائتها التي تغذّت عليهم و تكتم شهقاتها بشقّ الأنفس، تبتلع غصاتها العالقة في منتصف حلقها، و تتظاهر بتناول الطعام و تبادل الأحاديث من حين لآخر  مع "يارا" التي حاولت أن تجتذبها من سكونها المُطبق عليها..
 استشعر "يامن" لمستها المحتوية لكفهِ الذي كان تاركًا له أعلى الطاولة و هي تسير بأناملها الرقيقة عليه ببطء فحثّته على النظر إليها، و كأنها تحاول بثّ رسالة ضمنية إليه، أنها جواره دائمًا كما طلب منها سلفًا، تعلقت عيناهُ بعينيها فشعر بفيض الحب الذي نمى و أينع في قلبها تجاههِ، منحتهُ "يارا" ابتسامة رقيقة زيّنت محياها، جمعت بين الرقّة و القوّة في ذات الآن، بدا لهُ و هي تناديها بـ"ماما" أنها أشاعت الحقيقة التي ابتدعتها من وجهة نظرهِ، بأن الجدّ المُتجبر كان السبب في ما آلت إليهِ حال "سهير" التي كان من المفترض أن تكون سيّدة قصر "الصيّاد" لا خادمتهِ..
 طرد "يامن" زفيرًا ملتهبًا عن صدره، غاضبًا منها.. نعم، بل ممتعضًا، و في الوقت ذاتهِ ممتنًا، كونها أقدمت على ما لم يجرؤ هو على الإقدام عليه، و أزاحت عنهُ ذلك العبء، تملّص بكفه منها متخلصًا من لمساتها الرقيقة في جفاءً أبداهُ نحوها، و لكنها لم تعبس، فهي تعلم جيّدًا أن جفائهِ ظاهريّا فقط، و إن لم يكن كذلك.. فهي تدرك أيضًا أنها قادرة على امتصاصهِ.
 عينا "ولاء" بجفنيها المنتفختين تحيدان عنهُ متهربة بنظراتها منه،.. كان قد لجأ إلى أختها "يارا" في اتصالٍ هاتفي، أفضى إليها القول برغبتها في الزواج من أختها، و سبب رفضها كونهُ ذنبًا ليس ذنبهِ، فطمأنتهُ بأنها ستتصرّف، و بالفعل نفّذت مطلبهِ.. ها هو يراها، يجلس أمامها مباشرة، يتأملها عن كثب و هي تعبث بخصلاتها فتعيدها للخلف تارة و تتركها تسقط على عينيها تارّة، بينما تتلاعب بملعقتها بشرودٍ متوتر في طبقها، سارت عيناهُ المتيّمتين على تفاصيل وجهها و تقاسيمهُ اللطيفة، فقرع قلبهُ في صدره، كيف سقط أسيرًا لعشق تلك الفتاة التي كان يعتبرها مجرد فتاة طائشة! لا يعلم كيف نجحت باجتذابهِ بذلك اليسر، و هو كتفاحة نيوتن تدحرج نحوها متأثرًا بالجاذبية، لن تكون لغيرهِ.. لقد تعهّد بذلك وأقسـم، أقسم ألا تكون سوى زوجتهِ، و إن كان عليه أن يختطفها و يتزوجها قسرًا كما فعل ابن عمهِ الذي كان يستهجن فعلتهِ فيما مضى سيفعلها و سيتزوجها رغمًا عن أنفها.
بينما "حبيبة" منشغلة بابنتها التي تراها من خلف "رهيف" بالكاد، تكاد "يورا" تبكي من فرط شعورها بالوحدة و النبذ، هي لم تكن يومًا منهم، تجلس وسط أناسًا لم تنتمِ إليهم، و كأنها بأرضٍ لم تنمُ فيها، أرضًا غير أرضها تدرك جيدًا أنها ستذبل بها، و لكن شعور بداخلها يحثّها على الاستئناف، يحثّها على التواجد بها، يحثّها على محاولة النموّ بتلك الأرض، لربما تينع أوراقها في أرضٍ لم تكن يومًا من سُكّانها، سحبت "يورا" شهيقًا عميقًا زفرتهُ على مهل، حتى تنبّهت إلى توأمتها التي سألتها:
- يورا.. بتحبي الكباب؟
كانت مُبادرة منها.. ليس كلماتها، بل دعوتها إلى هنا، تسلطت عيناها عليها و قد ومضت زرقاويها ببريقٍ غريب، ثم أومأت في النهاية و هي تجفل أهدابها قائلة بخفوت:
Evet
فـ أومأت "يارا" و هي تدفع بالصحن تجاهها مدمدمة بابتهاج:
- شبهي.. لسه في وقت كتير نعرف إيه تاني شبه بعض فيه
فرددت "ولاء" و ثغرها ينبعج كاشفًا عن ابتسامة باهتة:
- في حجات كتيـر
اتسعت ابتسامة "يارا" و هي تسأل بفضول:
- بجد؟.. زي إيه؟
- بجد!
تغضن جبين "يارا" بعدم فهم و نطقت بـ:
- إيه؟
ارتفعت نظرات "يامن" نحو "ولاء".. ثم نحو "يورا" فرددت "ولاء" و هي تشير يعينيها إليه ضاحكة بابتهاج زائف:
- جوزك فهم.. انتي مفهمتيش؟
فقالت "يورا" ببلاهة:
- مش فاهمة حاجة، هو في إيه
فرددت "يارا" مؤيّدة الرأي:
- مش عارفة
و انحرفت نظراتها نحو "يامن" و هي تسألهُ بابتسامة غامضة:
- هو في إيه؟
و لكن "ولاء" تولّت مهمة إجابتها، حينما كان "يامن" ينظر لصحنه مجددًا رافضًا إجابتها:
- دي كلمتك.. انتي مش بتاخدي بالك انك بتكرريها كتير!
فرددت بنبرة عفويّة للغاية:
- بجـد؟.. امتى!
تعلقت بها الأنظار جميعًا، و ما هي إلا ثوانٍ و كان الجميع يتضاحك ابتهاجًا، عدا "يامن" الذي تابع تناوله طعامهِ و كأنهُ رجل آلي ينفذ مهمة ما، لا علاقة لهُ بأحاديث جانبيّة، و ما إن هدأت الضحكات قليلًا، ارتبكت "ولاء" و قد أدركت نظرات "فارس" المقتنصة لأي انفعال أو تعبير أو حركة تصدر عنها، ثم رددت محاولة نزح ارتباكها:
- و كمان مش بتعرف تطبخ
فلوّحت "يارا" إليها و هي تردد بمزاح:
- توأمي.. توأمي يا جماعة
فقالت "يورا"  بابتسامة رقيقة و قد شرع شعورها بالوحدة يتضاءل:
- عرفت كمان إنك بتحبي البطاطس المحمرة
- مش بقول توأمي!
فقالت "رهيف" بعدم استيعاب للمرة الألف تقريبًا و هي تلتفت نحو "يورا":
- أنا لسه لغاية دلوقتي مش مصدقة اللي شايفاه.. حقيقي!
 حجاب رأسها يفاقمها رقّة و جمالًا تُحسد عله حقًا، و هو لا يملك أن يشيح بأنظاره، لا يملك سوى أن يتأمل وجهها بملامحها اللطيفة، كحلمٍ صعب المنال، و لكنهُ دومًا كان أكثر تشبثًا بما هو عسير الحصول عليه، و "رهيف" كانت هي، ظمآنٌ ارتوى بعد طول انتظار و أشبع تعطّشه المريب بنظرات استرقها و اختلسها إليها، لم يكن يتخيّل "مايكل" أنهُ سيلتقيها هُنا، و لكن لقائها كان فيه عودة جديدة لروحهِ، و بينما يُداعب "رهف" و أنظاره سلطة على أختها، كانت هي تشير لـ "يامن" الذي لم يتمكن من التفريط بها حين نادتهُ:
- يامن.. يامـن
ارتفعت أنظارهُ نحوها، فقالت "رهف" بعدم فهم و هي تشير للتوأمتين:
- هو ازاي يارا بقى منها اتنين؟.. هو انت دلوقتي متجوز اتنين؟
و قبل أن يهمّ بإبجابتها كانت تغمغم في خفوتٍ عابس:
- يعني انت اتجوزت واحدة تانية و مش استنيتي لما أكبر يا يامن!
فرددت "رهيف" و أنظارها تتجه نحوها لتنعفها:
- رهـف.. بس! ايه اللي بتقوليه ده
فرددت "يورا" و هي تنظر للصغيرة مقوسة شفتيها بازدراء:
- متجوز الاتنين مين يا حلوة، أنا أتجوز الكائن ده!.ليه؟ شايفاني إيه
فبزغ صوتهُ المهدد الخافت إليها فقط و هو ينظر نحو تلك الفتاة شزرًا:
- لمي أختك عشان مقومش ألمها بطريقتي
حمحمت "يارا" و هي تحاول تلطيف الأجواء من جديد:
- خلاص يا روڤي متزعليش نفسك، أنا هخليكي تتجوزيه لما تكبري، متقلقيش!
منحتها "رهيف" نظرة حامية، ثم اعتذرت للجميع عن تلك السخافة التي بدرت من شقيقتها:
- معلش أنا آسفة،  بس أصلها لما بتحب حد مش بتسيبه
تفاجأت "ولاء" بتلك القطة من الدجاج التي توضع في صحنها بغتة، فرفعت أنظارها نحو "فارس" الذي بادلها نظرة ذات مغزى، حرفت "ولاء" نظراتها عنهُ على الفور دون أن تتمكن من النظر لعينيهِ، فحاولت أن تفرّ بهما دون أن تدري إلي متى.
انحرفت نظرات "رهف" نحو "مايكل" و هي تشير نحو " يورا" و "يارا" متمتمة بنبرة حائرة:
- ماكل.. هي فين يارا؟
فـ أشارت "يارا" بكفها إلى "رهف" و هي تدمدم بمرح:
- يا بنتي أنا أهو و الله
و عاتبتها بلطفٍ:
- كده بردو يا روڤي مش عارفاني؟
فابتسمت "رهف" و قد شعرت بالحرج الطفيف، ثم  قالت و هي ترفع كتفيها معربة عن حيرتها بطفوليّة تخطف القلوب:
- ما أهو أنا مُش عارفة أعرفك ازاي!
نفضت "يورا" خصلاتها للخلف تلقائيّا و هي تردد:
.. أنا شعري طويل، يارا شعرها قصير tatlı - شوفي يا " حلوة"
رمشت "رهف" عدة مرات في عدم استيعاب و هي تنقل نظراتها المتحيّرة بين كلتيهما، ثم وجّهت حديثها لـ "مايكل" و هي تسألهُ:
- ماكل.. هي مين اللي سعرها طويل؟
!Sweety  - مبقتش مايكل
و نقل نظراتهِ بين الجمع حتى تسلطتا على "فارس" الذي يجلس جواره، ثم ألقى قنبلتهِ في الوسط:
- بقيت "يوسُف"!
شَرِق "فارس" و قد اختنق صدرهُ بالطعام الذي شعر به توقف في منتصف حلقهِ، فسارعت "ولاء" بوضع كوب المياه أمامه ، و قد تجلى القلق على وجهها، سعل "فارس" عدة مرات و قد اصطبغ وجههُ بالزرقة الطفيفة، ثم سحب كوب المياه و شرع يرتشف منهُ بضعة رشفات متتالية.
حملق "يامن" و قد سقطت ملعقته في صحنه بـ "مايكل"، فـ التفتت "سهير" بدورها و قد أنعش الاسم ذاكرتها، أطبق "يامن" أصابعهُ مكورًا قبضته فلاحظت "يارا" ما يجول بخاطره، انحرفت نظراتها نحو "مايكل" حين سألهُ "يامن" بإيجازٍ ممتعض:
- اشمعنى يوسف
- هكذا
فجأر بهِ و قد بدأ ينفعل و يفقد آخر ذرات تريّثهِ:
- يعني إيــه؟
ارتكزت أنظار "يوسُف" على "رهيف" التي حطّت الصدمة بخطوطها العريضة على ملامحها و قد تراخى كفيها لحجرها و أنظارها عالقة بهِ بشكلٍ مريب دون أن تقوى على أن تحيد عنه، ابتسامة باهتة تقوست شفتاهُ بها قبل أن ينطق بجديّة:
- لأنني..
و حاد بنظره عنها ليعيد النظر لـ "يامن" ثم ردد متابعًا و قد تلاشت بسمته:
- كـ يوسُف، سقطت في البئر لسنوات، حتى أتت السيّارة فـ أدلو بدلوهم!
تصلّب فكيّ "يامن" و هو يحدجه بنظرات متوقّدة، و ما إن همّ بالنهوض في رغبة لا يعلم مصدرها تحديدًا للفتك به، كانت "يارا" تتشبث بكفه و هي تردد محاولة تهدئتهِ:
- شـشـش.. اهدى
لم يحد عنهُ بنظراتهِ القاتمة لدقائق، و ظلّ "يوسُف" عالقًا ببصره علي أيضًا، حتى اقتطع "يامن" ذلك و هو ينهض عن جلسته المتحفزة تلك و قد شعر بحاجتهِ المريبة للتدخين، فسألته "يارا" و هي تراه يدفع مقعده بعنفٍ للخلف:
- رايح فين يا يامن؟ انت مكلتش حاجة
- هشرب سيجارة
و مرّ من خلفها، فـ أثناء مرورهِ امتد كفهُ بحركتهِ الدائمة التي صارت تفضلها ليحتوي ذقنها و جزءً من عنقها براحتهِ ممرًا إبهامهِ بحركة عابرة، حتى ابتعد فـ أزاح كفهُ عنها، و كأنها رسالة ضمنيّة منه لئلّا يُثار قلقها، لا تزال "رهيف" فاغرة فاهها و هي تحملق بهِ غير مستوعبة،  في حين سألت "رهف" بعدم فهم و هي تضيق عينيها:
- ماكل.. انت كمان بقى في منك اتنين؟
التفت إليها "يوسُف" و هو يعبث بخصلاتها، ثم قال بلهجة جادة:
- sweety  ناديني يوسف، اسمي صار يوسف!
ترك "فارس" كوب الماء جانبًا و هو يلتفت نحوه ليحدق في جانب وجهه، و ضاقت عيناهُ و هو يردد مستهجنًا:
- أ..أسلمت؟ ازاي؟ امتى؟ ازاي متقوليش؟
- امبارح بس!.. مش من زمان
فتوسعت عيناهُ بجنون و هو يهدر:
- و ازاي تعمل حاجة زي دي!.. انت فاكرها حاجة سهلة
فكان ردّ "يوسُف" جادًا للغاية:
- It wasn't easy faries, it was very difficult, but I did it in the end
-"لم يكن سهلًا فارس، كان أمرًا في منتهى الصعوبة، و لكنني فعلتهُ في النهاية"
لفظ "فارس" أنفاسهِ الملتهبة و عيناهُ تحيدان نحو "رهيف" المتسمرة تلقائيّا، فعاد ينظر نحوهُ و هو ينهض عن جلستهِ مرددًا بنبرة حازمة:
- تعالى معايا، عايـزك
رضخ "يوسف" لرغبته، فنهض هو الآخر و هو يدفع المقعد للخلف، و سار في أعقاب "فارس" حينما كانت "حبيبة" تتبادل الحديث مع "يارا" و هي تسألها في فضول:
- هو كان مسيحي؟
- هو مش باين انه أمريكي!
أومأت "حبيبة" في تفهمٍ ثم قالت:
- آه.. عشان كده ملامحه غريبة و بيتكلم مكسر، أنا أول ما شوفته قولت كده
عيناها حادتا نحو باب غرفة الطعام، و لم تتمكن من ردع رغبتها في الاطمئنان على زوجها، فنهضت عن جلستها و هي تردد بخفوت:
- كملوا أكلكم.. ثواني و هرجع
لاحظت تشتت "سهير"، و شرودها البادي، فخطر ببالها فكرة ما، خطت نحوها، و انحنت إليها لتهمس ببضع كلمات، فوضت عينا "سهير" بوميضٍ لامع.
........................................................
يمجّ من سيجارتهِ و ينفث دخانها كاللهب، يقف في الشرفة مستندًا بمرفقه لسورها و هو يحدق بنقطة ما في الأفق البعيد، لا يعلم حتى ما أصابه، و كأنه أول الأشخاص الذي يملك اسم والده، و كأنهُ اسم مقدّس لا يريده لسواه، و لكنهُ يعود فيصطدم بالواقع المرير، و كأنها استفاقة من غفوة مؤقتة..
 والده لا يستحقّ، و على الرغم مما كشف عنه من حقائق مُرّة إلا أنه لا يزال مرتبطًا بهِ بروحهِ لا فقط يعشقه، لا يمكنهُ الخلاص منه، و كأنه داء لا دواء له، انتبه "يامن" إلى تلك الحركة من خلفه، فاستنبط هوية القادم، قبض جفونه قوة حتى استمع لصوتها و هي تردد بخفوتٍ قلق:
- انت كويس يا ابني؟
سحب "يامن" السيجارة من بين شفتيه و هو يُفرق جفونه و قد استعاد صلابته و شراسته، نفث دخان السيجارة، ثم ألقى بعقبها عبر الشرفة، التفت "يامن" إليها نصف التفاتة و هو يردد بابتسامة جانبيّة ساخرة:
- ابنـك!.. انتي نسيتي نفسك يا سهير؟
رجفة دبّت ببدنها و قد شعرت بالخوف ينخرُ عظامها، حملقت عيناها المرتعدتين به مستشعرة نفسها تعود لنقطة الصفر، حتى ردد "يامن" بلهجة أشد شراسة و قد اصطبغ وجهه بالحمرة أثناء ضربهِ بقبضته المكورة لسور الشرفة:
- اسمي يامن بيه.. مسمعش ابني دي منك تاني!
ارتد جسدها خطوة للخلف و قد شعرت بصقيع يضرب بأوصالها، حتى التفت إليها التفاتة كاملة، فتبيّنت لها نظراتهِ كصقر شرس تلتمع عيناهُ في الظُلمة الحالكة أثناء قولهِ القاتم:
- طالما رضيتي تعيشي خدامة طول عمرك يبقى تقضي اللي باقي منه خدامة و تموتي خدامة!
انبجست العبرات الحارقة بصمت من عينيها و هي تومئ عدة مرات بتحسّر هازئ، ثم رددت بنبرة حاولت ضبطها لتكون متماسكة:
- أمرك يا.. يامن بيه، عن إذنك
و انصرفت من الشرفة، ضرب "يامن" مجددًا بقبضته المتكورة السور و هو يزفر في انفعال مزمجرًا بغضب مستعرّ.
...................................................................أنعش
و في شرفةٍ أخرى.. تطلّع إليه "فارس" بلومٍ جاف، و هو يستند بظهرهِ لسور الشرفة، في حين كان "يوسف" مائلًا بجذعهِ قليلًا، مستندًا بمرفقيه للسور، و عيناهُ تجوبان الأفق بنظرة شموليّة، حتى بادر "فارس" عقب أن حرر زفيرًا حارًا من صدره:
- لسه مش مصدق! معقول انت بتستهتر بدينك للدرجة دي
فكان ردّ "يوسف" قاطعًا و هو ينظر نحوه بصلابة من طرف:
- Fares.. I know very well what you are thinking, but believe me, I converted to Islam with complete conviction
" فارس.. أعلم جيدًا ما تفكر به، و لكن صدقني، لقد اعتنقت الاسلام عن اقتناع كامل"
فردد "فارس" مستهجنًا و عيناهُ تضيقان:
- يعني مش عشان تتجوز رهيف مثلًا؟
صمت.. صمت مطولًا و قد ران بنظر للأفق، نظرة شاردة في خباياها الكثير، ثم نطق أخيرًا و قد غلّف القنوط نبرته:
- No.. and I realize she wouldn't agree to that idea either
- لا.. و أدرك أنها لن توافق لأجل تلك الفكرة أيضًا
و شبك أصابع كفيهِ معًا و هو يرتفع بأنظاره لصفحة السماء التي عمّتها أحداق النجوم المضويّة، ثم حرر زفيرًا ملتهبًا عن صدره و هو يردد باستياء:
- It's...just a reason, I feel it
- إنها.. مجرد سبب، أشعر بذلك
فسأل "فارس" و قد ارتفع حاجبيهِ في شدوهٍ لما آل إليه حالهُ:
- انت حبيتها؟
و كأنهُ اعتصر بقبضته فؤاده، غامت عيناه و هو ينظر نحوهُ نظرة مكلومة، ثم حاد عنهُ و هو يردد بإيماءة بسيطة:
- yes,..I did
أطبق "فارس" على أسنانهِ مستشعرًا ما يمر به، كان جليّا عليه، على الرغم من إنكاره الدائم، إلا أنهُ بالفعل عاشق.. هو أكثر الناس قربًا إليه، يدرك جيّدًا متى يقول الصدق و متى يكذب بالقول، انعقد حاجبيّ "فارس" و هو يحنى أهدابه عنه مطلقًا سراح زفيرًا حارًا من صدره، حتى ردد "يوسف" متابعًا:
- We are still from two different worlds faries, and our worlds will never meet
- لا نزال من عالمين مختلفين فارس، و لن يجتمع عالمينا
رنا "يوسف" بنظرهِ لمعصمه الذي لاح عليه أثر الصليب الذي محاهُ، ثم قال بابتسامة مريرة:
- The past.. always stands on our way.. Faries
- "الماضي.. يقف أمامنا دومًا فارس"
تنهد "فارس" بضيق أطبق على صدره، و لم يملك إلا أن يلفّ ذراعيه حول جذع رفيقه معانقًا إياهُ، بادلهُ "يوسف" العناق و قد خارت قواهُ و صلابته، حيث قال بلهجة مكلومة:
- Why Farıes?... If she wasn't mine from the start?
- لمَ فارس؟.. إن لم تكن لي منذ البداية؟
ربت "فارس" على ظهره بقوّة محاولًا احتوائه، ثم قال بتنهيدة مطوّلة:
- كل حاجة هتتغير يا مايكل.. متقلقش
ابتعد "يوسف" قليلًا و هو يناظره بأعين جادة، ثم صحح لهُ خطأه:
- يوسُف.. يوسف فارس
انبعجت شفتيه بابتسامة باهتة و هو يربت على كتفهِ، ثم ردد بخشونة:
- يوسُف يا عم، و لا تزعل
- صلّيت؟
اتسعت ابتسامة "فارس" الباهتة حتى برزت أسنانه، و قد لاح أمام عينيهِ مشهدًا مشابهًا، فقال "يوسف" متابعًا بتنهيدة مطولة:
- I started a new page, do as me!
 
و تقوست شفتاهُ عن ابتسامة باهتة و هو يلتفت ليلقى نظرة شاردة بعيدة ثم ردد بغموض:
- خطوة جديدة أريد أن أخطوها، خطوة ستشكل فارقًا لي
تغضن جبين "فارس" و قد ضاقت عيناه و هو يسأل:
- إيه هي
انعطفت نظرات "يوسف" نحوهُ و هو يردد باقتضاب:
- آتمر!.."أعتمر"
توسعت عينا "فارس" غير مستوعبًا ما قاله، فتابع "مايكل" شارحًا باستفاضة:
- أذنبت كثيرًا، أريد أن أمهو ذنوبي
و قبل أن يهمّ "فارس" بالحديث، كان "يوسف" يقول:
- ابدأ صفهة جديدة مثلي، لأجلها!
- نعم؟
-I know you love her very much, faries
-"أعلم أنك تحبها كثيرًا فارس"
فتظاهر "فارس" بعدم الفهم و قد ارتبك قليلًا و هو يحيد عن عينيهِ:
- هي مين دي؟
فلم يجبهُ "يوسف" إجابة شافية، بل ربّت على كتفه و هو يتصنّع الابتسام على الرغم من ذلك الثقل الذي يجثو على صدره، ثم ربت على كتفه و هو يقول:
- Let's pray together, farie.., come on
- دعنا نصلي معًا فارس، هيّا
...........................................................
لا يزال يمجّ من سجائره بشراهة و يلقى عقب واحدة تلون الأخرى عبر الشرفة، حتى استشعر حركة من خلفهِ مجددًا، و بزغ من خلفهِ صوت "فارس":
- هديت؟
و استند بظهرهِ لسور الشرفة جواره و هو يتطلّع لجانب وجهه المتجهم الذي تبين له وسط الظلمة، سحب "يامن" نفسًا عميقًا من سيجارته، و لفظهُ فصنع سحابة رماديّة من الدخان أمامه و هو يسأل باقتضاب:
- مشى؟
أومأ "فارس" عقب أن حرر زفيرًا حارًا من صدره:
- مشى
و عمّ صمت مهيب لم يقتطعهُ أحدهما لدقائق، حتى قرر "فارس" كسر حاجزه الجليديّ بقوله:
- مكانش قصده إنه ياخد اسم عمي يا يامن
فقال "يامن" بلا اكتراثٍ جامد ظاهريّ:
- مش فارقة
نظر "فارس" أمامه نظرة مطولة شاردة، زمّ شفتيه غير مدركًا كيف يفتتح الموضوع معه، ثم بادر بتردد و هو يلتفت نحوه مجددًا:
- يامن.. في حاجة لازم تعرفها
و كأنهُ استنبط ما يودّ التفوه به قبل أن يفعل، ناظرهُ "يامن" من طرفه، ثم أوجز في قولهِ:
- عارفها
تغضن جبين "فارس" و قد اضمحلّت المسافة بين حاجبيه، و سألهُ بجديّة متشككة:
<
"الفصل الثاني و الثمانون"
طوال الطريق لم تكفّ عن تشنجها و انفعالها الزائد في كل حركة و لو بسيطة تصدر عنها، حتى بلغا القصر الجديد الخاص بهم، فوجدتها فرصة سانحة للهروب، ترجّلت "يارا" عن السيارة صافعة الباب بعنف في وجههِ فتابعها بنظراته المُحتدة قبل أن يترجل هو الآخر صافقًا الباب، حثّ "يامن" خطاهُ ليبلغها، ثم اجتذبها من مرفقها ليجبرها على الالتفات إليه و هو ينظر لعينيها مباشرة بنظرة ناريّة، ثم ردد بنفاذ صبر متضجّر:
- انتي هتفضلي كدا كتير؟
سحبت بعنفٍ مقصود ذراعها من قبضته و هي تهدر باحتداد:
- أنا أساسًا واحدة بتلكك عشان تتخانق، حاسب عديني
و قبل أن تهمّ بالمضي كان يستوقفها بقولهِ القاتم و هو يجتذب ذراعها بعنفٍ أشدّ مستهجنًا فعلتها:
- آخر مرة تسيبيني و تمشي و أنا بكلمك
فصرخت فيه بعنفٍ هادر:
- المفروض إني أسمع أوامرك بالحرف و أنفذها؟ ليـه؟ ها؟ ليــه؟
و صمتت هنيهة تلتقط أنفاسها المهتاجة ، قبل أن تتابع و عيناها تضيقان في شجبٍ:
- عشان انت الراجل مش كده؟.. عشانك الراجل تعمل اللي هواك و اللي على مزاجك، تبوس دي و تحضن في دي و تفعص في دي عادي، مش كده؟
و قبل أن يقاطعها كان تقول قاصدًا إشعال جذوات الغضب بداخلهِ:
- لكن لو اتبدلنا.. لو انت شوفتني ببوس واحد قدامك كنت هتسكت؟
رُغمًا عنه.. انطبقت أناملهُ أكثر على عضدها حتى شعرت بأصابعهِ الغليظة تترك آثارها عليها، تأوهت بصوتٍ خفيض و هي تحنى أهدابها عنهُ صارخة و هي تحاول سحب ذراعها منهُ:
- سيب إيدي.. انت بتوجعني!
أطبق بكفهِ الآخر على فكّها بشئ من العنفٍ ليجبرها على النظر إليه و قد ارتجفت عضلة من عضلات صدغيه و هو يحدجها بنظرة شعرت بها تخترقها، شعرت بأصابعهِ تحفر حفرًا في وجهها و تكاد تُهشم عظام فكها، دنا بوجههِ من وجهها مُقلصًا المسافة بينهما، فلفحت أنفاسهِ المنفعلة بشرتها كنفحاتٍ من حميم، أثناء ترديدهِ الذي كان أشبه بالفحيح و قد تعمّد أن يخفض نبرته لتكن أشدّ وقعًا على خلاياها قبل مسامعها فتثير اضطرابها:
- كنت أخلص عليكي قبل ما تكوني عاملاها!
نهج صدرها علوًا و هبوطًا بانفعال و قد توهّج وجهها بالحمرة، و بتحدٍ رددت:
- يبقى أنا كمان من حقي أخلص عليك!
كانت حركة مباغتة منها حين تسحّب كفها لتسحب من ملابسهِ سلاحه المرخّص، و ألصقت فوهتهِ بمنتصف صدره و هي تضيق عينيها باستهجان:
- صح و لا غلط؟
أرخى قليلًا قبضته عن فكها دون أن يحررهُ، و لكنه حرر ذراعها و شفتيه تنبعجان بابتسامة قاتمة و هو يردد بصلابة:
- اتفضلي!
شعّت عيناها شررًا مستطر في نظراتها الموجهة نحوه، ثم قالت بغيرة مُستعرة لم تتمكن من مواراتها:
- هي ميـن؟
فكانت نبرتهِ متحديّة على الرغم من بروده:
- و لو مرديتش؟
تشبثت "يارا" بمقبض السلاح بكلتا يديها و هي تحركهُ لليسار قليلًا، حيث تتسلط فوهتهِ على موضع قلبه النابض، و هي تنطق من بين أسنانها محذرة:
- هي.. مين؟
- تالين!
...............................................................
 كانت قد غفت على الأريكة و كأن شعور الانهاك و كثرة التفكير تملّك منها، استغلّت هي سكون الوسط و قد اعتقدت أن أختها أيضًا تغطّ بسباتٍ عميق، و قد استمعت إلى بضع كلمات متناثرة عن ذلك الحديث الذي جرى صباحًا مع ابن عمّها، و ما استنتجتهُ أنه طلب أختها للزواج، و لم تفهم شيئًا آخر..
 خطت "يورا" بخطى رشيقة نحو المطبخ و قد دغدغ الجوع أمعائها، فراحت تبحث عمّا يرضيه، دلفت و كادت تمضي نحو البرّاد، و لكنها تجمدت محلها حين وجدت "ولاء" تجلس دافنة وجهها في ساعديها المستندة بهما أعلى المنضدة التي تتوسط المطبخ، تاركة قدح الشاي الخاص بها أمامها و قد بدا أنها لم ترتشف منهُ رشفة واحدة حتى..
 همّت "يورا" بأن تقبل عليها تلقائيًا و قد أثار صوت نحيبها المكتوم شعورًا غريبًا لديها، و لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة، كادت تعود أدراجها و قد عبست مفسرة أنا الأمر برمتهِ لا يعنيها، و لكن شهقة امتزجت بأنّة متوجعة من "ولاء" المجبرة ساقها جعلتها تلتفت مجددًا رغمًا عنها، لم تقوَ "يُورا" على الوقوف ساكنة، أو أن تتركها هكذا وسط انهيارها التام،  فسارت نحوها بتروٍ متلكئ و هي تطرق برأسها، أصغت "ولاء" لخطاها القريبة منها، فارتفعت إليها عينيها الوامضتين العبرات التي اكتظت بها، تبيّن لـ "يورا" وجهها المصطبغ بحمرة البكاء و شعيرات عينيها الدموية، فتنهدت بحرارة و هي تربت على كتفها برفقٍ مدمدمة بترقق:
- إيه اللي مزعلك كده؟
فـ وجدت نفسها عفوية للغاية و هي تفضي إليها القول من بين نشيجها:
- تعبانة.. تعبانة أوي
و ألقت بنفسها في أحضانها و كأنها رأتها شقيقتها "يارا"، ارتكنت برأسها لصدرها و هي تلف ذراعيها حول جسدها و هي تردد بمرارة ممزجة مع شهقتها المقطعة لنياط القلوب:
- و بحبه أوي!.. أوي
و كأن صاعقة مسّتها، ارتجف جسد "يورا" و اختضّ بأكمله دون أن تلاحظ "ولاء" ذلك مطلقًا وسط ما تعانيه، جفّ حلقها و حملقت عيناها بها و هي تخفضهما نحوها، ازدردت "يورا" ريقها و قد بدت مرتبكة للغاية، للحظة حاولت دفعها لتدحرها عنها، و لكن استوقفتها "ولاء" و استبقتها بقولها الباكي:
- مش هقدر أنام غير لما أسمع صوته، و مش راضية أرد عليه، مش عارفة أنام!!
و انخرطت في نوبة من البكاء، فارتفع حاجب "يورا" استهجانًا، ثم قالت بعبوسٍ متصنعة الضجر:
- طب ما هو اتقدم لك و هتتجوزوا، عايزة إيه بقى!
فصرخت "ولاء" باحتجاج:
- لأ طبعًا.. مش موافقة
فسألتها "يورا" و هي تضيق عينيها في اغتياظ:
- انتي عندك شيزوفرينيا؟!
دحرت "ولاء" نفسها عن شقيقتها، ثم نظرت لشاشة هاتفها التي انبثقت باتصال هاتفيّ منهُ للمرة المائة ربما، فعبست أكثر و انبجست العبرات من عينيها، سحبت "يورا" مقعدًا لها و هي تلقى نظرة لهاتفها، ثم جلست جوارها و هي تعقد كفيها معًا عقب أن نفضت خصلاتها للخلف، و سألتها ببرود:
- مش هتردي
فرددت صارخة باعتراض رافض:
- قولت لأ
بحركةٍ مباغتة، سحبت "يورا" الهاتف لتجيب اتصالهِ، فحملقت عينا "ولاء" بها غير مستوعبة فعلتها، حتى رددت "يورا" و هي تفتح مكبر الصوت:
-حبيبتك قاعدة تعيط زي المجانين، بتقول مش عارفة تنام غير لما تسمع صوتك.. سمعها صوتك من غير ما تكلمها لأنها مش هترد عليك!
 زفر "فارس" حانقًا و هو يحني أهدابهِ، فأطبقت "ولاء" أسنانها بغيظٍ و هي تنظر نحوها بتمقّط تام، حاولت سحب الهاتف منها و قد تحجرت الدموع في عينيها، و لكن "يورا" راوغتها فلم تتمكن، حتى استكان جسدها مع صوتهِ الذي بزغ من الهاتف:
- ولاء.. أنا مقدرش على بعدك، مقدرش أعيش يوم واحد من غير ما أسمع صوتك، مقدرش أعيش من غيرك يا ولاء، متحكميش على قصتنا بالموت قبل ما تبدأ و تدفنيها عشان غلطة أنا مليش ذنب فيها يا ولاء، أرجوكي فكري تاني
و صمت هنيهة، فلانت نظرات "يورا" و قد تأثرت من كلماتهِ التي تعبث بالأوتار، نظرت نحو "ولاء" نظرة مشجعة لتحثّها على الرد، و لكنها زمّت شفتيها بعبوسٍ دون أن تجيبهُ، و كأنهُ إعلان عن تمرّدها، حتى تابع "فارس" معترفًا:
 - أنا بحبك يا ولاء.. و الله العظيم بحبك
أسبلت "ولاء" أهدابها و قد عادت العبرات تنساب على طول وجنتيها، كبتت شهقاتها التي تصارع في تمرد لتظهر بشقّ الأنفس، حتى لكزتها "يورا" لكزة خفيفة في ساعدها و هي تشير بعينيها إليها لتجيبهُ، و لكنها ظلّت متسمرة لم ترفع حتى نظراتها إليها، فتنهد "فارس" بحرارة و هو يعقد حاجبيهِ، ثم قال شاجبًا موقفها:
- يعني مش عايزة تردي بردو؟
حاولت "يورا" تلطيف الأجواء فيما بينهما، فهمست بابتسامة باهتة:
- معلش.. هي هتعرف تنام لكن انت مش مكتوب عليك النوم النهاردة!
- ولـــ.....
أنهت "يورا" المكالمة قبل أن يُنهي نطقه باسم محبوبتهِ، فرددت "ولاء" و هي تنظر للهاتف باستنكارٍ معاتب:
- رديتي ليه؟
رفعت "يورا" كتفيها و هي تقول بسلاسة كاذبة:
- عشان عايزاكي تنامي و أخلص منك و من صوت عييطك ده، لأني بجد مصدعة جدًا
انبثقت نظرة ناريّة من عينيّ "ولاء" نحوها، ثم قالت و هي تنزح عبراتها بعنف:
- أنا مش عارفة قاعدة بعمل إيه معاكي أصلًا
نهضت "يورا" مبادرة، ثم مضت نحو البراد و هي تهتف ببرود و كأن الملل قد أصابها:
- و لا أنا.. لكن أنا بصراحة مش همشي لأني جعانة جدًا، انتي امشي براحتك
و راحت تبحث في الأرفف عقب أن فتحت البرّاد، فلم تجد ما يسدّ جوعها سوى أنواع الجبن العديدة التي لم تستسيغها في تلك اللحظة تحديدًا، زفرت بحنق و هي تتوسط خصرها بكفها، ثم رددت و هي تقوس شفتيها بانزعاج:
- أوف.. مفيش غير الجبن، أنا نفسي في بطاطس محمرة
- بتحبيه؟
التفتت "يورا" إليها لتجيبها بتلقائيّة شغوفة:
- جـدًا، متتخيليش بحبه قد إيه
و راحت تنظر للأرفف نظرة عابرة شموليّة قبل أن تصفع البراد في سئم مغمغمة:
- لكن أنا فاشلة.. مش بعرف أطبخ
نقطتين تشاركتا بها التوأمتين جعلت شفتيها تنبعجان عن ابتسامة رغمًا عنها، و قبل أن تهمّ "يورا" بالرحيل و قد تهدل كتفيها حين لم تجد ما يُشبع جوعها، كانت "ولاء" تستبقيها و هي تمسح ما علق بأهدابها من دموع:
- طب استنى.. أنا هعملك
توقفت "يورا" محلها، ثم التفتت إليها و هي تسألها بتشكك:
- بجد؟
- بجد
تحمّست "يورا" كثيرًا و هي تعاود الجلوس مجددًا، ثم قالت ممتنة إليها بابتهاج:
- teşekkürler çok teşekkürler
 - "شكرًا.. شكرًا جزيلًا"
-rica ederim
- "على الرحب و السعة"
..................................................................
سنوات عمرهِ مرّت أمام عينيه و قد تكرر مشهدًا ما أرهق روحهُ و عذبها بما يكفيه و يفيض، ذلك المشهد الذي تسبب فيه بقتلها، و إن كان لم يقتنع أنهُ فعلها يومًا، و ألقى الذنب كاملًا على "يامن".
لم ترمش عيناهُ و هو عالقٌ عليها بشخوصٍ، حتى دمدم باسمها، حينها فقط.. انجلت الوداعة عن وجهها، و تلاشت بسمتها و قد بددتها الرياح، لتحلّ محلها ملامح شرسة قاسية، استجمعت "تالين" بأسها لتجيبهُ بأنفٍ مرفوع بشموخ:
- لسه فاكرني يا نائف؟.. و لا نسيتني؟
ارتجفت شفتاهُ و هو يعود خطوة للخلف و شحوب وجههِ يتفاقم، شعر بالدماء تفور في أوردتهِ، هزّ "نائف" رأسه نفيًا و هو يرفض وجودها رفضًا قاطعًا:
- مستحيـل.. مستحيل تكوني حقيقة! انتي مُتّي، انتي ميتة!
تراءت لهُ ابتسامة مريرة هازئة غزت محياها و هي تجيبهُ بسخرية:
- أنا مُتت يا نائف.. مُتت من زمان أوي، مُتت كتير، و أولهم كانت لما شوفتك معاها!
حلقهِ يجفّ و ريقهُ الذي يبتلعه فتتحرك تفاحة آدم بعنقه صعودًا و هبوطًا كالعلقم المرّ، في حين حادت "تالين" بنظراتها عنه لتشمل غرفة مكتبه بعينيها اللاعتين ببريقٍ غريب و هي تردد طاردة تنهيدة حارة من صدرها:
- يــا.. يا ترى فات قد إيه على آخر مرة كنت هنا فيها؟
و راحت تخبط بطرف سبابتها ذقنها و هي تضيق عينيها و كأنها تتذكر:
- يا ترى قد إيه؟.. يوم؟ يومين؟ سنة؟ سنتين؟
هزّ مجددًا رأسه بالسلب و هو يعود مرتدًا للخلف خطوة، فقست ملامحها فجأة و هي ترتكز ببصرها عليه متحفّزة في وقفتها:
- و لا سبع سنين؟
فصرخ فيها:
- انتي متتي، أنا شوفتك بعيني!، انتي ميّتة!
ابتسامتها الشرسة كنمرة مجروحة اتسعت حتى أبرزت أسنانها من خلفها و هي تقول:
 انت محاولتش حتى تتدور على جثتي.. كأني كنت صفحة في حياتك و حرقتها!I think شوفتني!.. -
فبزغ صوتهُ و قد رعد بهِ بغضبٍ مستعرّ:
- يعني إيه؟.. يعــني إيـــــه!
- يعني يا زوجي العزيز.. يامن زوّر شهادة موتي، عشان كان عارف إنك مش هتسيبني غير في القبر!
« راقبتهُ عيناهُ اللاتي كأعين الصقر الثاقبة و هو يستقلّ سيارتهِ و قد بدى و كأن الجنون قد مسّه فسارع بالفرار عن هنا و هو يتحدث بكلماتٍ مبهمة، و فور أن تحرك بالسيارة مخلفًا ذرات الرمال بصق "يامن" في إثره و هو يسبّه بأقذع الألفاظ، انحرفت عينا "يامن" و هو يخطو نحو الحافة أثناء خلعهِ لسترته و تركها أرضًا و قد فتح أولى أزرار قميصه فتبيّن حافة السترة المضادة للرصاص من أسفله، حتى توقف لدى الحافة تمامًا، و التي توقف كالسدّ المنيع أمام "نائف" احتياطًا لئلّا يعبرها، فتراءت لهُ تجلس على ذلك النتوء القريب للغاية و البارز من الجبل و قد فاضت عيناها بالدموع، انحنى "يامن" فارتفعت أنظارها نحوهُ لتتبين لهُ تلك الموضة اللمعة بعينيها الدامعتين، بسط "يامن" كفهُ إليها و هو يشير بعينيه في إشارة مشجعة لها لتحتضن كفهُ بكفها، تقوست شفتيها بقهر و هي تنهض لتقف مستقيمة و قد انحنت هامتها، نظرت مطولًا لكفه الغليظ الذي ينتظرها، و بعد وقت لم تحتسبه كان كفها الرقيق يمتدّ ليضمه "يامن" إليهِ و هو يبسط ذراعه الآخر ليرفع جسدها إليه، حتى أجلسها لدى الحافّة و جلس جوارها، فلم يكن منها إلا أن استندت بجبينها على جبينهُ و أعينها لا تكفّ عن ذرف الدموع المتحسرة، لفحت أنفاسها الحارة وجههُ، فمرر "يامن" إبهامهِ على وجنتها في محاولة منهُ لتهدئتها:
- اهدى
- أنا تعبانة.. تعبانة أوي يا يامن
و ابتعدت قليلًا لتتبين لها نظراته الصلبة التي لم تتأثر، فهمست من بين أسنانها بمرارة:
- ليه يعمل فيا كده يا يامن؟.. ليــه؟
ألقى بكلماتهِ الواضحة في وجهها دون اكتراث لمحاولاتها لإفراغ ما بجبعتها، علّ سعير صدرها يخمد:
- انتي ميتة يا تالين.. سامعاني؟
أحنت أهدابها و هي تشهق شهقات متوالية، فـ أردف مُشددًا على كلماتهِ:
- نائف مش هيسيبك.. كان لازم أعمل ده
أومأت برأسها متقبلة ما كُتب عليها، و لكنها تشبثت بقميصهِ و هي تسألهُ باهتمامٍ قلق:
- انت كويس؟
لم يكترث لإجابتها، نهض عن الأرضية مستقيمًا في وقفتهِ و هو يجتذبها من عضدها ليجبرها على الوقوف، فشعرت بجسدها يخور بضعفٍ تملك منها، أحاطت جسدهُ بذراعيها و هي تلفّ إحداهما حول جذعه، و ارتكنت برأسها على صدرهِ و هي تردد بلوعة:
- كلمني يا يامن.. كلمني كتير، كلمني و قابلني، متسبينيش لوحدي يا يامن
- مش هسيبك
ارتفعت أنظارها نحوهُ فعلقت عيناها على خضراوتيه الملتهبيتين، انعقد حاجبيها و هي تُلحّ أكثر متشبثة بثيابه:
- هكلمك.. هكلمك ابقى رد عليا، خليك دايمًا جمبي يا يامن، أنا ماليش حد غيرك
فكانت كلمتهِ ككلمات أخرى لا يردد غيرها في مثل تلك المواقف:
- متخافيش.. أنا معاكي!
فراحت تهذر بالكلمات التي تركت في نفسها ألمًا لا يوصف:
- قتل ابني يا يامن.. قتل ابني في بطني.. آآه، قتل ابني، قتلـه!»
..............................................................
كان اتفاقًا مسبقًا، خطة مُحكمة دبّرها "يامن"، كان هُو من اصطحب "نائف" لتلك المنطقة تحديدًا عقب مناورات بالسيارتين، و من بعدها أعان "تالين" على السفر للخارج، لـ "روما" تحديدًا، بهوية مختلفة تمامًا، فكان ذلك يسيرًا، لم ينقطع التواصل بينهما كما تعهّد لها، بالنهاية كان يشعر بتأنيب الضمير كونهُ المتسبب بزواجها من "نائف" فقط لتحاول محوهُ من ذهنها و حياتها، و لم تكن تعلم أنها فتحت بابًا من الجحيم على نفسها.
تراءت الذكريات و لاحت كوشمٍ ترك أثرًا لا يمحى في قلبها أمام عينيها و هي تراهُ بتعبيراته التي باتت أكثر شراسة، فتابعت "تالين" ببأس اكتسبتهُ طوال تلك السنون و هي تعقد ساعديها أمام صدرها:
- اتفاجأت؟ و لا اتضايقت؟
كان مندفعًا مهتاجًا و هو يخطو من جوارها أثناء جأرهِ:
- و عزة جلال الله ما هيعدي اليوم عليه غير و هو في قبرهُ
و لم يكترث لوجودها، لم يكترث سوى لفكرة واحدة نمت في ذهنه و أينعت، لقد عانى بفقدان زوجتهِ، عانى بتعذيب الضمير، عانى بذنبٍ لم تقترفهُ يداه، و في النهاية و بعد سنوات يكتشف دون سابق إنذار أن معاناتهِ لم تكن سوى معاناة وهميّة، تابعت "تالين" رحيله بأعين ناقمة أثناء غمغمتها:
- بالعكس.. اليوم مش هيعدي عليك انت غير و انت في قبرك، و حقي منك هاخده بإيدي!
خرجت "تالين" من الفيلا الصغيرة الخاصة بـ "نائف" بأكملها لتستقرّ في مقعد السائق بسيارتها، ضغطت "تالين" على دوّاسة البنزين و هي تنطلق بأقصى سرعتها لتتبعهُ، مناوراتٌ عِدة بينهما ليُضللها و لكنهُ لم يتمكن، و إذ بـ "تالين" تصدم خلفيّة سيارته بمقدمة سيارتها صدمة عنيفة ارتدّ بها جسدها للأمام، فصرخ "نائف" و هو يحاول التحرك للجانب قليلًا:
- يا بنت المجنونة!
تهشّمت مقدمة سيارتها و أصابت بخدوشٍ عدة من كثرة ارتطامها لتجبرهُ على السير في الطريق الذي تبغيهِ هي، و لم يكن قادرًا على صدّ هجماتها العنيفة التي تتطلب رطمهِ لسيارتها أيضًا، و لكنهُ لم يفعل، حتى اقتادتهُ "تالين" لدهاء لنفس البُقعة، توسعت عينا "نائف" في شدوهٍ مريب و هوى يرى السيارة تقتاد فعليّا للحافة و "تالين" تدفعهُ دفعًا بسيارتها، و ما إن حاول أن يمنع حدوث ما رأى أنها قد عقدت العزم على تحقيقهِ، كانت "تالين" تمنحهُ دفعة قوية للأمام جعلته يفقد السيطرة كُليّا على السيارة، شحب وجههُ شحوب الموتى و قد بلغ قلبهُ حنجرتهِ، حتى انتشت "تالين" تمامًا و تملّك الظفر منها قد شعرت بأنها نالت ثأرها أخيرًا و بعد طول انتظار منهُ، و هي ترى سيّارتهِ تهوى عن ذلك الارتفاع الشاهق.
 و ما هي إلا دقائق.. بضع دقائق فقط و كانت أذناها تطنّان من صوت الانفجار المدوّي الذي أفزع الطيور التي شرعت تخفق بأجنحتها مبتعدة عن هنا، حينها فقط شعرت أن الهواء الذي تطردهُ من صدرها زفيرًا عاديّا، لا لهيبًا مسعرًا تربع في أحضانها طوال تلك السنون انبعجت شفتاها ببسمة ظافرة و شابها الألم الساحق في الوقت ذاته، تلمّست "تالين" تلقائيّا بطنها التي خلت من طفلها منذ زمن بعيد و قد تشوشت الرؤية لديها لدى تجمّع العبرات الغزير في مقلتيها، تركت العنان لدموعها المريرة لتنحدر على وجنتيها، و هي تغمغم  بارتياحٍ:
- رجعت حقك يا روحي.. رجعت حقك خلاص!
« كانت "الڤيلا" الخاصة بهما خالية من جميع الخدم، و يعمّها الظلام المهيب و يكسوها بدهاليزها و خباياها، حينما كانت  تستعين بإنارة هاتفها و قد تفاجأت بالكهرباء منقطع و لا تعلك كيف صِدقًا لتتمكن من التماس طريقها حيثُ تصعد للأعلى، خطت في الرواق المؤدي لحجرتهما و لكنها تيبّست محلها و قد شعرت بقلبها يتواثب قرعًا بين أضلعها، كتمت شهقاتها بكفها و قد انسابت العبرات الحارقة على وجنتيها و هي تستمع لتلك الضحكة الرقيعة التي بدت واضح للغاية وسط ذلك السكون، أرهفت السمع فلا تعلم  كيف ازدجت ساقيها لتبتعد عن هنا و قد شعرت بالغثيان.
 الأرض تميد بها، و الدنيا ضاقت عليها بما رحُبت، راحت تترجل عن الدرج ركضًا و قد تملّك منها الاختناق الرهيب و أطبق على أضلعها، زوجها يجتمع بإحداهنّ في غرفتهما التي جمعتهما، أعلى فراشٍ ضمّها معًا، و هي لا تملك سوى الفرار و كبح شهقاتها و نحيبها بشِقّ الأنفس، طعنة غادرة لأنوثتها من جديد، و اليوم بأكثر بشاعة ، شعرت بصعوبة في التنفس..
 همّت بالرحيـل و قد تعهدت أنها ستكون المرة الأخيرة التي تدلف فيها مجددًا حتى تيبّست قدماها تمامًا و هي تلمح شيئًا ما مُلقى على إحدى الأرائك، خطت نحوه مجبرة ساقيها على الحراك و هي تسلط إنارة الهاتف عليه، إنها حقيبة رفيقتها المقرّبة، رفيقتها منذ الطفولة، بهت لون وجهها و شحب شحوب الموتى و هي تنفي برأسها في رفضٍ قاطع لما يدور بخلدها، و بحركة مرتجفة إثر ارتعاشة كفيها الحاملين للهاتف راحت تمرر إبهامها على شاشته لتقطع شكها باليقين على الرغم من يقينها المُؤكد، و تبدد كل شئ.. كالسراب الوهميّ.. حين صدح رنين هاتف رفيقتها من هاتفها الذي تحويه حقيبتها، خطوة للخلف خطتها لتبتعد عن محيط الحقيبة و كأنها حيّة تسعى لتدغها، ريقها كالعلقم المُر و قد علقت به غصة معذبة لروحها..
تلاحقت أنفاسها فنهج صدرها علوًا و هبوطًا، تأوّهت "تالين" و هي تلفّ بطنها التي تضُم طفلهما بذراعها و قد داهمتها آلامًا تكاد تفتك بها، و لم تجد سواهُ لتلتجئ إليه، اقتادت قدماها رغمًا عنهما تجرّهما جرًا و أنفاسها تتلاحق بشكلٍ مريب و قد تفصّد جبينها بحبات العرق المُتلألئة، حتى أتاها ردّه حين كانت تخرج عن البوابة الرئيسيّة للفيلا، فرددت غير قادرة على تحمل الألم الساحق من بين تهدج أنفاسها:
- يـ..يامن الحقني، الـ..الحلق ابني، ابني هيموت يا يامن، هيموت بسببه! »
تذكر جيّدًا حين ترك "يامن" ما بيده و أتاها ركضًا و نقلها من فوره للمشفى، في محاولة منهُ للحفاظ على حياة طفلها و ابن رفيقهِ المقرب  الذي أضحى إليه ألد الأعداء، و لكنهُ فشل في النهاية، لم يتمكن من إنقاذه، فقدت طفلها و فقدت معهُ روحها، بسببهِ و بسبب ملذّاته المحرمة التي كان يغرق بها، طعنةً من رفيقتها المقربة، طعنةً منهُ، طعنة قصمت ظهرها لفقدانها طفلها الذي لم تُكتب لهُ الحياة.
 تنفسّت "تالين" أخيرًا الصعداء و هي تقبض جفونها بارتياح تسلل لروحها المعذبة بعد سنون، و لم تملك إلا أن تقول و كأنها توقن لنفسها:
- خدت حقك.. ارتاح يا روحي، ارتاح!
............................................................
إنهُ شعورٌ فريـد.. جعل الراحة و الجذل و الحبور الرهيب يتسلل لنفسها أخيرًا عقب أن أدركت أنها تخلّصت من كابوسهِ و طيفه الذي عكّر صفوهم مطوّلًا، و أخيرًا.. صار "نائف" مجرد جثة متفحّمة عقب أن فحّم الكثير و سفك دماء الكثير ممن لم يكن لهم يدًا بالأمر، لقى نهاية تليقُ بهِ بعد طول انتظار، نزحت "يارا" أي شعور بالحنق من زوجها جانبًا إثر إخفائهِ تلك الحقائق التي قصّها عليها تباعًا البارحة.
وقفت "يارا" في منتصف المطبخ و هي تردد موجّهة حديثها للطباخ:
- و عايزاك تعمل كمان بروست.. ولاء بتحبه، آه و مكرونة بشاميل.. ماما بتموت فيها و ...
اخترق حاسّة الشمّ لديها عبقه فالتفتت من فورها لتجدهُ يقف مستندًا بكتفه لإطار الباب، اتسعت ابتسامتها التي زيّنت محياها و هي تخطو نحوهُ بتلهفٍ أثناء قولها المُبتهج:
- أنا مش مصدقة يا يامن.. مش مصدقة إننا خلصنا منهُ أخيرًا
تلفت "يامن" حولهُ و رائحة الطعام الشهي تدغدغ أنفه، ثم عاد ينظر إليها و هو يضيق عينيه مستفسرًا:
- إيه كل دا!.. انتي عازمة حد؟
أومأت برأسها و هي تردد بإشراق:
 - أيوة.. كلهم جايين النهاردة
اضمحلّت المسافة بين حاجبيه و هو يردد بعدم فهم:
- كلهم!
اصطحبتهُ للخارج و هي تردد بجذل لا يُوصف:
- مش مهم.. المهم ان النهاردة أسعد يوم في حياتي
و توقفت في منتصف البهو فتوقفت أمامها بدوره، شملت وجههُ بعينيها التي تكادان تدمعان من فرط الحبور، تشبثت بكفهِ بكف، و لفّت ذراعها الآخر حول بطنها و هي تردد بارتياح مُتلهّف:
- مش قادرة أصدق إن كل حاجة انتهت، انت لسه معايا، و ابننا معانا
و انبعجت شفتيها لتكشف اللثام عن أسنانها و هي تغمغم بعدم استيعاب:
- مش قادرة أصدق.. دي.. دي النهاية اللي كنت بحلم بيها، هي دي النهاية يا يامن
رغمًا عنهُ افترّ ثغره بشبح ابتسامة لم تصل لعينيه و هو يحنى أهدابهِ لبطنها الذي يضُم طفله، ثم عاد يرفع نظراتهِ إليها مجددًا، دنا منها مقلصًا المسافة فلفحت أنفاسهِ الدافئة وجنتيها، طبع قبلة عابرة على طرف شفتيها فـ أطبقت جفونها مستسلمة لهُ كليّا، و ما إن همّ بالتقام شفتيها حتى استمع لقرع الجرس، فتأفف و هو يسبّ بصوت خفيض مبتعدًا عنها..
 حينما كانت هي بكامل تحفّزها و هي تتابعهُ بنظراتها، ألقت "يارا" نظرة لساعة الحائط فاتسعت ابتسامتها و تهدجت أنفاسها، ظلّت متوقفة قليلًا تتابعهُ بعينين متحديتين حتى بلغ "يامن" الباب، و ما إن أدار المقبض حتى تصلّبت ملامحه كليّا بشكلٍ يناقض ضجيج نبضاته الثائرة، تعلقت أنظارهِ بها مُطولًا، و لكنها فور رؤيته نكّست رأسها و هي تحرم عيناها فرصة إشباع جوعها إليه، ارتخى كفه عن المقبض و هو يحدجها بنظرة أظلمت فجأة، حتى غمغمت "سهير" بصوتٍ منكسر:
- يارا..قـ..قصدي يارا هانم كلتني يا يامن بيه، قالتلي إنها محتاجة مساعدتي و ..
حاد بنظره الجاف عنها و هو يقبض فكيهِ، فتابعت "سهير" بتلعثم:
- لو.. لو عايزني أمشي فـ..
- ادخلي
رددها "يامن" بصلابة آمرة رُغم أنفهِ، و هو يفتح لها الباب على مصراعيه، فدلفت ليصدح صوت زوجتهِ التي أقبلت توّا لاستقبالها من خلفهِ:
- ماما سهير.. ازيك؟
و ضمتها بعاطفة إليها فبادلتها "سهير" عناقًا اشتمّت فيه رائحة ابنها، لم تنحرف نظرات "يامن" للخلف على الرغم من كون صوتها يستحوذ على تركيزه بالكامل، حتى أقبلت "أُمنية" و هي تطرق وجهها خجلًا، رفع "يامن" عنها حرجها و هو يردد آمرًا مشيرًا بعينيهِ بلهجة ذات مغزى:
- ادخلي يا.. بنت خالتي!
عضت "أمنية" شفتها السفلى في توتر و هي تعبث بأناملها بارتباك، ارتفعت أنظارها إليه لتشمل وجهه بنظرة مختلفة، كان أبعد من خيالها.. أن يكون ذلك المتجبر المتسلّط ابن خالتها "سهير" التي اعتنت بها.
 نظرتها إليهِ طالت و هو يبادلها إياها أيضًا، حتى حادت هي أولًا و هي تمر من جواره غير قادرة على نطق كلمة واحدة، توقف "يامن" و هو ينفخ بضجر منتظرًا أن تنهى زوجتهِ أمر السلام و الترحاب الحفيّ الزائد، حتى دلفتا "سهير" و "أمنية" فمضت "يارا" نحوه و هي تسألهُ ببراءة مُصطنعة:
- مالك يا بيبي؟.. واقف عندك ليه؟
رمقها بنظرة ناريّة بعثت شررًا مستطرًا إليها و هو يطبق أسنانهِ في اغتياظ، ثم حاد عنها و هو يزفر في احتداد قائلًا:
- انتي اللي بعتيلها؟
أومأت "يارا" و هي تردد بسلاسة استفزّتهُ:
- أيوة.. ما انت عارف يا بيبي إني ماليش في جو الطبيخ ده خالص، و ماما سهير هي عارفة كل واحد في العيلة بيحب إيه و هتسهل عليا الموضوع و....
فقاطعها "يامن" بصرامة مُحتدة:
- يارا
فسألتهُ ببراءة و هي ترفع حاجبيها بلطف:
- نعم؟
نفخ "يامن" باختناق مبتلعًا كلماتهِ في جوفه دون أن يتمكن من نطق كلمة واحدة مما كاد يلقيها على مسامعها، ثم ردد و هو يشيح عنها:
-  أوف..أنا ماشي
- استنى
التفت إليها ليجدها تشبّ على أطراف قدميها لتمنحهُ قبلة خاطفة على شفتيه، و ما إن ابتعدت حتى اتسعت ابتسامتها و هي تمسح برفقٍ على صدره بكلتا كفيها متمتمة بدلالٍ:
- متتأخرش!
................................................................
طاولة عريضـة امتدت بأصنافها المختلفة ، جمعت أنواعًا شتى من الطعام و.. العُشاق.
يترأس "يامن" الطاولة على يمينهِ جلست زوجته، و على يسارهِ تُرك المقعد شاغرًا باتفاقٍ مُسبق بين "يارا" و "فارس"، فـ ما إن همّت "سهير" بأن تجلس في نهاية الطاولة، حتى رددت "يارا" من فورها و هي تشير إليها:
- تعالي يا ماما سهير.. مكانك هنا!
و أشار "فارس" بدورهِ لأمنية:
- تعالي يا أمنية جمب سهير
نظر "يامن" نحو زوجته من طرفه و قد تفهم تلاعبها الخبيث ذاك، فنفخ في ضيقٍ أطبق على صدره، و لكن "سهير" لم تتحرك قيد أنملة و قد تسلطت نظراتها على ابنها، حتى ردد "فارس" و هو يضع كفيهِ على كتفيها:
- تعالي يا سهير
و اقتادها.. فجلست مجبرة على يسارهِ، تململ "يامن" في جلسته و قد اخترق عبقها أنفهِ عن ذلك القرب، حاول جاهدًا ألا تحيد عينيهِ إليها، بينما يستشعر عينيها الفائضتين بالعبرات مسلطتين عليهِ..
جلست "أُمنية" جوارها امتثالًا لقول "فارس"، بينما جلست "ولاء" إلى جوار أختها تليها "حبيبة" و جوارها "رهيف"، و في النهاية جلست "يُورا" مفضلة الابتعاد عن الجميع، و قد أتت إلى هنا فقط امتثالًا لمطلب "فارس" عقب أن أوصل لها رسالة توأمتها، جلس "فارس" قبالة "ولاء"، و "مايكل" قبالة "رهيف" و قد رفضت "رهف" رفضًا قاطعًا أن تجلس جوار أختها، و فضّلت أن تجلس جوار "مايكل" ، و ما إن احتلّ كُل مقعده، حتى شرعوا يتبادلون أطراف الحديث، و ربما الضحكات الخافتة من حينٍ لآخر.
عداهُ.. حيث كان ملتزمًا الصمت التام و هو يتناول طعامهُ ، و كأن كل خلية بجسده متوترة، يكاد يشعر أنها تواري دمعاتها التي شقّت سبيلها على وجنتيها بطرف كم عبائتها التي تغذّت عليهم و تكتم شهقاتها بشقّ الأنفس، تبتلع غصاتها العالقة في منتصف حلقها، و تتظاهر بتناول الطعام و تبادل الأحاديث من حين لآخر  مع "يارا" التي حاولت أن تجتذبها من سكونها المُطبق عليها..
 استشعر "يامن" لمستها المحتوية لكفهِ الذي كان تاركًا له أعلى الطاولة و هي تسير بأناملها الرقيقة عليه ببطء فحثّته على النظر إليها، و كأنها تحاول بثّ رسالة ضمنية إليه، أنها جواره دائمًا كما طلب منها سلفًا، تعلقت عيناهُ بعينيها فشعر بفيض الحب الذي نمى و أينع في قلبها تجاههِ، منحتهُ "يارا" ابتسامة رقيقة زيّنت محياها، جمعت بين الرقّة و القوّة في ذات الآن، بدا لهُ و هي تناديها بـ"ماما" أنها أشاعت الحقيقة التي ابتدعتها من وجهة نظرهِ، بأن الجدّ المُتجبر كان السبب في ما آلت إليهِ حال "سهير" التي كان من المفترض أن تكون سيّدة قصر "الصيّاد" لا خادمتهِ..
 طرد "يامن" زفيرًا ملتهبًا عن صدره، غاضبًا منها.. نعم، بل ممتعضًا، و في الوقت ذاتهِ ممتنًا، كونها أقدمت على ما لم يجرؤ هو على الإقدام عليه، و أزاحت عنهُ ذلك العبء، تملّص بكفه منها متخلصًا من لمساتها الرقيقة في جفاءً أبداهُ نحوها، و لكنها لم تعبس، فهي تعلم جيّدًا أن جفائهِ ظاهريّا فقط، و إن لم يكن كذلك.. فهي تدرك أيضًا أنها قادرة على امتصاصهِ.
 عينا "ولاء" بجفنيها المنتفختين تحيدان عنهُ متهربة بنظراتها منه،.. كان قد لجأ إلى أختها "يارا" في اتصالٍ هاتفي، أفضى إليها القول برغبتها في الزواج من أختها، و سبب رفضها كونهُ ذنبًا ليس ذنبهِ، فطمأنتهُ بأنها ستتصرّف، و بالفعل نفّذت مطلبهِ.. ها هو يراها، يجلس أمامها مباشرة، يتأملها عن كثب و هي تعبث بخصلاتها فتعيدها للخلف تارة و تتركها تسقط على عينيها تارّة، بينما تتلاعب بملعقتها بشرودٍ متوتر في طبقها، سارت عيناهُ المتيّمتين على تفاصيل وجهها و تقاسيمهُ اللطيفة، فقرع قلبهُ في صدره، كيف سقط أسيرًا لعشق تلك الفتاة التي كان يعتبرها مجرد فتاة طائشة! لا يعلم كيف نجحت باجتذابهِ بذلك اليسر، و هو كتفاحة نيوتن تدحرج نحوها متأثرًا بالجاذبية، لن تكون لغيرهِ.. لقد تعهّد بذلك وأقسـم، أقسم ألا تكون سوى زوجتهِ، و إن كان عليه أن يختطفها و يتزوجها قسرًا كما فعل ابن عمهِ الذي كان يستهجن فعلتهِ فيما مضى سيفعلها و سيتزوجها رغمًا عن أنفها.
بينما "حبيبة" منشغلة بابنتها التي تراها من خلف "رهيف" بالكاد، تكاد "يورا" تبكي من فرط شعورها بالوحدة و النبذ، هي لم تكن يومًا منهم، تجلس وسط أناسًا لم تنتمِ إليهم، و كأنها بأرضٍ لم تنمُ فيها، أرضًا غير أرضها تدرك جيدًا أنها ستذبل بها، و لكن شعور بداخلها يحثّها على الاستئناف، يحثّها على التواجد بها، يحثّها على محاولة النموّ بتلك الأرض، لربما تينع أوراقها في أرضٍ لم تكن يومًا من سُكّانها، سحبت "يورا" شهيقًا عميقًا زفرتهُ على مهل، حتى تنبّهت إلى توأمتها التي سألتها:
- يورا.. بتحبي الكباب؟
كانت مُبادرة منها.. ليس كلماتها، بل دعوتها إلى هنا، تسلطت عيناها عليها و قد ومضت زرقاويها ببريقٍ غريب، ثم أومأت في النهاية و هي تجفل أهدابها قائلة بخفوت:
Evet
فـ أومأت "يارا" و هي تدفع بالصحن تجاهها مدمدمة بابتهاج:
- شبهي.. لسه في وقت كتير نعرف إيه تاني شبه بعض فيه
فرددت "ولاء" و ثغرها ينبعج كاشفًا عن ابتسامة باهتة:
- في حجات كتيـر
اتسعت ابتسامة "يارا" و هي تسأل بفضول:
- بجد؟.. زي إيه؟
- بجد!
تغضن جبين "يارا" بعدم فهم و نطقت بـ:
- إيه؟
ارتفعت نظرات "يامن" نحو "ولاء".. ثم نحو "يورا" فرددت "ولاء" و هي تشير يعينيها إليه ضاحكة بابتهاج زائف:
- جوزك فهم.. انتي مفهمتيش؟
فقالت "يورا" ببلاهة:
- مش فاهمة حاجة، هو في إيه
فرددت "يارا" مؤيّدة الرأي:
- مش عارفة
و انحرفت نظراتها نحو "يامن" و هي تسألهُ بابتسامة غامضة:
- هو في إيه؟
و لكن "ولاء" تولّت مهمة إجابتها، حينما كان "يامن" ينظر لصحنه مجددًا رافضًا إجابتها:
- دي كلمتك.. انتي مش بتاخدي بالك انك بتكرريها كتير!
فرددت بنبرة عفويّة للغاية:
- بجـد؟.. امتى!
تعلقت بها الأنظار جميعًا، و ما هي إلا ثوانٍ و كان الجميع يتضاحك ابتهاجًا، عدا "يامن" الذي تابع تناوله طعامهِ و كأنهُ رجل آلي ينفذ مهمة ما، لا علاقة لهُ بأحاديث جانبيّة، و ما إن هدأت الضحكات قليلًا، ارتبكت "ولاء" و قد أدركت نظرات "فارس" المقتنصة لأي انفعال أو تعبير أو حركة تصدر عنها، ثم رددت محاولة نزح ارتباكها:
- و كمان مش بتعرف تطبخ
فلوّحت "يارا" إليها و هي تردد بمزاح:
- توأمي.. توأمي يا جماعة
فقالت "يورا"  بابتسامة رقيقة و قد شرع شعورها بالوحدة يتضاءل:
- عرفت كمان إنك بتحبي البطاطس المحمرة
- مش بقول توأمي!
فقالت "رهيف" بعدم استيعاب للمرة الألف تقريبًا و هي تلتفت نحو "يورا":
- أنا لسه لغاية دلوقتي مش مصدقة اللي شايفاه.. حقيقي!
 حجاب رأسها يفاقمها رقّة و جمالًا تُحسد عله حقًا، و هو لا يملك أن يشيح بأنظاره، لا يملك سوى أن يتأمل وجهها بملامحها اللطيفة، كحلمٍ صعب المنال، و لكنهُ دومًا كان أكثر تشبثًا بما هو عسير الحصول عليه، و "رهيف" كانت هي، ظمآنٌ ارتوى بعد طول انتظار و أشبع تعطّشه المريب بنظرات استرقها و اختلسها إليها، لم يكن يتخيّل "مايكل" أنهُ سيلتقيها هُنا، و لكن لقائها كان فيه عودة جديدة لروحهِ، و بينما يُداعب "رهف" و أنظاره سلطة على أختها، كانت هي تشير لـ "يامن" الذي لم يتمكن من التفريط بها حين نادتهُ:
- يامن.. يامـن
ارتفعت أنظارهُ نحوها، فقالت "رهف" بعدم فهم و هي تشير للتوأمتين:
- هو ازاي يارا بقى منها اتنين؟.. هو انت دلوقتي متجوز اتنين؟
و قبل أن يهمّ بإبجابتها كانت تغمغم في خفوتٍ عابس:
- يعني انت اتجوزت واحدة تانية و مش استنيتي لما أكبر يا يامن!
فرددت "رهيف" و أنظارها تتجه نحوها لتنعفها:
- رهـف.. بس! ايه اللي بتقوليه ده
فرددت "يورا" و هي تنظر للصغيرة مقوسة شفتيها بازدراء:
- متجوز الاتنين مين يا حلوة، أنا أتجوز الكائن ده!.ليه؟ شايفاني إيه
فبزغ صوتهُ المهدد الخافت إليها فقط و هو ينظر نحو تلك الفتاة شزرًا:
- لمي أختك عشان مقومش ألمها بطريقتي
حمحمت "يارا" و هي تحاول تلطيف الأجواء من جديد:
- خلاص يا روڤي متزعليش نفسك، أنا هخليكي تتجوزيه لما تكبري، متقلقيش!
منحتها "رهيف" نظرة حامية، ثم اعتذرت للجميع عن تلك السخافة التي بدرت من شقيقتها:
- معلش أنا آسفة،  بس أصلها لما بتحب حد مش بتسيبه
تفاجأت "ولاء" بتلك القطة من الدجاج التي توضع في صحنها بغتة، فرفعت أنظارها نحو "فارس" الذي بادلها نظرة ذات مغزى، حرفت "ولاء" نظراتها عنهُ على الفور دون أن تتمكن من النظر لعينيهِ، فحاولت أن تفرّ بهما دون أن تدري إلي متى.
انحرفت نظرات "رهف" نحو "مايكل" و هي تشير نحو " يورا" و "يارا" متمتمة بنبرة حائرة:
- ماكل.. هي فين يارا؟
فـ أشارت "يارا" بكفها إلى "رهف" و هي تدمدم بمرح:
- يا بنتي أنا أهو و الله
و عاتبتها بلطفٍ:
- كده بردو يا روڤي مش عارفاني؟
فابتسمت "رهف" و قد شعرت بالحرج الطفيف، ثم  قالت و هي ترفع كتفيها معربة عن حيرتها بطفوليّة تخطف القلوب:
- ما أهو أنا مُش عارفة أعرفك ازاي!
نفضت "يورا" خصلاتها للخلف تلقائيّا و هي تردد:
.. أنا شعري طويل، يارا شعرها قصير tatlı - شوفي يا " حلوة"
رمشت "رهف" عدة مرات في عدم استيعاب و هي تنقل نظراتها المتحيّرة بين كلتيهما، ثم وجّهت حديثها لـ "مايكل" و هي تسألهُ:
- ماكل.. هي مين اللي سعرها طويل؟
!Sweety  - مبقتش مايكل
و نقل نظراتهِ بين الجمع حتى تسلطتا على "فارس" الذي يجلس جواره، ثم ألقى قنبلتهِ في الوسط:
- بقيت "يوسُف"!
شَرِق "فارس" و قد اختنق صدرهُ بالطعام الذي شعر به توقف في منتصف حلقهِ، فسارعت "ولاء" بوضع كوب المياه أمامه ، و قد تجلى القلق على وجهها، سعل "فارس" عدة مرات و قد اصطبغ وجههُ بالزرقة الطفيفة، ثم سحب كوب المياه و شرع يرتشف منهُ بضعة رشفات متتالية.
حملق "يامن" و قد سقطت ملعقته في صحنه بـ "مايكل"، فـ التفتت "سهير" بدورها و قد أنعش الاسم ذاكرتها، أطبق "يامن" أصابعهُ مكورًا قبضته فلاحظت "يارا" ما يجول بخاطره، انحرفت نظراتها نحو "مايكل" حين سألهُ "يامن" بإيجازٍ ممتعض:
- اشمعنى يوسف
- هكذا
فجأر بهِ و قد بدأ ينفعل و يفقد آخر ذرات تريّثهِ:
- يعني إيــه؟
ارتكزت أنظار "يوسُف" على "رهيف" التي حطّت الصدمة بخطوطها العريضة على ملامحها و قد تراخى كفيها لحجرها و أنظارها عالقة بهِ بشكلٍ مريب دون أن تقوى على أن تحيد عنه، ابتسامة باهتة تقوست شفتاهُ بها قبل أن ينطق بجديّة:
- لأنني..
و حاد بنظره عنها ليعيد النظر لـ "يامن" ثم ردد متابعًا و قد تلاشت بسمته:
- كـ يوسُف، سقطت في البئر لسنوات، حتى أتت السيّارة فـ أدلو بدلوهم!
تصلّب فكيّ "يامن" و هو يحدجه بنظرات متوقّدة، و ما إن همّ بالنهوض في رغبة لا يعلم مصدرها تحديدًا للفتك به، كانت "يارا" تتشبث بكفه و هي تردد محاولة تهدئتهِ:
- شـشـش.. اهدى
لم يحد عنهُ بنظراتهِ القاتمة لدقائق، و ظلّ "يوسُف" عالقًا ببصره علي أيضًا، حتى اقتطع "يامن" ذلك و هو ينهض عن جلسته المتحفزة تلك و قد شعر بحاجتهِ المريبة للتدخين، فسألته "يارا" و هي تراه يدفع مقعده بعنفٍ للخلف:
- رايح فين يا يامن؟ انت مكلتش حاجة
- هشرب سيجارة
و مرّ من خلفها، فـ أثناء مرورهِ امتد كفهُ بحركتهِ الدائمة التي صارت تفضلها ليحتوي ذقنها و جزءً من عنقها براحتهِ ممرًا إبهامهِ بحركة عابرة، حتى ابتعد فـ أزاح كفهُ عنها، و كأنها رسالة ضمنيّة منه لئلّا يُثار قلقها، لا تزال "رهيف" فاغرة فاهها و هي تحملق بهِ غير مستوعبة،  في حين سألت "رهف" بعدم فهم و هي تضيق عينيها:
- ماكل.. انت كمان بقى في منك اتنين؟
التفت إليها "يوسُف" و هو يعبث بخصلاتها، ثم قال بلهجة جادة:
- sweety  ناديني يوسف، اسمي صار يوسف!
ترك "فارس" كوب الماء جانبًا و هو يلتفت نحوه ليحدق في جانب وجهه، و ضاقت عيناهُ و هو يردد مستهجنًا:
- أ..أسلمت؟ ازاي؟ امتى؟ ازاي متقوليش؟
- امبارح بس!.. مش من زمان
فتوسعت عيناهُ بجنون و هو يهدر:
- و ازاي تعمل حاجة زي دي!.. انت فاكرها حاجة سهلة
فكان ردّ "يوسُف" جادًا للغاية:
- It wasn't easy faries, it was very difficult, but I did it in the end
-"لم يكن سهلًا فارس، كان أمرًا في منتهى الصعوبة، و لكنني فعلتهُ في النهاية"
لفظ "فارس" أنفاسهِ الملتهبة و عيناهُ تحيدان نحو "رهيف" المتسمرة تلقائيّا، فعاد ينظر نحوهُ و هو ينهض عن جلستهِ مرددًا بنبرة حازمة:
- تعالى معايا، عايـزك
رضخ "يوسف" لرغبته، فنهض هو الآخر و هو يدفع المقعد للخلف، و سار في أعقاب "فارس" حينما كانت "حبيبة" تتبادل الحديث مع "يارا" و هي تسألها في فضول:
- هو كان مسيحي؟
- هو مش باين انه أمريكي!
أومأت "حبيبة" في تفهمٍ ثم قالت:
- آه.. عشان كده ملامحه غريبة و بيتكلم مكسر، أنا أول ما شوفته قولت كده
عيناها حادتا نحو باب غرفة الطعام، و لم تتمكن من ردع رغبتها في الاطمئنان على زوجها، فنهضت عن جلستها و هي تردد بخفوت:
- كملوا أكلكم.. ثواني و هرجع
لاحظت تشتت "سهير"، و شرودها البادي، فخطر ببالها فكرة ما، خطت نحوها، و انحنت إليها لتهمس ببضع كلمات، فوضت عينا "سهير" بوميضٍ لامع.
........................................................
يمجّ من سيجارتهِ و ينفث دخانها كاللهب، يقف في الشرفة مستندًا بمرفقه لسورها و هو يحدق بنقطة ما في الأفق البعيد، لا يعلم حتى ما أصابه، و كأنه أول الأشخاص الذي يملك اسم والده، و كأنهُ اسم مقدّس لا يريده لسواه، و لكنهُ يعود فيصطدم بالواقع المرير، و كأنها استفاقة من غفوة مؤقتة..
 والده لا يستحقّ، و على الرغم مما كشف عنه من حقائق مُرّة إلا أنه لا يزال مرتبطًا بهِ بروحهِ لا فقط يعشقه، لا يمكنهُ الخلاص منه، و كأنه داء لا دواء له، انتبه "يامن" إلى تلك الحركة من خلفه، فاستنبط هوية القادم، قبض جفونه قوة حتى استمع لصوتها و هي تردد بخفوتٍ قلق:
- انت كويس يا ابني؟
سحب "يامن" السيجارة من بين شفتيه و هو يُفرق جفونه و قد استعاد صلابته و شراسته، نفث دخان السيجارة، ثم ألقى بعقبها عبر الشرفة، التفت "يامن" إليها نصف التفاتة و هو يردد بابتسامة جانبيّة ساخرة:
- ابنـك!.. انتي نسيتي نفسك يا سهير؟
رجفة دبّت ببدنها و قد شعرت بالخوف ينخرُ عظامها، حملقت عيناها المرتعدتين به مستشعرة نفسها تعود لنقطة الصفر، حتى ردد "يامن" بلهجة أشد شراسة و قد اصطبغ وجهه بالحمرة أثناء ضربهِ بقبضته المكورة لسور الشرفة:
- اسمي يامن بيه.. مسمعش ابني دي منك تاني!
ارتد جسدها خطوة للخلف و قد شعرت بصقيع يضرب بأوصالها، حتى التفت إليها التفاتة كاملة، فتبيّنت لها نظراتهِ كصقر شرس تلتمع عيناهُ في الظُلمة الحالكة أثناء قولهِ القاتم:
- طالما رضيتي تعيشي خدامة طول عمرك يبقى تقضي اللي باقي منه خدامة و تموتي خدامة!
انبجست العبرات الحارقة بصمت من عينيها و هي تومئ عدة مرات بتحسّر هازئ، ثم رددت بنبرة حاولت ضبطها لتكون متماسكة:
- أمرك يا.. يامن بيه، عن إذنك
و انصرفت من الشرفة، ضرب "يامن" مجددًا بقبضته المتكورة السور و هو يزفر في انفعال مزمجرًا بغضب مستعرّ.
...................................................................أنعش
و في شرفةٍ أخرى.. تطلّع إليه "فارس" بلومٍ جاف، و هو يستند بظهرهِ لسور الشرفة، في حين كان "يوسف" مائلًا بجذعهِ قليلًا، مستندًا بمرفقيه للسور، و عيناهُ تجوبان الأفق بنظرة شموليّة، حتى بادر "فارس" عقب أن حرر زفيرًا حارًا من صدره:
- لسه مش مصدق! معقول انت بتستهتر بدينك للدرجة دي
فكان ردّ "يوسف" قاطعًا و هو ينظر نحوه بصلابة من طرف:
- Fares.. I know very well what you are thinking, but believe me, I converted to Islam with complete conviction
" فارس.. أعلم جيدًا ما تفكر به، و لكن صدقني، لقد اعتنقت الاسلام عن اقتناع كامل"
فردد "فارس" مستهجنًا و عيناهُ تضيقان:
- يعني مش عشان تتجوز رهيف مثلًا؟
صمت.. صمت مطولًا و قد ران بنظر للأفق، نظرة شاردة في خباياها الكثير، ثم نطق أخيرًا و قد غلّف القنوط نبرته:
- No.. and I realize she wouldn't agree to that idea either
- لا.. و أدرك أنها لن توافق لأجل تلك الفكرة أيضًا
و شبك أصابع كفيهِ معًا و هو يرتفع بأنظاره لصفحة السماء التي عمّتها أحداق النجوم المضويّة، ثم حرر زفيرًا ملتهبًا عن صدره و هو يردد باستياء:
- It's...just a reason, I feel it
- إنها.. مجرد سبب، أشعر بذلك
فسأل "فارس" و قد ارتفع حاجبيهِ في شدوهٍ لما آل إليه حالهُ:
- انت حبيتها؟
و كأنهُ اعتصر بقبضته فؤاده، غامت عيناه و هو ينظر نحوهُ نظرة مكلومة، ثم حاد عنهُ و هو يردد بإيماءة بسيطة:
- yes,..I did
أطبق "فارس" على أسنانهِ مستشعرًا ما يمر به، كان جليّا عليه، على الرغم من إنكاره الدائم، إلا أنهُ بالفعل عاشق.. هو أكثر الناس قربًا إليه، يدرك جيّدًا متى يقول الصدق و متى يكذب بالقول، انعقد حاجبيّ "فارس" و هو يحنى أهدابه عنه مطلقًا سراح زفيرًا حارًا من صدره، حتى ردد "يوسف" متابعًا:
- We are still from two different worlds faries, and our worlds will never meet
- لا نزال من عالمين مختلفين فارس، و لن يجتمع عالمينا
رنا "يوسف" بنظرهِ لمعصمه الذي لاح عليه أثر الصليب الذي محاهُ، ثم قال بابتسامة مريرة:
- The past.. always stands on our way.. Faries
- "الماضي.. يقف أمامنا دومًا فارس"
تنهد "فارس" بضيق أطبق على صدره، و لم يملك إلا أن يلفّ ذراعيه حول جذع رفيقه معانقًا إياهُ، بادلهُ "يوسف" العناق و قد خارت قواهُ و صلابته، حيث قال بلهجة مكلومة:
- Why Farıes?... If she wasn't mine from the start?
- لمَ فارس؟.. إن لم تكن لي منذ البداية؟
ربت "فارس" على ظهره بقوّة محاولًا احتوائه، ثم قال بتنهيدة مطوّلة:
- كل حاجة هتتغير يا مايكل.. متقلقش
ابتعد "يوسف" قليلًا و هو يناظره بأعين جادة، ثم صحح لهُ خطأه:
- يوسُف.. يوسف فارس
انبعجت شفتيه بابتسامة باهتة و هو يربت على كتفهِ، ثم ردد بخشونة:
- يوسُف يا عم، و لا تزعل
- صلّيت؟
اتسعت ابتسامة "فارس" الباهتة حتى برزت أسنانه، و قد لاح أمام عينيهِ مشهدًا مشابهًا، فقال "يوسف" متابعًا بتنهيدة مطولة:
- I started a new page, do as me!
 
و تقوست شفتاهُ عن ابتسامة باهتة و هو يلتفت ليلقى نظرة شاردة بعيدة ثم ردد بغموض:
- خطوة جديدة أريد أن أخطوها، خطوة ستشكل فارقًا لي
تغضن جبين "فارس" و قد ضاقت عيناه و هو يسأل:
- إيه هي
انعطفت نظرات "يوسف" نحوهُ و هو يردد باقتضاب:
- آتمر!.."أعتمر"
توسعت عينا "فارس" غير مستوعبًا ما قاله، فتابع "مايكل" شارحًا باستفاضة:
- أذنبت كثيرًا، أريد أن أمهو ذنوبي
و قبل أن يهمّ "فارس" بالحديث، كان "يوسف" يقول:
- ابدأ صفهة جديدة مثلي، لأجلها!
- نعم؟
-I know you love her very much, faries
-"أعلم أنك تحبها كثيرًا فارس"
فتظاهر "فارس" بعدم الفهم و قد ارتبك قليلًا و هو يحيد عن عينيهِ:
- هي مين دي؟
فلم يجبهُ "يوسف" إجابة شافية، بل ربّت على كتفه و هو يتصنّع الابتسام على الرغم من ذلك الثقل الذي يجثو على صدره، ثم ربت على كتفه و هو يقول:
- Let's pray together, farie.., come on
- دعنا نصلي معًا فارس، هيّا
...........................................................
لا يزال يمجّ من سجائره بشراهة و يلقى عقب واحدة تلون الأخرى عبر الشرفة، حتى استشعر حركة من خلفهِ مجددًا، و بزغ من خلفهِ صوت "فارس":
- هديت؟
و استند بظهرهِ لسور الشرفة جواره و هو يتطلّع لجانب وجهه المتجهم الذي تبين له وسط الظلمة، سحب "يامن" نفسًا عميقًا من سيجارته، و لفظهُ فصنع سحابة رماديّة من الدخان أمامه و هو يسأل باقتضاب:
- مشى؟
أومأ "فارس" عقب أن حرر زفيرًا حارًا من صدره:
- مشى
و عمّ صمت مهيب لم يقتطعهُ أحدهما لدقائق، حتى قرر "فارس" كسر حاجزه الجليديّ بقوله:
- مكانش قصده إنه ياخد اسم عمي يا يامن
فقال "يامن" بلا اكتراثٍ جامد ظاهريّ:
- مش فارقة
نظر "فارس" أمامه نظرة مطولة شاردة، زمّ شفتيه غير مدركًا كيف يفتتح الموضوع معه، ثم بادر بتردد و هو يلتفت نحوه مجددًا:
- يامن.. في حاجة لازم تعرفها
و كأنهُ استنبط ما يودّ التفوه به قبل أن يفعل، ناظرهُ "يامن" من طرفه، ثم أوجز في قولهِ:
- عارفها
تغضن جبين "فارس" و قد اضمحلّت المسافة بين حاجبيه، و سألهُ بجديّة متشككة:
- عارف إن نائف ملاقوش جثّته لغاية دلوقتي؟
ارتفع جانب ثغر "يامن" بسخرية هازئة، سحب بسبابتهِ و الوسطى سيجارته من بين شفتيه و هو ينفثّ دخانها، و بظهر إبهام نفس الكف كان يحكّ ذقنه قائلًا:
- تؤ.. عارف إنه مماتش!
حدق "فارس" بوجهه و قد بدا الشدوه جليّا على وجهه، ثم ردد و هو يضيق عينيهِ:
- نعم؟.. مماتش؟
و انتصب في وقفته و هو يسأل بارتياب:
- انت متأكد من اللي بتقوله؟
ألقى "يامن" بعقب سيجارته و هو يستقيم في وقفته هو الآخر، و استدار و هنو يقول بجمود:
- خلينا ندخل
و دلف.. فسار "فارس" في أعقابه و هو يتغلب بصعوبة على رغبته في إلقاء العديد من الأسئلة، حتى مضى "يامن" لغرفة الجلوس، دون أن ينتبه لزوجتهِ التي كانت تقف جوار باب الشرفة، فأصغت رغمًا عنها لقولهِ، كتمت "يارا" فاهها بكفها، و ما إن خطى "فارس" و تيقّنت من خلوّ المكان، حتى راحت تتبعهم لغرفة استقبال الضيوف و قد بدى الاستياء، بل الهلع على وجهها، حاولت أن ترتدي قناع الثبات ريثما ينتهي اليوم، على الرغم من قرعات قلبها التي دوّت في أذنيها كالدفُوف، و دلفت بعدما دلف "فارس" بقليل..
 حينما كان "يامن" يمرر أنظاره على الجميع، و كأنهُ يبحث عنها بناظريه دون أن يعرب عن ذلك، توقفت أنظاره قليلًا لدى "أُمنية" التي كانت تحتسي من قدح الشاي الخاص بها، حتى انتبه إلى صوت "حبيبة" التي سألتهُ عاقدة حاجبيها:
- بتدور على حاجة يا ابني؟
استدار "يامن" و هو يهمّ بالمغادرة، فوجد زوجته تدلف عليهم بملامح غريبة كئيبة، سحبها "يامن" من مرفقها للخارج حتى توقفا بعيدًا، ثم سألها بجمود:
- سهير فين؟
رنت إليه بنظرة مطولة ممتقعة، ثم حادت بها و هي تقول بعتاب:
- مشت.. بعد ما خرجت من البلكونة مشت، و رفضت حتى تقولي انت قولتلها إيه
 أطبق "يامن" أسنانه و هو يرخى أنامله عن ذراعها، ثم مضى مبتعدًا عنها، فأجفل جسدها و دبّت فيها ارتعاشة و هي تنظر نحوهُ لتتيقن حين رأتهُ يتهيّأ للخروج عقب أن سحب سلسلة مفاتيحه و هاتفه، فخطت نحوه مجبرة ساقيها على الحراك و قد تهدجت أنفاسها:
- انت.. ماشي؟
مرّ "يامن" من جوارها متعجلًا غير مباليًا بإجابتها، فسدّت "يارا" الطريق بجسدها و قد التمعت العبرات في عينيها و هي تتوسلهُ برجاء:
- متمشيش!
تطلع إليها بتجهمٍ بادي، ثم نطق من بين أسنانه بتضجّر:
- أنا مش فايق لتقلباتك دي الساعة دي، حاسبي
و أقصاها بجفاءٍ عن طريقه، فظلّت هي متسمرة بمكانها تتابع رحيلهِ بأعين فاضت بالدموع و انبجست منها لتسير على وجنتيها، و كأنها المرة الأخيرة التي تراهُ فيها، و لم يمنحها "يامن" حتى حقّ توديعهِ.
............................................................
لا يعلم لم اقتادتهُ روحه لنفس المكان، و كأنه تيقّن من وجودها بهِ، أوقف " يامن" سيّارته، و ترجل منها، ليجدها تجلس على الحافة، ساقيها متهاويتان عبرها، و كأنها لا تخشى حتى السقوط، ارتدى قناع الجمود و الصلابة و هو يخطو نحوها، كانت قد استشعرت وجودهِ منذ أن أوقف سيّارته، و لكنها ظلّت على وضعيتها عاقدة ساعديها أمام صدرها، تحدّق بنظراتها المكلومة في الأفق، حتى توقف "يامن" جوارها مباشرة و هو يعقد ساعديه أمام صدره متطلعًا للأفق بنظرة شموليّة غير مبالية، استرق نحوها نظرة من طرفه، و سأل باقتضاب قاتم:
- بتعملي إيه هنا؟
رنت "سهير" بنظرة للأفق، ثم رددت على حين غِرة:
- ساعات بندم، ساعات بقول يا ريتني كتمت السر في قلبي لغاية ما أموت
و نظرت للأعلى من طرفها و هي تتابع بجمود غريب:
- لكن كلمة و قالها أبويا زمان.. كل حاجة بتحصل ليها سبب، كل حاجة بتحصل فجأة بيكون ربنا مخبي لنا وراها حاجة تانية
انحرفت نظراته للأسفل فالتقت عيناهما، حادت "سهير" بهما أولًا و هي تستأنف بتنهيدة مطولة:
- الله يرحمك يا آبا
دقائق ظلّت نظراته الغير مفهومة عالقة عليها، ثم أشاح بهما عنها، أطبق الصمت لدقائق، فقطعتهُ "سهير" بقولها:
- تعرف يا ابـ..يا.. يا يامن بيه، أنا عمري ما اعترضت من جوايا، أوقات كان بييجي عليا وقت و أقول ليه أنا، ليه ربنا بيعمل كده معايا، يا ترى كل ده اختبار!
و لفظت أنفاسها الحارقة، ثم غمغمت بآسى:
 لكن من جوايا كنت بقول أكيد ربنا هيعوضني، أكيد هشوف الأحسن
ترقرقت العبرات في مقلتيها فلم تتمكن من كبحهم، انحردت عبراتها الدافئة واحدة تلو الأخرى دون أن تنظر نحوه، ثم قالت باستياء قانط:
- شوف أنا بقيت قد إيه و حاسة إني ملاقتش العوض اللي كنت عايزاه
و بأطراف كمّ عبائتها نزحت عبراتها التي تحفّ عينيها، ثم تابعت بإيماءة راضية:
- لكن أنا واثقة إن ربنا لو معوضنيش في الدنيا، فأكيد هيعوضني في الآخرة، الحمد لله
عبرة واحدة انحدرت على وجنتيهِ و وجههُ لا يزال محتفظًا بتصلّبه، قاوم تلك الرغبة التي حثّته على النظر إليها في تلك اللحظة بعُسر بالغ، حتى استمع كلاهما لصوتٍ صدح من خلفهما جعل "يامن" يلتفت كالملسوع:
- و الآخرة مش بعيدة يا أم الغالي! هتشوفيها في ابنك دلوقتي
 نهضت "سهير" عن محلها و هي تلتفت ببطءٍ متلكئ لتتفاجأ بذلك الملثم الذي يواري أغلب وجهه، مُشهرًا سلاحه في وجه ابنها، و ما هي إلا ثوانٍ و كان صوت الطلقة يصدح قبل أن يمهل "يامن" الفرصة متيقنًا أنه سيخرج سلاحه من فوره، و بالفعل.. كان "يامن" قد أخرج سلاحه و قبل أن يشهرهُ نحوه، كان "نائف" الأسرع في إطلاق رصاصتهِ، و لكنهُ شده و تيبس محله حين رآى "سهير" تقف في وجههِ لتتلقى الطلقة بدلًا عنه و تخترق جسدها، أشهر "يامن" سلاحه في وجههِ بذراع و بالذراع الآخر كان يحيط جسد "سهير" و هو يزأر بصوتهِ و قد انخفضت نظراته نحوها:
- سهيـــر!
و لم يُبالي بفرار الأخير في تلك اللحظة تحديدًا، حيث ابتعد "نائف" مسافة محددة كان قد أوقف سيارة قام بسرقتها حتى لا يتنبها لقدومهِ، و استقلّها ليدحر عن المكان بأكملهِ.
حينما كان "يامن" يرخى ذراعه الحامل للسلاح، بل ترك سلاحهُ يسقط أرضًا بلا اكتراث و هو يستشعر ارتخاء جسدها بين ذراعيهِ، لفّ "يامن" ذراعيه حولها و هو ينحنى أرضًا ليتمكن من تمديد جسدها على الأرضيّة الصلبة، بهت لون وجهه و هو يحدق في وجهها الشاحب، اخفضت نظراتهِ نحو موضع رصاصتها و قد شرع السائل الاحمر يتدفق من جرحها، حينما كانت "سهير" تغمغم بابتسامة باهتة و بعُسرٍ بالغ:
- هـ..هموت خدامة يا ابـ.. يا يامن بيه، هموت خدامة زي ما طلبت مني!
 هزّ رأسه نفيًا و قد كشّر عن أنيابه و هنو يهدر فيها بشراسة:
- إياكي.. إياكي تعمليها يا سهير!، إيـــاكي!
فرددت بآسى مُتحسر و قد شاب نبرتها الارتجاف:
- مش.. بإيدي يا ابني، مش بإيدي
و ابتلعت غصة عالقة في حلقها و هي تقبض جفونها، ثم رددت بخفوتٍ مصححة خطأها:
- قـ..قصدي يا يامن بيه
فردد "يامن" من بين أسنانه المطبقة و هو يميل أكثر عليها:
- مش هسمحلك تغلطي في حقي تاني يا سهير، مش بعد ما لاقيتك هتسيبيني!
اختطف كفها ليحتويه في كفه الخشن و هو يُطبق عليه بأنامله، ثم قال بلهجة مُستهجنة و قد اختنقت نبراتهِ:
- مش هخسر أمي لتاني مرة يا سهير، متخلينيش أعيش العذاب ده تاني
عـــذاب مُطول لاقته طوال سنونها الغابرة نحّاه هو بكلمة واحدة تفوه بها لربما دون وعيه حتى، أيعقل أن يذرو الوصب عن قلبها بكلمة واحدة، أن تنجلي آلامها الدائمة بكلمة واحدة، أن تستكين روحها المعذبة بكلمة واحدة؟
أطبقت "سهير" جفونها و قد اتسعت ابتسامتها الباهتة التي زيّنت وجهها الذي يزداد شحوبًا، تأوّهت بخفوت مستشعرة آلامها الجسدية تتضاعف تزامنًا مع انتقاص آلامها النفسيّة، خرج صوتها وَهِنًا متلعثمًا:
- ربنا عـ..عوضني، عوضني في آخر دقايق في دنيتي، عوضني بإني أسمع الكلمة دي منك بعد ما كنت يأست
و رمشت بعينيها عدة مرات محاولة التغلب على التشوّش الذي شرع يخيط رؤياها، و يحول دون مرآه:
- قولها تاني.. سمعهالي تاني يا ابني، قولها لي تاني
دون وعي منهُ كان العبرات تتدفق من عينيهِ و قد تعرّى أمام نفسه، أحنى "يامن" رأسهُ عليها و هو يُلثم بشفاهُ ظاهر كفها الذي احتفظ بهِ في كفه، ثم توسلها بالقول:
- سامحيني يا سهير، سامحيني بس متعمليش كده فيا، متعذبينيش العذاب ده يا سهير، قومي، هقولك اللي انتي عايزاه، هعمل أي حاجة عايزاها بس متسيبينيش
ارتفع كفها المرتجف بعُسر بالغ لتتلمس صدغه و بشرته الخشنة بأطراف أناملها، ثُم نزحت عبراته الفائضة كالأنهُر و هي تدمدم من بين أنفاسها المتقطعة:
- يا.. يا ريت كنت أقدر، مكنتش سيبتك يوم
مرر "يامن" ذراعه خلف عنقها ليرفع جسدها ضامّا لهُ إليه، ثم قال بنبرة قاتمة و قد تصلب فكيه:
- مش هسمحلك تسييبيني يا سهير.. مش هسمح لك
تشبثت "سهير" بكفهِ، دفنت وجهها في صدره مُتشممة عبقه و قد شعرت و كأنها ستلقى حتفها في التوّ و اللحظة، ثم رددت بإنهاكٍ:
- كان.. كان نفسي أشوف ابنك، كان نفسي أشوف حفيدي و أشيله بين إيديا، كان نفسي أشوفه يا يامن، لكن أعمل إيه؟.. ممفيش نصيب
أومأ "يامن" و هو يردد بلهجة حازمة:
- هتشوفيه.. هتشوفيه.. هتعيشي و تشوفيه يا سهير، و هتربيه زي ما ربيتيني، هتشوفيه يا سهير
هزت "سهير" رأسها نفيًا بصعوبة بالغة، و قد استشعرت ثقل يشلّ عضلات لسانها:
- قوله.. إني حبيته من.. قبل ما أشوفه، و إن كان..نفسي أ..أشوفه
كانت تلك كلماتها اللأخيرة لهُ أن يلهجُ لسانها بالقول الخافت بعُسر بالغٍ:
- أشهد.. أن لا.. إله.. إلا الله، و أشهد أن.. محمدًا.. عبده و رسولهُ
و شهقت شهقة أدمت قلبهُ و كأنها خنجرًا طعنه في منتصف، حملق "يامن" بوجهها و جفنيها ينطبقان و قد ارتخى كفها المتلمس لبشرته جوارها، تيبس وجهه بصدمة غير مستوعبًا، هزّ جسدها بعنفٍ و هو يجأر بها:
- سهيــر، سهيـــــــر!
و امتد كفهُ ليضرب على وجنتها و هو يزأر:
- ردي عليا يا سهيـر، ردي عليا، سهيــــر
كان يبكي رغمًا عن أنفهِ و قد انهرت دموعهُ فأغرقت جسدها، و باستهجانٍ غاضب أردف:
- متسيبينيش يا سهيـر، ردي عليا، قومي و كلميني، مش هسمحلك تسيبيني، سامعة يا سهير.. مش هسمحلك، مامــــا!
و دفن وجههُ في تحويف عنقها و قد تملكت البرودة من جسدها و هو يصرخ مزمجرًا من بين شهقاتهِ الباكية بصوتٍ ارتجّ له الوسط، صرخ حتى آلمتهُ أحبالهِ الصوتية و لا يزال يصرخ مستهجنًا خسارتها بذلك اليُسر البالغ، يصرخ مناديًا إياها بلقبها علّها تفتح جفونها من جديد.
و لم تجد الوقت الكافي لتتمتع بها، لتستشعر دفئها، لتحظى بحنانها، روحٌ وجدت من الحياة أقساها، و من الأيام جفائها، روحٌ أتت الدنيا عليها بما لا يتحملهُ بشر، و تحملتهُ هي.. روح لم تقترف سوى ذنبًا واحدًا مضت سنون عمرها تدفع ثمنهُ غاليًا، أنها أحبّت.. فلم تجد سوى تبدد أحلامها التي لم تجرؤ على رؤيتها في غفوتها، و بكفوف الحُب الجافّة تلطم وجهها، و نيران الحب النهمة لتلتقم ما تبقى من رُفات روحها، و الرياح تذرو ما تبقى من رمادها الداكن هنا و هناك، أحبت.. فلم تجنِ من ورود الحب سوى الأشواك التي زرعتها بنفسها، أشواك أدمت روحها، فنزفت عبراتها دماءً أُريقت، حتى أضحت هي.. "سهير".
..............................................................
صرخت.. و صرخت.. و صرخت، حتى بحّ صوتها و ودّ لو يتلاشى ليُعفي أحبالها الصوتية من الألم، و لم تنقطع صرخاتها و هي تدفن وجهها في وسادتهما التي علقت رائحتهِ فيها، تضُم مقتنياتهِ إليها، ساعته القاتمة الضخمة، نظارتهِ الحالكة التي لم تعيدها إليه، ثيابه متشممة عبقهِ العالق بها، ارتكنت بجسدها للفراش عقب أن تركتها والدتها أعلاه و هي تستأنف صرخاتها الملكومة، إنها النهاية الأقسى و الأبشع على الإطلاق، و كأنهُ كان يستشعر أن النهاية لن تكون سوى هكذا، و هي بسذاجتها المفرطة ظنّت أن النهاية ستكون سعيدة، كباقي قصص الحب و الروايات التي دوامت على قرائتها، دثّرتها "حبيبة" جيّدًا و هي تردد و قد أدمعت عيناها تأثرًا:
- كفاية يا بنتي.. حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده
فرددت "يارا" بتوسلٍ المكلوم من بين صرخاتها:
- أنا عايزة يامـن، هاتولي يامــن، يا يامــن!
ربتت "حبيبة" على كتفها و هي تهو رأسها بآسى مغمغمة:
- اللي راح مبيرجعش يا بنتي، اللي راح مبيرجعش
فلم تتلقَ سوى صرخة أخرى و كأن سكينًا يبقر عنقها فيجتثّ الروح عن جسدها، فتابعت "حبيبة" برجاء:
- كفاية يا بنتي، لو مش عشانك فعشان ابنه اللي في بطنك، كفاية يا حبيبتي بالله عليكي، ذنبه إيه هو تعذبيه معاكي بالشكل ده؟
تقوقعت "يارا" على نفسها تضُم بطنها بذراعيها بجانب ملابسه، ثم صرخت بنبرة أشدّ ألمًا:
- أنا عايزة يامن.. هاتيلي يامن يا ماما، يامــن، آآه
..............................................................
انتفضت من غفلتها فزعًا و قد نهج صدرها علوًا و هبوطًا و تفصّد جبينها بحبات العرق اللامعة، رائحتهِ التي اخترقت أنفها أيقنت لها أن ما رأتهُ كان مجرد كابوس، كابوس لا يمتّ لواقعها بصِلة و إن كانت تعلم أن "نائف" لا يزال قيد الحياة، ابتعلت ريقها و هي تعتدل في جلستها، بسطت كفها الذي يتخبّط في أشياء لا تدركها بسبب إنعدام الإضاءة، كما يحبّ "يامن" تمامًا، ارتعادها تفاقم حين تفاجأت بالفراش فارغًا منه عكس ما اعتادت بالأيام السالفة، و بالصقيع يتلقاهُ كفها،   تلفتت "يارا" حولها هلعًا لتجد نفسها لا تزال قيد جلستها على الفراش، بسطت كفها الآخر لتفتح المصباح الكهربيّ فصدح الضوء الشبه الخافت منهُ و هي تعتدل في جلستها، انخفضت نظراتها الغير مستوعبة لتجد حاجياتهِ في أحضانها، أنفاسها تتهدج في ارتياعٍ، هزّت رأسها نفيًا و الدموع تتسابق للهبوط عن مقلتيها و هي تردد محاولة إقناع نفسها:
- لأ.. ده كابوس! كان كابـوس، كابوس مش حقيقة
نزحت الغطاء المُدثّر لجسدها عنهُ فجحظت عيناها و تلاحقت أنفاسها و نبضاتها تقرعُ في أذنيها، تكاد تخرجان عن محجريهما زرقاويها اللتان ترنوان بنظرة غير مستوعبة لملابسها المخضّبة بلون السائل الأحمر القاتم الذي نبع من زوجها، و لم تشعر بنفسها سوى و هي تصرخ بأعلى صوتٍ لديها مستهجنة تلك الحقيقة الفعليّة:
- يامــن لــــــــأ!
...............................................
........................................................
............................
......................................................................
- هانت.. قربنا نودعهم💔

في مرفأ عينيكِ الأزرق Unde poveștirile trăiesc. Descoperă acum