"الفصل الحادي و العشرون"

748 16 0
                                    

"الفصل الحادي و العشرون"
سخط مريب شرع يتسلل بضراوةٍ إلى أعماقِها، و لا تُدرك لمَ.. و لكنها فسّرت ذلك بغياب والدها عن المنزل من جديد، و أيضًا كانت أختها المتسببة في ذلك، و بدلًا من أن تكون عونًا لأختها، بدأت تشعر بامتعاضٍ نحوها، فـ "يارا".. تسببت بكوارثٍ و ألحقتها بعائلتها، و للحظة لم تعد تتهمهُ بشئ، و كأن ما كانت تمنحهُ من ضغينة و تشعر بهِ نحوه تبدد، و حل محلّه شعورًا جديدًا لا تدرك كنههُ.
استغلّت "ولاء" فرصة خروج "يارا" من غرفتها لتلبي نداء والدتها التي تقف في المطبخ، فتسللت على أطراف أقدامها، مُلبية نداءً يصرخ بها من أعماقها، سارت بخطى متعرّجة، حتى بلغت باب الغرفة المفتوح، خطت "ولاء" للداخل، خطوة تليها أخرى، حتى بلغت فراشهِ، تعلقت عيناها بهِ، متأملة عن كثب ملامحهِ، دارسة لكل تفصيلة بها، ازدردت ريقها بشئ من التخوف، مستشعرة خفقات قلبها التي تقرعُ في أذنيها، رمشت عدة مرات و قد تهدجت أنفاسها، حتى أجفل جسدها مع صوت "يارا" الذي شرع يدنو، تيبست محلها و هي تمنحه نظرة أخيرة، متمنية لو كان بمقدورها أن تظل برفقتهِ بضع دقائق إضافيّة، و لكنها شعرت بضرورة الخروج الفوريّ، استدارت "ولاء"، و خطت نحو الباب، و ما إن همّت بالولوج كانت "يارا" تقف أمامها، تغضن جبين "يارا" بريبة و هي تتطلع إليها متعجّبة وجودها هنا، انحرفت نظراتها للخلف تلقائيّا ليتراءى لها "يامن"، فعادت تعطف بصرها نحوها، متسائلة بتشككٍ مُحتد:
- بتعملي إيه هنا؟
انعقد حاجبيّ "ولاء" و هي تمحو أي أر للارتباك الذي همّ بالظهور على وجهها، ثم قالت بسخطٍ بادي:
- بتكلميني كده ليه؟
فقالت "يارا" بنفاذ صبر:
- ازاي يعني؟
دفعتها "ولاء" من كتفها بشئ  من العنف و هي تقول باشتداد:
- معرفش ازاي، اتعملي تتكلمي أحسن بدل ما تتعملي ازاي تقتلي في الناس!
تيبست محلها، عقب ارتداد جسدها للجانب قليلًا، و هي ترمقها بنظرة مصدومة، و قد توسعت مقالتاها، عبرت "ولاء" من أمامها، بخطاها المتعرجة، أثناء قولها المستهجن:
- أساسًا مش عارفة إزاي سابك عايشة!
رمشت "يارا" عدة مرات بعدم استيعابٍ، حتى بلغت "ولاء" حجرتها، فصفقت الباب بعنفٍ من خلفها، تغضن جبين "يارا"، و قد طفت الحمرة المنفعلة على سطح وجهها، زمت على شفتيها بحنق، ثم استأنفت سيرها للداخل و قد شعرت بالدماء الغاضبة تندفعُ في أورتها.
..........................................................
عضلاتهِ تأن من فرط ما تعرض له، و وجهه صار و كأنه خريطة من فرط الجروح التي غزته، و قد بدا و كأن ملامحهِ انمحت و حلّت الخدوش و الكدمات محلها، ارتمي بإحدى الزوايا عقب أن نفذت طاقته تمامًا، و هو يتأوه متألمًا بخفوت، على الرغم من بنيته القوية ، إلى أن الكثرة دومًا ما تغلب الشجاعة، جلس أحد المسالمين بجواره، ثم ردد محاولًا مواساته:
- هو اللي زي دول يترد عليهم! دول عالم ميقدرش عليهم إلا اللي خلقهم، كنت فوّت و مشي الدنيا يا كبير
تأوه متألمًا و هو يردد ممررًا نظراتهِ على من حوله و قد داهم معظمهم سلطان النوم، ثم ردد حانقًا:
- ولاد الـ****** دول أنا مش هسيبهم، اتكاتروا عليا، لكن هما ميعرفوش أنا مين
أشاح الأخير بلا اكتراث و هو يقول بصوتهِ الثقيل:
- يعني هتكون مين يعني؟.. وزير الصحة؟ ما كلهم بيقولوا كده
التوى ثغر "كمال" بابتسامة ساخرة و هو يشمله بازدراء من خلف عينه التي تورمت فباتت الرؤية غير واضحة، ثم ردد بتهكمٍ:
- لا يا خفيف.. كمال الصياد
فـ تنمر عليه على الفور و هو يصدر ضحكات أثارت استفزاز الأخير، و فور أن انتهى، قال هازئًا:
- صياد!.. و إيه اللي جابك هنا بقى؟ سرقت السمك
التوى شدقي "كمال" باشمئزاز و هو يبصق فوق ثم صاح به مغتاظًا:
- امشي يالا قـوم من جمبي يلعن ********
فـ نهض الأخير و هو يردد لاويًا شفتيه، و مشيحًا بكفه:
- خلاص يا عم!.. الحق عليا إني جاي أخفف عنك، صحيح خيرًا تعمل شرًا تلقى
فـ جأر بهِ بنفاذ صبر:
- امشي يالا من هنا
فـ تهكم من قولهِ بصوتٍ خفيض و هو يستدير بارحًا محله:
- ماشي!.. قال يعني قاعد في تكية أبوك، توب علينا يا رب من اللي بنشوفه ده
تابعهُ "كمال" بنظراتهِ المزدرية و قد تعسر عليه سماع غمغمتهِ، ثم زفر أنفاسه المحتقنة و قد شعر بدمائه تغلى بداخل أوردته، تأوه متألمًا و قد شعر بالآلام تكاد تفتك بجسده، فـ ردد متوعدًا:
- عملتها يا يامن!.. عملتها في عمك، ماشي يا يامن، أنا و انت و الأيام بيننا، و هنشوف مين اللي هيضحك في الآخر
..................................................................
گانت تتأمل ملامحهِ عن كثب محاولة اختراق الغموض المحيط به، تضم ركبتيها لصدرها و مطوقة لهما بذراعيها، ذهنها قد عُصف به من فرط تفكيرها، و كأنها تدور في حلقاتٍ مفرغة، غامت عيناها و هي تستند بكفها إلى جانب وجنتها و عيناها مُسلطتان عليه فـ لا جديد بحالته، و كأنه يرفض العودة، نفخت مغتاظة ثم غمغمت بلهجة حانقة:
- بقولك إيـه! أنا مش السبب حتى لو متت!.. أيوة عارف ليه ، عشان انت لما موتت في المستشفى مكنش بسببي! ده عشان حد حطلك حاجة في المحلول
أخفضت ساقيها ليلامسا الأرضية و مالت بجذعها للأمام و هي تدمدم و كأنها تعقد اتفاقًا معه:
- بص!.. اصحى دلوقتي ، و موت بعد كده زي ما انت عايز تمام؟
و زفرت أنفاسها الملتهبة و هي تصرف بصرها عنه مستندة بمرفقها إلى طرف الفراش، و أسندت وجنتها إلى راحتها و هي تميل برأسها للجانب قليلًا متذمرة بخفوت:
- ما انت مش هتسيب الدنيا كلها و تيجي تموت في بيتي يعني!
و راحت أنظارها تتجه إليه مجددًا عن ذلك القرب فلفحت أنفاسهِ الدافئة وجهها ، سرت قشعريرة بجسدها و لكنها لم تتحرك قيد أنملة، رمشت عدة مرات و قد شعرت بثقل جفنيها و برغبة عارمة في الاستسلام لسلطان النوم، و لكنها قاومته حتى الرمق الأخير و هي تتمعن بملامحه، ثم رددت مستفسرة بفضول و قد ضيقت عينيها:
- هو انت إيـه بالظبط؟
و احتجت باندفاع بالرغم من صوتها الخفيض:
- و بعدين انت ازاي كده؟
- كده ازاي يعني؟
- محتفظ بجمودك و بصرامتك حتى و انت..
ابتلعت كلماتها و هي تنتفض مستقيمة في جلستها و قد توسعت عيناها، رمشت عدة مرات بعدم تصديق و هي مسلطة لنظراتها عليه، فكان مُطبقًا لجفنيه فبدا غير قادرًا على فتحهما بعد، فـ عادت تميل بجذعها عليه و هي تردد متلهفة:
- انت.. انت سامعني؟
تفرقت شفتيه مجددًا ليخرج صوته خافتًا محتفظًا بنبرتهِ التهكمية:
- لأ!
أجابته "يارا" مغتاظة و هي تضيق عينيها:
- أومال بترد عليا ازاي؟
لم تجد منه ردًا فـ خشت أن يكون فقد وعيه مجددًا ، فـ رددت بارتياب و قد حلت عقدة حاجبيها:
- صياد؟
همهم بدلًا من أن يجيبها ، فـ ازدردت ريقها قائلة بتوجس:
- انت مش بترد ليه؟
غمغم بلا وعي بلهجة خفيضة وصلت إليها بالكاد:
- معاكي!
حملقت بوجههِ و قد شعرت و كأن كلمتهِ تحمل معنى أكثر عُمقًا، ازدردت "يارا" ريقها، و قد جلّ توترٍ طفيف على ملامحها، أعادت خصلة من خصلاتها خلف أذنها، ثُم حثته على الاستفاقة و هي تغمغم بنبرة جادة:
- طب افتح عينك، حاول تفتح عينك عشان تفوق، مترجعش تاني!
و لكنها لم تجد ردًا منه مجددًا ، فـ استقامت و هي تنتقل لتجلس بجواره على طرف الفراش، و مالت عليه مستندة بساعدها إلى جوارهِ و هي تضرب برفقٍ على وجنته بكفها الآخر مغمغمة بصوتٍ محتدو كأنها تأمره:
- فــوق!.. صياد، مترجعش تاني، حاول تفوق، يامــن!
لم يلتقط سوى اسمهِ الذي لُفظ من بين شفتيها، فـ تفرقت جفنيه لتطل من خلف أهدابهِ عيناه الخضراوان ذوى البريق المُلتهب، فكان أول ما سقطت نظراته الثاقبة عليها ماستيها الزرقاوين، رمشت عدة مرات و قد تجمد كفها على وجنته من تلك الحركة المباغتة، فلم تكن تتوقع أنه سيستجيب لها، بشرتها ملامسة لبشرتهِ الخشنة، و نظراتها تتنقل بين عينيِه بذهول، ضيق عينيه متعجبًا قربها منه، فـ اعتقد أنه احدى أحلامهِ الغريبة التي تراوده بشأنها فتكون هي بطلتها، كادت تبتعد عنه و هي ترمش بعينيها بتوترٍ رهيب، فـ باغتها بإحاطة ظهرها بكفه فاندفعت للأمام بدلًا من الخلف فلامست أنفها أنفه، خفق قلبها بعنف بين أضلعها فـ دوى نبضها في أذنيها، تهدجت أنفاسها و هي تقابل نظراته المحتدة الثاقبة، راحت الحمرة تغزو وجنتيها ،استندت بكفها على صدرهِ محاولة الحفاظ على توازنها و هي تحاول جاهدة لدفع ذراعه عنها، حتى انحلت عقدة جبينه، رمش عدة مرات و كأن جفونه قد تثاقلت، حتى تراخت تمامًا، و انطبقت أهدابه و قد تراخى ذراعه عنها، فـ تركت العنان لأنفاسها المتهدجة المتلاحقة تلفح وجهه ، ابتعدت بصعوبة معتدلة في جلستها على طرف الفراش و قد شعرت بالخدر يسرى في جسدها ، استشعرت بكفها نبضها المتلاحق فـ ارتبكت أكثر و أكثر، حتى انتفض جسدها و هي تستقيم بوقفتها حين افتح الباب على مصراعيه ، طلت "حبيبة" و هي تغمغم متعجبة من تلك الظلمة الحالكة التي تغمر الغرفة عدا الإضاءة الخافتة التي قدمها القمر على استحياء، فـ تغضن جبينها و هي تتكاد تفتح الضوء:
- قاعدة في الظلمة ليه يا بنتي؟
و نقرت على الزر فـ انقشعت الظلمة و حل الضوء محلها ، استدارت "يارا" لتواجهه محاولة اخفاء ارتباكها الملحوظ عنها، ثم رددت و هي تتصنع الحنق:
- هو أنا هفضل قاعدة جمب البيه عشان أستناه يفوق! أنا.. أنا ماشية
و راحت تستدير حين دنت منها "حبيبة" لتخفى وجهها عنها ، ثم استدارت لتهم بالمغادرة فاستمعت لـ "حبيبة" و هي تقول بتنهيدة مطولة:
- طيب، روحي ارتاحي في أوضة أختك، و أنا هقعد هنا
- طيب
قالتها و هي تخطو للخارج موصدة الباب من خلفها ، استندت بظهرها عليه و هي تطبق جفنيها بقوة ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا، و شعرت بالدماء تتدفق بقوة في أوردتها، راحت تتلمس موضع قلبها مجددًا و هي تتذكر تلك اللحظة العجيبة التي مرت، استشعرت نبضاتها الهادرة من أسفل كفها، فـ ازدردت ريقها و هي تفرق جفنيها لتتلمس أنفها بأطراف أناملها، فراحت الحمرة تغزو وجنتيها بضراوة مجددًا، انتفضت اثر صوت أختها الساخط و هي تخرج من المطبخ حاملة كوب الشاي خاصتها الذي صنعته بنفسها:
- انتي واقفة بتعملي إيه كده؟
ازدردت ريقها و هي تغمغم مجيبة إياها بتهدج:
- ها! و لا.. و لا حاجة
ضيقت "ولاء" عينيها و هي تتمعن النظر لملامحها، فرددت و هي تتوسط خصرها بكفها:
- و لا حاجة ازاي؟ أومال وشك أحمر كده ليه؟
أجابتها "يارا" و هي تتصنع اللامبالاة بينما تكاد تمضي نحو غرفة والدتها:
- ماما قالتلي أنام معاكي، لكن مش هتقل عليكي، انا هنام مع ماما
زفرت "ولاء" أنفاسها المحتقنة و هي تستوقفها قابضة على ساعدها، و أحنت نظراتها عنها و هي تقول بتأفف:
- لأ خلاص، بدل ما ماما تديني كلمتين و تقولي طردتي أختك من أوضتك
حررت "يارا" زفيرًا حارًا عن صدرها و هي تنظر نحوها بضيق من طرف عينها، بينما نفضت "ولاء" ذراعها بحركة عنيفة و هي ترمقها بنظرات ممتعضة، ثم تركتها و انصرفت سائرة باتجاه غرفتها و اختفت داخلها، نظرت "يارا" لذراعها مستنكرة، اندفعت الدماء في عروقها من معاملة أختها الجافة معها و التي لم تعتدها سابقًا، فـ راحت تخطو بخطوات متشنجة نحو الداخل و هي تهتف بنبرة مستهجنة عاقدة لذراعيها معًا:
- ممكن أعرف في إيه يا ولاء؟ ممكن أعرف بتعامليني كده ليه؟
تركت "ولاء" قدحها أعلى مكتبها الخشبي الرقيق و أوفضت نحو الباب لتوصده لئلا تستمع إليهما والدتهما، ثم استدارت بينما كانت "يارا" تردد بنبرة ناقمة و هي تحل عقدة ساعديها :
- ممكن أعرف أنا عملتلك إيه عشان أستاهل المعاملة دي منك؟
فـ أجابتها بشجبٍ جلي و هي تتوسط خصرها بكفها:
- والله! مش عارفة انتي عملتي إيـه؟
أجابتها "يارا" باندفاع و هي تهز ساقها بحركة منفعلة:
- لا و الله معرفش، عرفيني!
رفعت "ولاء" حاجبها استنكارًا و هي تردد بنبرة محتدمة:
- أقولك!.. عشان انتي السبب في كل اللي وصلنا له! انتي السبب في إن أبويا ساب بيته و معرفش هو فين دلوقتي، انتي السبب في الفضايح اللي مش هتسيبنا طول العمر بسبب غبائك!
توسعت مقلتي "يارا" من كلماتها الصريحة، و أشارت بسبابتها غلى نفسها و هي تضيق عينيها رافعة كتفيها قليلًا للأعلى:
- أنا!.. غبائي أنا!
أومأت و هي تؤكد لها كلماتها ضاغطة على كل حرفٍ:
- ايوة غبائك انتي!.. انتي يا يارا
فرددت و هي تشير للباب من خلف "ولاء" و كأنها تشير إليه مستنكرة اتهامها:
- ميمشيش معاكي إن اللي بيحصل لنا بسببه هو!
عقدت "ولاء" ساعديها امام صدرها و هي تتسلح ببرودها:
- و الله انتي اللي وصلتيه للحالة دي! مقدرش أقول إنه بسببه المرة دي خصوصًا إنه طلعك زي الشعرة من العجين منها، يعني محاولش حتى ينتقم منك بسبب اللي عملتيه
افتر ثغر "يارا" عن ابتسامة ساخرة و هي تغمغم:
- ده على أساس لو انتي مكاني كنتي هتتصرفي تصرف تاني؟
و تلاشت بسمتها و كأنها لم تكن و قد احتدت لهجتها:
-لو شوفتي ذرة من اللي شوفته كنتي هتتصرفي تصرف تاني؟ لو فكرتي زي تفكيري كنتي هتتصرفي تصرف تاني؟ لو كنتي مكاني مجبورة إنك تعيشي مع واحد لا انتي طايقاه و لا هو طايقك كنتي هتتصرفي تصرف تاني؟ لو اطعنتي في ضهرك من أقرب الناس ليكي ، كان هيبقى ليكي تصرف تاني ، مش كده؟
ألقت بكلماتها الأخيرة و قد ارتفعت نبرتها فجأة ، فلم تكترث "ولاء" حتى بمحاولة فك شفرة حديثها، ضيقت عينيها و هي تردد بنبرة ساخطة:
- انتي السبب في اللي انتي فيه! انتي اللي عمرك ما رضيتي عن حاجة و لا قولتي الحمد لله
و أشارت لإصابة ساقها و هي تردد بلهجة مشتدة:
- شايفة رجلي؟.. كنت فاكرة إن اللي حصل لي حاجة بسيطة ، حاجة مش هتسبب لي تشوه! لكن بفضلك خلاص.. بقى عندي عاهة مستديمة بسبب حبي ليكي ، حبي اللي مستفادتش منه اي حاجة
ترقرقت العبرات في عيني "ولاء" و هي تلوى شدقيها بابتسامة متهكمة مردفة بنبرة مختنقة:
- طبعًا حتى مخدتيش بالك من مشيتي؟.. عارفة ليه ، عشانك مش شايفاني أصلًا
أخفضت "يارا" نظراتها حتى ساقها و هي ترمش عدة مرات بعدم استيعاب، ثم هزت رأسها استنكارًا و هي تكاد تمضي من جوارها مرددة بعدم تصديق:
- انتي استحالة تكوني ولاء اللي عارفاها
فـ اجتذبت "ولاء" عضدها لتستوقفها و هي تهدر بنبرة امتزجت مع شهقاتها و قد انهمر الدموع أنهارًا من عينيها:
- استني هنا رايحة فيـن؟ إيـه؟ الحقيقة وجعتك؟
نفضت "يارا" ذراعها و هي تردد بصوتٍ خفيض بالرغم من احتداد لهجتها:
- يا ريتني كنت مكانك يا ولاء!.. يا ريت كان عندي عاهة مستديمة زي ما بتقولي و مشوفتش اللي شوفته
فـ تلوّنت وجنتيها بحمرة فاقعة و هي تصيح باستهجان:
- هو إيه اللي شوفتيـه؟ ها؟ جاوبيني؟.. شوفتي إيـه؟
زمت "يارا" شفتيها و هي رفع ذقنها للأعلى، تجمعت العبرات في مقلتيها حتى باتت رؤيتها مشوشة، و لكنها اجتهدت لتكبحها، و بنبرة جافة حاولت ألا يشوبها الحُرقة أردفت و هي تشير بسبابتها:
- حركة واحدة!.. حركة واحدة كانت فارقة
و اشارت بسبابتها إلى نفسها:
- لو أنا اللي نسيت موبايلي مش انتي، كان فاتك شوفتي كل اللي شوفته! كان فاتني عندي عاهة مستديمة
و استطردت و قد خالج نبرتها التهكم:
- و انتي كنتي هتعيشي ملكة!.. ملكة حرفيًا يا ولاء، و لا كان هينزل دمعة واحدة من عينيكي، و لا كان هيبقى عندك عاهة، كنتي هتعيشي مع اكتر انسان بتحبيه ، لا حد هيقدر يتهمك بسرقة و يذلك ، و لا حد هيقدر يكلمك كلمة في وجوده ، لا كنتي هتلاقي ظلم و لا كنتي هتشوفي للقهر معني، لا كنتي هتعاني، و لا كنتي هتشوفي اللي عمرك ما اتخيلتي تشوفيه! كنتي هتعيش أسعد انسانة في الدنيا، خلاص يا ولاء؟ كده ارتحتي؟
و مضت نحو الباب ، أدارت المقبض و كادت تفتحه لولا كف "ولاء" الذي امتد ليصفق الباب مجددًا من خلفها، فـ التفتت "يارا" و هي تهدر بها بانفعال:
 - انتي عايزة مني إيـه؟
رددت "ولاء" و هي تنزح دموعها بلهجة جافة شابها السخط:
- اوعي تكوني مفكرة إنك صعبتي عليا! و لا الكلمتين اللي قولتيهم دول فرقوا معايا!
خطت بخطواتها المتعرجة نحو الكومود و راحت تتفقد حسابات التواصل الاجتماعي محاولة أن تفتح جرحها من جديد بينما كانت تردد بامتعاض:
- مستغربة!..مستغربة أنا بعاملك كده ليه، و مستغربة بابا عمل كده ليـه؟.. شكلك بتنسي بسرعة، لكن أنا هوريكي تاني يمكن لأول مرة مخدتيش بالك!
و راحت تبحث بدون جدوى، تغضن جبينها و هي تردد بعدم استعياب:
- هاه!.. إيه ده؟
انتفض قلب "يارا" هلعًا بين أضلعها، أوجس تعبير "ولاء" في نفسها خيفة، فخطت نحوها و هي تردد مستوضحة بلهجة متخوفة:
- إيه في إيـه؟ في حاجة حصلت؟
و لم تنتظر ردها، حيث سحبت الهاتف من بين اناملها، و راحت تمرر أناملها على شاشتهِ، تغضن جبينها و هي ترفع نظراتها إليها مرددة بنبرة حانقة:
- في إيـه؟ انتي خوفتيني؟
اجتذبت "ولاء" الهاتف من كفها و قد ارتسم السخط على صفحة وجهها ، و راحت تتفقد المواقع من جديد، ثم رفعت أنظارها إليها و هي تردد بنبرة شابها البغض:
- حتى لو كل حاجة اتمسحت الناس مش هتنسى، و لا هتبطل تتكلم عليكي!
ظل جبينها مُجعدًا و هي تردد مستفسرة بلهجة شبه محتدة و قد تعسر عليها فهمها:
- هو إيه ده اللي اتمسح!.. أنا مش فاهمة حاجة
أغلقت "ولاء" الهاتف و هي تردد متوسطة خصرها بكفيها:
- كل حاجة يا أختي!.. من دقيقتين مكنش في موقع مش ناشر كلام عنك! و دلوقتي سبحان الله كل حاجة اختفت، طبعًا فارس بيه هو اللي عمل كده! و مش هيعمل كده من نفسه أكيد
حلت عقدة حاجبيها و هي تحملق بعيني أختها فاغرة شفتيها قليلًا، شملتها "ولاء" بازدراء بادٍ، ثم التفتت لتخطو بتعرج نحو مكتبها، تناولت قدحها و قربته من شفتيها معلنة عن رغتبها في ترك أختها لغرفتها، فتابعت "يارا" ما تفعله بأعين ضائقة، بصعوبة ابتلعت غصة عالقة في حلقها، ثم استدارت و همّت بالمغادرة لولا أن استمعت إلى صوتها الناقم من خلفها و كأنها تحادث نفسها:
- حتى كوباية الشاي بردت و مش عارفة أتهنى بيها!.. زي كل حاجة حواليا
أدارت "يارا" المقبض و وطئت بقدمها للخارج و قد شعرت و كأن ثقلًا أقلى فوق صدرها، مجددًا.. لا تدرى ما يفعله، أو فيمَ يدور تفكيره، غيرت طريقها نحو غرفتها مجددًا ، أدارت المقبض بهدوء و ورابت الباب ليتسنى لها رؤية ما يحدث بالداخل، ضيقت عينيها و هي تتابع والدتها الجالسة أمامه على المقعد، فقد سحبت كفه و هي تحتضنه بكفها، مررت "حبيبة" ابهامها عليه و هي تغمغم بلهجة شبه مشدوهة بينما تتأمل ملامحه:
- سبحان الله! ازاي انت شبهه كده كأنك نسخة منه!
أخفضت نظراتها و هي تردد بصوت خالجه الشجن:
- متزعلش مني يا ابني! انت و حسين كان معاكم حق ، أنا السبب في موت أبوك!
و ترقرقت العبرات في مقلتيها و قد اختنقت نبرتها و هي تحاول التبرير:
- بس و الله يا ابني ما كنت أقصد، صدقني، لو كنت أعرف اللي هيحصل مكونتش سيبته!
انحدرت الدموع على وجنتيها و هي تسحب شهيقًا لصدرها، و ابتسمت لنفسها بسخرية و هي تغمغم:
- كنت فاكرة إني هكون أسعد انسانة في الدنيا لو اتجوزت اللي بحبه! شوف وصلنا لفين يا يامن، بناتي اتبهدلوا و أبوهم حتى موقفش جمبهم!
صمت هنيهة محاولة استجماع شتاتها قبل أن تهمس بصوتٍ شبه مبحوح:
- لو فاكر إني عيشت أجمل أيام حياتي تبقى غلطان، أنا من يوم ما قررت أرتبط بحسين و أنا مشوفتش غير الذل و القهر، استحملت كل حاجة يا يامن، اتخانقنا مليون مرة، و كل ما آجى أفسخ الخطوبة مقدرش.. مقدرتش يا يامن! هقول إيه لأهلي بعد ما سيبت يوسف الصياد بنفسه! و اخترت حسين الحديدي، مكنش ليا عين أتكلم، و اضطريت أستحمل كل حاجة، لغاية ما اتجوزت.. و شوفت المر كله من أهل جوزي، و برضو سكتت، سكتت.. و مقولتش حاجة، سكتت و مقدرتش أتكلم، حاولت اقنع نفسي بإنها أيام و هتعدي، لكن مفيش حاجة كانت بتعدي! مفيش حاجة بتعدي بالسهل يا ابني، لازم كل حاجة بتعدي بتاخد معاها من روحنا كتير
تركت كفه بجواره و قد اختنقت نبرتها، أطبقت جفنيها فانسالت الدموع منهما على وجنتيها، طردت زفيرًا حارًا من صدرها أعقبته بقولها الواهن الذي يحمل بين طياته الكثير:
- يمكن كل حاجة بتعدي، بس اللي بيعدي.. بيسيب جرح مش بيتنسى!
فرقت جفنيها لتنظر نحوه مجددًا و هي تومئ برأسها ثم دمدمت بصوت خافت:
- انا عارفة.. عارفة انك مبقتش كده من فراغ! عارفة إن هدى و كمال معرفوش يربوا
و فتر ثغرها عن ابتسامة صغيرة و هي تمرر أناملها بين خصلاته:
- بس كمان عارفة إن عشر سنين تربية يوسف مش هيضيعوا!
و أحنت بصرها عنهُ، متنهدة في حرارةٍ، ثم قالت معربة عن جهلها بتلك النقطة:
- مش عارفة أنا جايبة الثقة دي كلها منين
و أشارت بعينيها إلى موضع إصابته متمتمة:
- لكن كفاية إن بعد اللي عملته يارا إنت مسيبتهاش تترمي في السجون!
عم الصمت المريب حتى مالت عليه مجددًا و هي تردد بلهجة حانية:
- يوسف سابلي نسخة منه، حاسة كأنه سايبهالي أمانة بعد ما مراته ضيعتها!
ربتت على كفه الموضوع بجواره و هي تغمغم بتضرع:
- ربنا يشفيك يا ابني و يقومك بالسلامة، لو حصل لك حاجة لا يارا هتسامح نفسها، و لا أنا هعرف أسامح نفسي
و أحنت نظراتها عنه و هي تسحب كتاب القرآن الكريم من أعلى الكومود المجاور له، و فتحته ثم راحت تتلو من آياتهِ المباركة، و دموعها تتساقط تباعًا على وجنتيها.
بينما على الجانب الآخر.. تركت "يارا" العنان لدموعها لتغرق وجنتيها و هي تكتم فاهِها بكفها، أطبقت جفونها بقوة و هي توصد الباب مرة أخرى بحذر، ثم استندت بظهرها إلى الجدار المجاور للباب و هي تحاول جاهدة التحكم بنوبة بكائها فلم تتمكن، تركت جسدها يتراخى على الأرضية، و راحت تبكي بحرقة و هي تدفن وجهها بين كفيها منتحبة بخفوت ، لم تعلم كم مر عليها من الوقت، حتى انتفضت و هي تستند على الجدار بكفها لتتمكن من النهوض حين استمعت إلى صوت الباب ينفتح، نزحت دموعها بأطراف أناملها، و هي تولى ظهرها لوالدتها التي طلت من خلف الباب، فرددت "حبيبة" و هي تغضن جبينها:
- يارا! انتي منتيش لحد دلوقتي
سحبت شهيقًا لصدرها حررته على مهل، ثم رددت و هي تلتفت متجنبة النظر لعينيها:
- مجاليش نوم يا ماما
ربتت على كتفها و هي تردف بلهجة حانية:
- ده أنا كنت جاية أتطمن عليكي يا حبيبتي، ازاي مجالكش نوم؟.. ده انتي فاتك تعبانة أوي
رددت "يارا" و هي تحاول رسم ابتسامة باهتة على ثغرها بعدما تأملت ملامح والدتها الواهنة:
- انتي اللي شكلك تعبان أوي، خليني أنا معاه، و ادخلي انتي ارتاحي
مسدت" حبيبة" على خصلاتها النسدلة على جانب وجنتها، ثم ضمتها بكفها و هي تغمغم بتنيهدة مطولة:
- بتعيطي برضو يا يارا؟.. يا بنتي ارحمي نفسك شوية، الحمد لله انه عايش و خلاص
فرددت حانقة و هي تجفل نظراتها:
- ما أنا مكونتش عايزاه يعيش!
أومأت "حبيبة" و هي تحرر زفيرًا حارًا من صدرها، ثم رددت بنبرة ذات مغزى:
- أنا عارفة.. عارفة انك كنتي عايزة تخلصي من وجوده ، بس اسألي نفسك لو كان مات كنتي هترتاحي؟
هزت رأسها نفيًا و هي تجيبها باختناق:
- لأ
تقوست شفتي "حبيبة" بابتسامة لم تصل لعينيها و هي تردد:
- شوفتي؟
حاولت أن تنتشل نفسها من أحاديث لن تجدى ، فـ أبعدت كف والدتها و هي تتظاهر بالجدية:
- روحي يا ماما و انا هفضل، ارتاحي شوية
تنهدت بحرارة و هي تومئ برأسها ثم رددت و قد شعرت بالفعل بالوهن:
- حاضر يا يارا
......................................................................
تركت هاتفهِ أعلى المكتب الخشبي بجوار المقبس عقب أن أوصلته بشاحن هاتفها، ثم تركته مغلقًا و هي تنظر نحوه، مضت نحوه، و جلست أمامه ، مالت بجسدها عليه و هي تردد بنبرة جادة:
- انت سامع كل حاجة، صح؟
لم تتلقَ ردًا ، فـ زفرت بضيق و هي تحنى بصرها، ثم رددت بنبرة خبيثة ساحبة ساعته و هي تطوق معصمها بها:
- عمومًا مرسي على الساعة بتاعتك!
نهضت مجددًا لتمضى نحو النافذة، ثم فتحتها لتُطل على الحافة السفلية الخارجية الصغيرة أسفل حافة النافذة التي تضع أعلاها "إصيص" الورد الخاص بها، عبست فور أن وجدته ذابلًا و قد تساقطت بتلاته ، و لكنه لم يكن شيئًا لا تتوقعه، ارتفعت نظراتها للأعلى حيث صفحة السماء المُغلفة بالغيوم ، و القمر الذي يضوى بالمنتصف، عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تحرر زفيرًا حارًا عن صدرها، استندت بكتفها لحافة النافذة و راحت تتمعن النظر للسماء، النجوم الممتناثرة في صفحتها الغائمة أشبه بأمانيها التي لا تعلم كنهها حتى ، إنها تعاني بشكل عجيب، حتى أنها لم تعد تتفهم نفسها، تعاني من حالة من التناقضات بأشياء عِدة، لا تكاد تستوعب الأحداث المتلاحقة، حتى تجد شيئًا آخر يشوش تفكيرها أكثر و أكثر، استمتعت بالهدوء اللحظي بذلك الوقت و قد تعدت الساعة الثانية فجرًا، التفتت لتحضر قدح مشروب القهوة الممتزجة مع اللبن من أعلى المكتب، ثم عادت لوضعيتها، إلا أنها ضمت الكوب بكفيها محاولة أن تستمد الدفء من السخونة المنبعثة منه، أخفضت نظراتها أولًا تتأمل قدحها المميز الذي لا تتمكن من استخدام غيره، ثم راحت ترتشف منه بهدوء و نظراتها قد تسلطت مجددًا على الخارج ، كانت خصلاتها المُبتلة منسدلة على ظهرها و جانبي وجهها و قد تركتها حرة دون قيود، و ثيابها المكونة من بِنطال من الجينز الأسود و أعلاه كنزة صوفية من اللون الجملي المائل للبني ، و فور أن شعرت بالبرد ارتدت معطفًا منزليًا صوفيًا طويل يصل حتى ما بعد ركبتيها من اللون الأسود، هب نسيم عليل أنعش رئتيها فـ أطبقت جفونها مستسلمة لذلك الشعور الرقيق، ثم فتحتهما و قد افتر ثغرها عن ابتسامة راضية، مررت نظراتها على الغيوم و أومأت بخفة و هي تغمغم بصوتٍ خفيض:
- الحمد لله!
تركت قدحها فور أن أنهته، و راحت تنحني قليلًا لتحمل الإصيص و استدارت لتدلف به و هي تتلمس بأناملها وريقاتها الذابلة المتساقطة ، ترقرقت العبرات في مقلتيها، و لكنها كبحتها و هي ترسم ابتسامة زائفة باهتة على شفتيها ، تركته أعلى مكتبها الخشبي المطلي باللون الوردي الرقيق الذي يتناسب مع أثاثها الأنثوي، ثم التفتت و قد تهدل كتفيها، استمعت إلى صوت غمغمتهِ الغير مفهومة، فـ تغضن جبينها و هي تلتفت نحوه متعجبة، مضت نحو الفراش و انحنت عليه قليلًا محاولة الاستماع إليه فبدا و كأنه يهذي متوعدًا أحدهم، لم تتمكن من فهم كلمة واحدة مما قالها، فرددت مستفسرة:
- انت بتقول إيـه؟ مش فاهمة منك حاجة
اشتد كفه حين أطبق على أنامله، و تشنجت عضلات جسده و وجهه، فارتابت و هي تتأمل ذلك التطور بحالته، ازدردت ريقها و هي تحاول حلّ كفه بينما نظراتها مسلطة على عينيه مرددة بنبرة جادة تحثه على الاستفاقة:
- انت سامعني؟.. حاول تفتح عينك!
تركت كفه و قد استشعرت تلك السخونة المنبعثة منه، ازدردت ريقها و هي تصعد بكفها حتى جبينه، و راحت تتلمسه بأناملها و راحة كفها، فـ ارتفع حاجبيها و قد أصابها التوجس، انتصبت و هي تردد بارتياب جادٍ:
- طب أعمل إيـه أنا دلوقتي؟
تضاعفت تشنج عضلات جسده في الفراش ، فتضاعفت ريبتها، على الفور أرادت اللجوء لوالدتها، فـ وجدتها تغوص في أعماق نومها، عادت إليه مجددًا و قد استصعبت ذلك ، و حاولت اللجوء لنصائحها و قد تذكرت تعرض أختها للحمى سابقًا، فـ دثرته جيدًا بالأغطية الثقيلة و هي تحاول تثبيت جسده ، ثم مضت نحو الخزانة لتستخرج غطاء آخر ، و راحت تدثره به لكي يتعرق جسده فـ تخرج تلك السخونة عنه، استعانت بـ التيرمومتر الطبي، و راحت تدسه بين شفتيه، ثم سحبت مجددًا و نظرت من خلالهِ ، فـ فغرت شفتيها حين رأت خط الزئبق عند:
- هاه!..39!
 خرجت من الغرفة لتحضر صحنًا و ملأته بالمياه ، ثم راحت تحضر قطعة قماشية صغيرة، و عادت إليه مجددًا، جلست بجواره و هي تعتصر القطعة القماشية من المياه  العالقة بها، ثم بسطتها و انحنت قليلًا عليه لتضعها أعلى جبهته، دقائق ، ثم سحبتها لتضعها بالصحن مجددًا لتغمر القطعة الماشية الماء من جديد، و راحت تعصرها ثم تضعها مجددًا أعلى جبهته، حتى هدأ جسده قليلًا، و صمت عن هذيانهِ، تنهدت بحرارة و هي تعيد الكرة مجددًا حتى تركت القطعة أعلى جبينه، تثائبت و قد شعرت بالوهن عصف بها ، فـ إلى الآن لم تتمكن من الحظى بالنوم و لو لنصف ساعة حتى، لم تعلم كم مر من الوقت عليها و هي هكذا، حتى انتهت ، فـ تركت الصحن بالقطعة القماشية أعلى الكومود المجاور، ثم تحسست جبهته مجددًا، تراجعت قليلًا و قد شعرت بالقنوط، ثم نهضت لتحضر من علبة الإسعافات الصغيرة التي تضعها في غرفتها، مستهدفة إحدى الأقراص  العلاجية، عادت إليه مجددًا و هي تسحب دورق المياه من أعلى الكومود، و سكبت قليلًا منه في الكوب الزجاجي المجاور له، ثم استدارت إليه و هي تزم شفتيها، اضطرت أن تجلس بجواره ملتصقة به و هي تحاول إفاقته، فـ غمغمت و هي تحاول تمرير أناملها خلف عنقه لتتمكن من محاولة إفاقته:
- سامعني؟ صياد؟
همهم بخفوتٍ فتنفست الصعداء، ثم دمدمت بنبرة جادة:
- حاول بس تبلع المياه دي ، تمام؟
لم تتلقَ منه ردًا، فـ رددت متسائلة:
- سامعني؟ حاول تبلع
ضمّت شفتيها معًا و قد تهدل كتفيها بقنوطٍ، حررت زفيرًا حارًا عن صدرها و هي تتأمل ملامحه، ثم رددت و قد نفذ صبرها:
- لو سامعني ارمش تمام؟
رمش بالفعل بإحدى عينيه فتنفست الصعداء، أخرجت من الشريط العلاجي إحدى الأقراص الصغيرة، و دسته بين شفتيه، رفعت بصعوبة رأسه إليها لتلصق الكوب بشفتيه، فـ اعتدل قليلًا ليتمكن من الارتشاف، تفاجأت بهِ يُنهى الكوب بالكامل فبدا و كأنه عطش، حالما انتهى أبعدت الكوب عن شفتيه و هي تسألهُ:
- أجيبلك كمان؟
هزت رأسه بإيماء خفيفة لا تكاد تلحظ، فـ التفتت لتسحب الدورق ، و سكبت منه مجددًا، ثم اعتدلت لتواجهه و عاونته مجددًا للارتشاف حتى أنهى الكوب الثاني، فـ تغضن جبينها و هي تسأل بفضول:
- انت كنت عطشان أوي كده؟ عايز كمان؟
و بدلًا من أن يجيبها اعتدل محاولًا الجلوس فتأوه متألمًا بصوتٍ خافت و لكنه نجح في النهاية، اعتبرت ذلك مؤشرًا لاستعادتهِ وعيه بالكامل، فـ رددت بترقب:
- حاول تفوق تمام؟ متنامش تاني
و حالما انهت كلماتها كان رأسه يسقط على كتفها فابتل وجهه من خصلاتها ، خفق قلبها و تلاحقت نبضاتها الهادرة، ازدردت ريقها و هي تحاول إزاحته و إبعاد ثقل جسده عنها:
- صياد.. قـوم!
بصعوبة نجحت من أن تفلت من أسفله، نهضت متنفسة الصعداء و ظلت منحنية و هي تضبط الوسادة من خلفه لتناسب وضعيته الغير مريحة ، حاولت قدر الإمكان ضبط وضعه و لكنها فشلت في زحزحة جسده، فـ زفرت أنفاسها الواهنة و هي تدثره من جديد، ثم راحت تعتلى المقعد و هي تعيد خصلاتها خلف أذنيها، سحبت شهيقً عميقًا زفرته على مهل ، أصابها بعض الحنق فغمغم متذمرة:
- آخر ما كنت أتخيله إني أخدمك بالشكل ده! أو حتى إني أدخلك أوضتي و أنيمك في سريري!
و تثاقلت نبرتها و هي تردد بعبوس:
- يباي ، أنا عايزة أنام بقى! حتى مش لاقية حتة أنام فيها
ضمت ركبتيها الى صدرها، و كادت تحاول استراق بضع سويعات من النوم و إن كان وضعها غير مريح إطلاقًا، و لكنها خشت في النهاية أن تتطور حالته ، فزفرت بحنق و هي تغمغم بتبرم:
- مش مكتوب لي أنام حتى
نهضت محاولة أن تلهى ذهنها عن التفكير، فـ راحت تمضي نحو مكتبتها، لجأت لإحدى الروايات و عادت لتجلس أمامه ، ارتكزت بأبصارها عليه لثوانٍ ، ثم راحت تتفحص أولى الورقات مُمررة أعينها على الكلمات المُدوّنة، و لكن لم يمر سوى تقريبًا ستة عشر دقيقة و كانت تضم ساقيها إلى صدرها مستسلمة لسلطان النوم .
............................................................
.........................
.........................................................................
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن