"الفصل السادس و العشرون"

735 14 0
                                    

"الفصل السادس و العشرون"
طرقت باب غرفتهِ بشئٍ من التردد، فـ أتاها صوتهُ الأجش بعد دقائق:
- تعالى!
ارتبكت قليلًا و هي تدير المقبض و فتحت الباب لتجد الغرفة غارقة في الظلام، ضيقت عينيها و هي تحاول أن تبحث عنه ، فنقرت زر الإضاءة لتغمر الغرفة، و لكن صوتهُ المنزعج أتاها من داخل الشرفة:
- اطفيه
نقرت الزر مجددًا و هي تخطو نحو الداخل بشئ من الرهبة، كانت خطواتها حذرة، و فور أن خطت داخل الشرفة تسللت إليها تلك الغيمة الرمادية من الدخان الذي ينفثه من سيجارته ، و قد أنهى ما يقارب العلبتين، حيث كان جالسًا على أحد المقاعد، و رافعًا ساقيهِ إحداهما فوق الأخرى على سور الشرفة، و نظراته الغامضة مسلطة على نقطة في الفراغ، نفث مجددًا دخان سيجارته و هو يحرك بؤبؤيه نحوها قائلًا بنبرتهِ الجافة:
- خيـر؟
سعلت و هي تشيح بكفها أمام وجهها محاولة إبعاد ذلك الدخان عنها، فغمغم بخشونة و هو يحيد بأنظاره عنها:
- لو جاية عشان تكحي اطلعي برا!
عقدت حاجبيها استنكارًا، ثم سحبت لها مقعدًا لتعتليه و هي تناظره بتحدي من بين تلك السحابة بينهما، انحرفت أنظاره مجددًا نحوها، فـ حرر زفيرًا عميقًا من صدره و هو يتمتم من بين شفتيه بينما يبعد سيجاره عنهما:
- بنت حسين، لو جاية عشان تناقشيني يبقى أحسن لك تخرجي!
تفاجأ بها تميل بجذعها عليه لتسحب السيجارة من بين شفتيه:
- مش لازم تدخن و انت في حالتك دي، على الأقل استنى لما تتحسن!
و أطفأت السيجار في المنفضة تحت وطأة أنظاره الحانقة، ثم سحب علبتهِ مجددًا و أخرج سيجارة أخرى منها، و شرع يشعلها بواسطة قداحتهِ المعدنية و هو يصرف بصره عنها أثناء دسهُ لها بين شفتيه ليسحب نفسًا عميقًا منها، ثم أبعدها تاركًا إياها بين السبابة و الوسطى، ليشرد بنظراته في المحيط من حوله، تطلعت إليه بقنوط و هي تحرر زفيرًا عميقًا من صدرها، ثم زمت شفتيها و قد أرادت العبث قليلًا، فـ سحبت علبتهِ التي تركها على المنضدة المستديرة الصغيرة الفاصلة بينهما، و راحت تفتحها لتخرج واحدة و هي تقول بينما تتمعن النظر فيها:
- اممممم.. هي السجاير دي حلوة، بتنسي فعلًا يعني؟.. عايزة أجربها!
و سحبت معها قداحته من أعلى المنضدة و أشعلتها، كادت تدسها بين شفتيها، فانتفض مخفضًا ساقيه ليعتدل في جلسته المتأهبة، ثم سحبها من بين أناملها بشئ من العنف و هو يزجرها:
- بتعملي إيه، إنتي مجنونة؟
عبست و هي تعقد ساعديها أمام صدرها قائلة باغتياظ:
- اشمعنى انت!.. و لا هو حلال عليك و حرام عليا؟
أطفأ السيجارة التي كادت تشعلها و هو يقول بنبرة حازمة:
- بالظبط كده!
زفرت حانقة بينما كان يعود لوضعيتهِ الأولى مغمغمًا بنفاذ صبر:
- عايزة إيه يا بنت حسين؟
تطلعت إليه قليلًا تتأمل تعبيراته بتبرم، و ما لبثت نبرتها أن فاضت بالجدية البحتة و هي تسألهُ محاولة مواراة مرارتها:
- دفنته فيـن؟
لم يكن من الصعب عليه أن يدرك مقصدها، فـ تحولت تمامًا تعبيراته، و تبدلت أقنعتهِ ما بين البرود للشراسة، توهجت عيناه ببريق مهيب و هو ينقل نظراته نحوها، ثم أصرفها عنها و هو يقول بمنتهى القسوة:
- مكنش في حاجة منه تدفن!
تقلّصت معدتها من قسوة ما يتفوه به، و قد لاح التوجس على تعبيراتها قليلًا، ازدردت ريقها و هي تقطب جبينها قائلة بعدم فهم شابهُ الرهبة:
- قصدك إيـه؟
تلك المرة بسط ذراعه ليُطفأ هو سيجاره بنفسه و هو يقول بنبرة قاطعة:
- مش عايز السيرة دي تتفتح تاني، خلاص؟
ضمت شفتيها معًا و هي تتأمل تعبيراته، ثم سألتهُ بشئ من التردد:
- انت سمعت كلامي مع رهيف؟.. مش كده؟
لم يجيب، فقط ذلك التبدل الملحوظ في تعبيراته، و الشراسة التي تتفاقم بها كانت إجابة كافية، ضيقت عينيها و هي مرتكزة بأبصارها عليه، ثم قالت محاولة تبرير موقفها بنبرة شابها الحنق:
- انت السبب!
حاد بنظراته التي تقدح شررًا إليها، فـ أومأت و هي تردد:
- أيوة.. انت السبب، أنا نفسي مش عارفة أنا عايزة إيه، أنا رفضت خالد أكتر من مرة ، بل رفضته تمامًا
انفجر گالبركان صائحًا في وجهها:
- قولت مش عايز أسمع اسمه تاني، خلصنا
فـ ناطحتهُ بالرأس و هي تهتف مستنكرة:
- انت بتعمل كده ليه؟ أنا مش فاهماك، مش فاهمة منك حاجة أبدًا!.. تصرفاتك مش مفهومة، و أفعالك متناقضة، كل.. كل حاجة فيك غامضة
أخفض ساقيه و هو يعتدل في جلسته ليميل عليها قليلًا قائلًا بلهجة مشتدة قبل أن يهب واقفًا:
- و أنا قولتلك متحاوليش تفهميني.. لأن مش هتعرفي!
و استدار ليهم بالمغادرة، فسارت في أعقابهِ و هي تقول مستهجنة:
- أنا بقى عايزة أفهم..، عايزة أفهمك، عايز أفهم نفسي، و عايزة أفهم اللي بيحصل حواليا!
و رفعت كتفيها و هي تقول معترضة على سير الأحداث:
- أنا فجأة لاقيت نفسي متجوزة، متجوزة من واحد معرفش عنه أي حاجة، و مشوفتش منه غير الشر، و بعدين أكتشف فجأة إنه.. إنه!
 و ابتعلت كلماتها حين التفت إليها و قد توقف في منتصف غرفتهِ ليحدجها بصرامة سائلًا:
- إنـه إيه؟ إنه إيه كملي.. شيطان، حيوان، وسخ،.. مش كده، كملي يا بنت حسيـن!
زفرت أنفاسها الحانقة و هي تحنى أبصارها عنه، ثم عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تقول ممتعضة:
- معرفش!
خطا نحوها مشرفًا عليها بقامته، فلم تحاول التباعد، تركت نظراتها ترتفع إلى وجهه و هي تناظره بغرابة، فـ التقط مرفقها و هو يقول بشراسة:
- متعرفيش ليه يا بنت حسين؟.. اشمعنى دلوقتي متعرفيش؟
حرفت نظراتها بين جذوتيهِ الخضراوتين و هي تقول باختناق:
- عشان.. عشاني مش فاهمة حاجة! انت بتعمل معايا كده ليه؟ انت.. انت مش بتحس بالذنب أبدًا؟
انتقلت نظراته بين عينيها التي ترقرقت العبرات فيهما، فـ ترك مرفقها متظاهرًا بالجفاء التام و هو يقول بنبرة حاسمة:
- معملتش حاجة معاكي تخليني أندم أو أحس بالذنب يا بنت حسين!
التوى شدقيها بابتسامة مريرة و هي تقول متهكمة من بين دموعها:
- لأ طبعًا، دمرت حياتي بس، بسيطة!
ارتفع ذقنه ليقول محتدمًا:
- الدمار هيفضل في حياتك طول ما أبوكي عايش!
انعقد حاجبيها و هي تقول محتجة باحتداد:
- كــذب
فـ تشدق باستهجان:
- متحاوليش تقنعيني ان من قبلي كنتي عايشة!.. انتي بس بتقنعي نفسك بكده!
هوت رأسها استنكارًا و هي تهتف و قد احتدمت نبرتها:
- انت ليه مش متأكد غير من بابا؟ مع إن في ناس تانية انت شاكك فيهم
 و رفعت نبرتها قليلًا و هي تردد متوسلة:
- افهمني.. افهمني بقى بابا مستحيل يعمل كده!.. مستحيل
أشار بسبابتهِ و هو يقول بنبرة متصلبة شابها الاستنكار:
- متحاوليش تقنعيني إن أبوكي الأب الحنون اللي مفيش زيه في الدنيا! متحاوليش عشان مش هصدق!
رمشت عدة مرات و هي تنقل نظراتها بين عينيه، في حين تابع هو و قد ضاقت عيناه باستهجان واضح:
- افتكري كده موقف وقف جمبك فيه؟ افتكري كلمة دافع بيها عنك؟ حاولي تفتكري، حاولي!
فرّقت شفتيها لتجيبه و لكنها ابتلعت كلماتها مجددًا و هي تطبقهما مجددًا، راقب ارتباكها الظاهر حتى تمكنت أخيرًا من تجميع كلماتها فـ أردفت باقتضاب:
- بابا بيحبني! و بيحب ماما، بيحب أختى، و بيحبنا كلنا!
- قولي أمك بتحبك هصدقها، إنما الحديدي!.. متحاوليش تقنعي نفسك بده!
فـ احتدت نبرتها و هي تقول و قد احمرت وجنتيها بحمرة غاضبة:
- متحاولش توقع بيننا! إنت بتكـذب
قست تعبيراته و هو يقول بصوتهِ الأجش:
- بكرة نعرف الكذب من الحقيقة يا.. يا بنت حسين
و أردف مشيرًا بعينيه:
- أنا بقول تروحي تنامي أحسن، عشان الكلام في الموضوع ده مش هيفيد!
نزحت دموعها بحركة متشنجة و هي تناظره بنظراتٍ حانقة، و ما لبثت أن خطت بتشنجٍ من أمامه لتخطو نحو الخارج، أثناء غمغمتها الساخطة.
...........................................................................
في اليوم التالي,
حينئذ..
حيثُ الموجة العاصفة التي أحاطت شوارع القاهرة و راحت تطوف بين دهاليزها،.. ذلك الجو الذي يكون مُنحصرًا بين الشتاء و الربيع، الرياح العاتية المُحملة بالأتربة.
تجلس شامخة، رأسها مرفوع، عيناها المكحلتانِ تبرز قوتهما و هي تتطلع إليه بشماتة واضحة، بينهما هو يحدجها بنظرات متوعدة، دقائق مرت عليهما دون أن ينبس أحدهما بنت شِفة، فقط النظرات التي تحمل الكثير و الكثير تتبادل بينهما، إلى أن هشّمت "هدى" قالب الصمت بقولها و هي تعود بظهرها للخلف و بلهجة متعالية:
- طلبت تقابلني ليـه؟
أجابها بعينين أظلمتا:
- فارس موصلكيش الرسالة و لا إيـه؟
ازدردت ريقها بتوتر لم تترك الفرصة تسنح له ليبدو على ملامحها، وأدتهُ و هي تقول متماسكة و لكن رغمًا عن أنفها ارتجفت نبرتها قليلًا:
- قالي.. لكن بردو مفهمتش انت تقصد إيه بالظبط؟
ارتفع ذقنهُ و هو يقول بقسوة واضحة:
- قصدي واضح يا هدى هانم.. أنا لو وقعت.. مش هقع لوحدي!
مقابلتها معهُ كانت كارثيّة، تهديداتهِ تلك لم تتمكن من نزحها عن ذهنها طوال طريق عودتها للقصر، إنهُ أهوج.. سيُسقط نفسه في غياهب الجب و يسحبها معه، كانت ناقمة على ذلك، حتى لم تتمكن من اتخاذ القرار، و لكنها تعهدت ألا تفعل، حتى بلغت القصر فكانت الدهشة التي وقّدت نيرانها، اندفعت گالقذيفة نحوها و هي تراها تتجول هنا و هناك في باحة قصرها، ثم شنّت هجومها و هي تقبض على ساعدها هادرة بسخط تام:
- انتي لسه ليكِ عين تيجي هنا؟ انتي مش ريحتينا من خلقتك؟
سحبت "سهير" مرفقها ببرود تام و هي تهتف:
- يامن بيه رجعني القصر، و مقدرش أمشي غير بموافقته!
و تركتها تقف هكذا متصلبة بمحلها لا تقوى على الرد و دلفت للمطبخ، بينما هي كمن سقط دلوًا من الثلج أعلى رأسها، لم تشعر بنفسها سوى و هي تسب لاعنة إياها بأبشع الألفاظ، ثم اقتادتها ساقيها نحو غرفتها و هي تعبث بشاشة هاتفها، حتى دلفت و صفقت الباب من خلفها، بينما تنتظر ردهُ.
حينئذ كان قد أنهى حمامهُ الصباحيّ، يرتدي ملابسه استعدادًا للعودة لمقر شركاتهِ، بيد أنها لم تستفق بعد، فحبذ الرحيل قبل استفاقتها، فـ ينشب شجارًا آخرًا لن يثمر بينهما عن أي شئ، و بينما يسحب سترته استمع غلى رنين هاتفه، فـ سحبه على عجالة، امتعض و هو يخطو خارج الغرفة بينما يجيب:
- خير؟
كانت تذرع الغرفة ذهابًا و إيابًا و هي تقول متجهمة:
- ازاي ترجع سهير تاني؟ ازاي تعمل عملة زي دي من غير ما ترجع لي؟ ها؟
حل أزرار قميصه حتى منتصف صدره و قد شعر و كأنه هنالك ما يطبق على أنفاسه فور استماعهِ لصوتها، تجهم وجهه و هو يجيبها ناقمًا:
- متعودتش حد يناقشني في قرارتي يا هدى هانم!
ارتفع ذقنها و هي تقول حاسمة الموقف بنبرة تنضح بالجديّة:
- أنا عايزة أشوفك يا يامن.. انت فيـن؟
صمت و لم يجبها، فـ أردفت بنبرة اهتزت قليلًا:
- عايزة أشوفك ضروري!.. ضروري، أنا عارفة إنت فين، أكيد في بيتك، سلام، أنا في الطريق!
فـ قال ساخطًا و قد تشنجت عضلاتهِ:
- لو عايزاني في موضوع سهير فريحي نفسك و بلاش تيجي، الموضوع منتهى
صمتت هنيهة قبل أن تقول بلهجة غامضة:
- لأ.. عايزاك في حاجة تانية، سلام
أنهى المكالمة و هو يزفر حانقًا، ثم غمغم ساخطًا:
- ناقصك انتي كمان!
...............................................................
كان يتجول بين الردهات ليتأمل الغرف بنظراتٍ شموليّة، خرج من احداهم حتى استقر في الأخرى و هكذا، حتى توقف في منتصف غرفة الجلوس، التوت شفتيه بإعجاب لما أُحدث بها، فـ هو طوال منذ أن حطّت طائرتهِ بأرض الوطن كان مخططًا لما سـ يفعل، كان المهندس يقف مجاورًا له متأملًا تعبيراته التي كساها الإعجاب و الرضا، ضيق عينيه و هو يقول موضحًا:
- في أي حاجة حضرتك عايزنا نغيرها يا بشمهندس؟
التفت نحوه "فارس" و قد تجلت الجدية على ملامحه، ثم قال و هو يصرف بصره ليشمل الغرفة مجددًا:
- لأ، كله تمام جدًا، مش فاضل غير تعديلات بسيطة جدًا هعملها بنفسي
أومأ و قد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة مجيبًا بارتياح:
- تمام يا بشمنهدس
.....................................................................
ترك هاتفه جانبًا لينتصب في وقفته ليتحرك نحو الباب، أدار المقبض فـ كانت متجهمة عاقدة ساعديها أمام صدرها، قوّست "هدى" شفتيها و هي تقول بامتعاض:
- أهلًا!
ظل جبينهُ مجعدًا و هو يستند بكتفهِ إلى حافة الباب المفتوح، و بلهجة قاتمة أردف:
- جاية ليه؟
حلت عقدة ساعديها و هي ترمقه بنظرات مغتاظة ، ثم تجاوزتهُ لتدلف و هي تتشدق:
- مش هتقولي اتفضلي
فـ أجابها ساخرًا و هو يصفع الباب من خلفها:
- و اتفضلي ليه؟ ما انتي دخلتي!
توقفت و هي تُنقب بنظراتها عن شئ بعينه، فـ قال و هو يشرف عليها بقامته ليحول دون تفقّدها:
- مش هتقولي عايزة إيـه؟
 عقدت ساعديها أمام صدرها مجددًا و قد تقوست شفتيها بتبرم:
- أومال فين الهانم مراتك اللي طعنتك؟
كان باردًا لحد كبير، فلم يبالي بقولها، مضى نحو الواجهة الزجاجية و توقف منتصبًا أمامها، أخرج علبة سجائره ليخرج واحدة و أشعلها بقداحتهِ الفضية، دسها بين شفتيه و هو يسحب نفسًا عميقًا منها، و نفثّهُ أثناء قوله:
- أظن انتي مش قاطعة المسافة دي كلها عشان تسألي السؤال ده، و لا إيـه؟
لم تكترث كونه أقبل على التدخين، أو حتى بحالتهِ الطبية فلم يكتمل تحسنه بعد، و لكنها غمغمت عاقدة حاجبيها و هو تدنو منه:
- متقولش انك هتعديهالها يا يامن، البت دي..
قاطعها بلهجة متصلبة و هو يلتفت نصف إلتفاتة:
- هـــدى، ادخلي في الموضوع!
 زفرت أنفاسها الحانقة و هي تنظر نحوه، ثم أومأت و هي تقول باقتضاب:
- تمام، هدخل في الموضوع
 و صمتت هنيهة قبل أن تستأنف بإيجاز:
- كمال!
امتعض و قد توهجت حدقتاه بوهج مخيف قبل أن يصرف بصره عنها تمامًا فـ ينظر من خلال الزجاج، قائلًا بشراسة و هو يكشر عن أنيابه:
- ماله؟
زمّت شفتيها و هي تقول و قد رقّت نبرتها:
- انت.. انت هتعمل في عمك كده يا يامن؟ هتسجنه بجد؟
التفت نحوها ليمنحها نظرة مزدرية، و قد تقوست شفتيه بنفور و هو ينطق:
- لسه هتدافعي عنه بعد اللي عمله فيكي!
رمشت عدة مرات و هي تزدري ريقها، أطبقت أسنانها و هي تطرق و قد شعرت بدمائها تغلي في أوردتها، تلمست بأطراف أناملها كدمة في وجهها، ثم قالت محاولة السيطرة على ثبات نبرتها:
- دي.. دي كانت مشكلة بيننا و خلاص عدت
و حمحمت و هي تتابع:
- أي.. أي راجل و مراته لازم يحصل كده بينهم يا حبيبي!
أطبق على أسنانهِ حتى كاد يهشم أسنانهِ، حكّ "يامن" عنقه بانفعال، ثم التفت نحوها و هو يسحب سيجارتهِ من بين شفتيه:
- انتي حبك ليه عاميكي للدرجة دي!
زفرت "هدى" أنفاسها الحانقة، ثم قالت محاولة تغيير دفّة الحديث:
- مش ده الموضوع يا يامن، الموضوع إنك هتسجن كمال بعد ما اتهمته بإن هو اللي حاول يقتلك، هتسجنه بالسهولة دي؟
حاول قدر المستطاع الحفاظ على قناع بروده، فـ دمدم مشيحًا بوجهه عنها و هو ينفث دخان سيجاره من جديد:
- هو اللي عمل كده في نفسه!
تغضن جبينها و هي تهتف مؤنِّبة:
- عشان كان عايز يجيب حقك؟
تجلت القسوة على ملامحه و هو يلتفت ليحدجها بنظرة ذات مغزى ثم قال:
- حقك و حق أبوك و الكلام ده خلاص، مبقاش يفرق معايا، ده كان زمان
سحبت شهيقًا عميقًا و هي تقبض على حقيبتها، ثم فرقت شفتيها لتقول بأسى زائف:
- يعني إيه؟ خلاص؟ موت أبوك مبقاش فارق معاك، قتله مش فارق معاك، ده اتقتل قدام عينك!
برح محله ليمضي نحو المنضدة، و انحنى قليلًا ليُطفأ سيجارهُ في المنفضة و هو يقول ببرود:
- طب و كان فارق معاكي موته؟ عايزة تجيبي حقه ليه؟
اهتزت رأسها استنكارًا و هي تؤنبه قائلًة:
- دي آخرتها يا يامن؟ بتقول إنه مش فارق معايا؟ ده أنا محبتش حد من قبله و لا من بعده
و أحنت نظراتها عنه و كأنها تهم بالبكاء، ثم قالت بمتابعًا بلهجة مبحوحة:
- هو.. هو اللي محبنيش، منجحتش في إني أخليه يحبني!
أومأ و هو يرفع نظراته إليها عاقدًا ساعديه أمام صدره، ثم قال متشدقًا:
- انتي هتقوليلي!
ارتفعت أنظارها إليه و هي تقول مستأنفة تمثيلها:
- أيوة يا يامن، هو محبش غيرها، و انت عارف ده!
جاراها في ما تفعل، فـ حل عقدة ساعديه ليحك بطرف سبابتهِ أنفه و هو يقول:
- طب و اتجوزتي أخوه ليه لما انتي محبتيش غيره؟
زمت شفتيها ثم قالت و هي تناظره باحتداد:
- ده عشانك و عشان أخوك، عشان أضمن حقكم، عملت كده عشان خاطركم
و قست نبرتها و هي تقول متذمرة:
- و في الآخر ده ردك على تضحيتي!.. أنكرتني و أنكرت وجودي، ده حتى ماما صعب عليك تقولها لي
سئم ما تفعل و أصابه الضجر فعليًا من ذلك الحديث الذي لربما ينحدر إلى ما يريد، لا يريد الإفصاح عن شئ سوى بالوقت المناسب، فـ أردف و هو يخطو نحو المنفضة، ليُطفأ بها سيجارته و قد أظلمت عيناه:
- هــدى، ما بلاش نتكلم في مواضيع أنا و إنتي عارفين نهايتها هتكون إيه
حمحمت لتبعد ذلك التحشرج عن صوتها متظاهرة بالثبات، ثم قالت باقتضاب:
- اتصرف و طلعه زي ما دخلته
- عشم إبليس في الجنة
عقدت حاجبيها مقلصة المسافة بينهما و هي تقول معترضة:
- يعني إيـه؟ هتسجنه؟ هتسجن عمك اللي حل محل أبوك، اللي خد باله منك و رباك و كبرك، اللي علمك تبقى راجل ازاي؟ هتسجن عمك اللي حاول ياخدلك حقك من اللي كانت هتقتلك!
و گأنها أشعلت فتيل القنبلة، حيث لكم سطح المنضدة براحتهِ بعنفٍ و قد التهب وجهه و توهجت نظراته، أثناء جأرهِ:
- ما كفايـة بقى.. كفايـــة!
فـ احتدت و هي تخلع عنها قناع الرقة ليتبين وجهها الحقيقي:
- كفاية ليه؟ ها ليـه؟ مش ده الصح؟ مش ده اللي حصل؟
فـ اشار بسبابته و هو يقول باستهجان تام:
- و من ضمن اللي حصل إنك كنتي واقعة في أبويا و بتموتي فيه؟
دنت منه أثناء قولها الثابت:
- كرهته!.. كرهته بسبب حبه ليها!
و توقفت أمامه مباشرة و هي تقول بلهجة آمرة:
- و زي ما قولت بلاش نتكلم في مواضيع ملهاش لازمة، كمال هيطلع!
فـ هدر بها ساخطًا:
- و لما انتي اتجوزتيه عشاني، عايزة تطلعيه ليه؟ مش قادرة على بعده ليه يا هدى هانم؟
فقالت بسلاسة و كأن ما تقوله عاديًّا للغاية:
-حبيته! لاقيت يوسف التاني بالشكل اللي عايزاه، لاقيت يوسف تاني أقوى منه يقدر إنه يدافع عني مش يسيبني أتهان، لاقيت راجل يحبني بجد، و في نفس الوقت يعتبر يوسف، يوسف اللي بيحبني
اشمئز من كلماتها و بدا ذلك على ملامحه و هو ينهرها قائلًا:
- كفايـة، كفايــة!
ارتفع ذقنها للأعلى و هي تقول باصرار و بلهجة محتدة:
- لأ مش كفايـة، لأ، مش هبطل،.. هقول كل اللي كاتماه جوايا من سنين! أنا عمري ما حسيت إني ست بجد مع أبوك، كان بيقرب مني و هو قرفان! كان بيقرف مني!.. مكنش شايف غيرها! هي و بس!
تقبض كفاه بجوارهِ و هو يصر على أسنانه حتى اهتز صدغيه، ثم تمتم من بين أسنانه المطبقة بكلمة واحدة محذرة:
- كفايـة!
و كأنها لم تستمع إليه، حيث احتدت نظراتها و هي تقول بتشنج مشيحة بكفيها:
- حبيبة! حبيبة! حبيبة!.. كل حاجة كانت حبيبة، مكنش على لسانه غير حبيبة، ينام يحلم بحبية، يصحي ميناديش غير لحبيبة، يكلمني فلسانه ميقولش غير حبيبة!
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تقول باستهجان مسلطة لنظراتها في عينيه مباشرة:
- كل ده و مش عايزني أكرهه؟.. أيوة بعترف إني كرهته و يمكن عمري ما حبيته!، بعترف بده، أنا بكره يوسف، بكرهه، و بحب كمال، محبتش في حياتي غير كمال!، خلاص
گجمرتين من النار كانت نظراتهِ، و گحمم بركانية ملتهبة تطيح بما حولها من الأخضر و اليابس بلا تفرقة أو تمييز كانت كلماتهِ:
- كمال؟ متأكدة؟ مش حسيـن؟
لم يبالِ بوقع الصدمة عليها إثر كلمتهِ الأخيرة تحديدًا و راح يتابع:
- قولي.. قولي يا هدى هانم متتكسفيش، مش يمكن مراتي تطلع أختي!
صفعةً تردد صداها هبطت على وجنتهِ، صفعةً لم يتوقعها مطلقًا، و لكنهُ بالرغم من ذلك ظلّ ثابتًا لم يرف له جفن، لم تنل سوى نظراتهِ التي احتدمت أكثر و أكثر، هزت رأسها استنكارًا و هي تهتف بهِ معنفة:
- وصلت بيك السفالة للدرجة دي؟ وصل بيك إنك تكلم أمك كده؟ أنا فعلًا معرفتش أربيك
و راحت تسحب حقيبتها لتثبتها على كتفها و هي تقول ساخطة:
- أنا غلطت لما جيت لك و كنت فاكرة إنك هتحن! غلطت لما كنت عايزة أسمع كلمة ماما منك في يوم
و استدارت لتنصرف بارحة مكانها، بينما هو لم يتحرك قيد أنملة، لم دومًا؟ لم يُوضع دومًا في محل الجاني؟ لمَ أمامها تحديدًا؟ لم يحتمل كونها ستتمادى، لم يحتمل كونها تضعه دومًا محل الابن العاق، فـ بدون أن يلتفت تزاحمت الكلمات على لسانه، و ما كان منه إلا أن أطلق لها العنان:
- كان احساسك إيه و انتي الصبح في حضن واحد و بالليل في حضن توأمه؟
تيبست قدامها محلهما و كأنهما لا تقويان على المزيد من الحركة، تلك المرة كانت صدمتها أشبه بصاعقة حلت عليها، برودة نخرت عظامها، و صوت نبضها الذي دوا في أذنيها طغى على أى صوت من حولها، توسعت عيناها و كأنها ستخرجان عن محجريهما، التفتت نحوه و هي تغمغم يعدم استيعاب و تيه يغلف نبرتها:
- انت.. انت بتقول إيه؟
تلك المرة التفت نحوها مميلًا رأسه للجانب قليلًا متشدقًا:
- هتنكري بردو؟.. المرة دي مش هينفع!
و دنا منها بخطواتٍ شبه بطيئة و هو يقول بنفور:
- لأني شفتك بعيني!
لم تعلم كيف اقتادتها قدماها إلى ذلك المقعد فتركت جسدها يتهاوى عليه، بينما هو يتأمل فقط وقع الصدمة عليها، فـ أردف متعمدًا:
- قوليلي بقى كنت بتحسي مع مين فيهم إنك ست وقتها؟ كمال!
هزت رأسها نفيًا و هي ترفع نظراتها إليه مدمدمة بضياع:
- إنت.. انت مش فاهم حاجة
فـ عقّب مصححًا خطأها:
- كنت.. كنت مش فاهم حاجة! معلش بقى مكملتش عشر سنين حتى! لكن فهمت، مع الأيام فهمت!
ازدردت ريقها و قد ترقرقت عبرات حقيقة في مقلتيها بينما تهمس:
- مـ..محصلش
فـ ردد محيدًا ببصره عنها بقساوة:
- و أهى طلعت مراته شبهه و سابته!
و تسلطت نظراته عليها مجددًا و هو يقول متشدقًا بجفاءٍ:
- و بعدين مش يمكن عرفت بوساخته فهربت، حقها!..مغلطتش!
تلاحقت أنفاسها و هي تغمغم بصوت خفيض:
- انت.. انت مش..مش...
دنا منها ليميل بجذعهِ العلوى عليها مستندًا بكفيه إلى حافتيّ أريكتها، ثم سألها بينما يغرس نظراته في عينيها:
- مقولتليش.. حصل حاجة بينك و بين الحديدي؟
و انتصب ليدس كفيه في جيبيهِ قائلًا محاولًا مواراة الاشمئزاز في نبرته مما يتفوه به:
- مش يمكن غفلتي أبويا السنتين اللي سافر فيهم، و حملتي منه و خلفتي و رميتيها لحبيبة؟ ما أنا لازم أعرف!
هزت رأسها بالنفي تشنجًا و هي تقول:
- كفايـة!
فـ انحنى عليها مجددًا لاكمًا مسنديّ الأريكة و هو يقول بشراسة:
- ليه كفايـة؟ ليه دلوقتي كفايـة؟ عشان الكلام مش عاجبك، عشان مش جاي على هواكي؟ كفاية ليــه؟ ما تنطقي!
اشتدت قبضتيها على ملابسها و قد انحدرت الدموع من بين جفنيها، فراح يعنفها بقولهِ:
- اتكلمي.. متفضليش ساكتة!
و أيضًا لا إجابة سوى دموعها التي تضاعف انهمارها و هي تحنى بصرها عنه، مما جعل الشك ينهش منه رويدًا رويدًا، خشى حقًا من أن يكون ما يدور بذهنهِ حقيقة فعليّة، فـ لم يشعر بنفسهِ سوى و هو يجأر بصوتٍ جهوري و قد اشتدت عضلات جسده و برزت عروق جانبيّ رأسه بوضوح:
- انطقـــي
فـ هدرت نافية من بين نشيجها الخافت:
- لأ
نهج صدره علوًا و هبوطًا من فرط انفعالهِ و هو ينظر نحوها بترقب من جمرتيهِ، بينما رفعت أنظارها الدامعة بتروٍ و هي تقول بصوتٍ مهتز:
- مـ..محصلش حاجة بيننا، بطل افتراء بقى، كفاية افتراء عليّا!
رمقها بنظراتٍ ناريّة شابها الشكّ، ثم تشدق و هو ينتصب:
- افترا!.. ماشي
كاد يخطو مبتعدًا عنها لولا أنها تركت حقيبتها و استقامت واقفة بصعوبة و هي تنقل نظراتها المشوشة إثر الدموع التي ترقرقت في مقلتيها، ثم سحبت كفه و هي تحاول استعطافه، قائلة بشجن و هي تتوسله:
- يامن.. يامن افهمني، أنا.. أنا و حسين و الله ما حصل بيننا حاجة
سحب كفه من قبضتها و هو يستدير قائلًا بجفاء:
- حاسبي
انتقلت لتقف أمامه لتسد عليه الطريق، ارتفع كفيها لإحاطة وجهه محتضنة وجنتيه و هي تقول من بين دموعها:
- عشان خاطر أخوك، عشان خاطر أخوك يا يامن تسمعني!.. أرجوك يا يامن، أرجـوك!
تقبض كفاه بجواره حتى ابيضت مفاصل أصابعه و هو يجأر بها بسخط:
- عايزاة تقولي إيه أكتر؟ عايزة تقولي ايــه؟
انهارت باكية و قد تعالت شهقاتها، لربما تلك المرة الأولى في حياتهِ يراها تبكي بذلك الشكل الذي يُدمي القلوب، و لكنه أبى أن يخضع لزيفها، كاد يزيح كفيها عن وجهه لولا أنها شددت من احتضانهِ لهما و هي تقف على أطراف أصابعها مسندة جبينها على جبينه و هي تنتحب بأنين مرتفع، استكان مطبقًا جفنيه بينما كانت تقول من بين شهقاتها، بنبرة بدت للمرة الأولى في حياتها صادقة، بشكلٍ جعله يستشعر أن هنالك ما لا يمكن تخيله لا يزال مخبَّأ:
- انت متعرفش حاجة.. متعرفش حاجة عن اللي شوفته معاه، فاكره ملاك و هو شيطان، متعرفش حاجة!
فـ نطق بخفوتٍ محذر من بين شفتيه:
- كفايـة! كلمة تانية عليه و هنسى انك تقربيلي!
فـ رفعت جبينها عنه لتنظر نحوه بشجنٍ أثناء قولها المنتحب:
- يمكن انت الحسنة الوحيدة اللي في حياته، يمكن انت الوحيد اللي حبه بجد، لكن.. لكن هو كان..
 و عادت تستند بجبينها عليه و هي تشهق شهقاتٍ متوالية، هز "يامن" رأسه استنكارًا و هو يبتعد عنها نازحًا كفيه عن وجهها، و نفضهما بعنفٍ و هو يقول مستهجنًا:
- مفيش مبرر للخيانة!.. الخيانة ملهاش مبرر!
و أشاح بكفهِ و هو يجأر و كأنه يثبت ذلك لنفسهِ:
- الخيانة مفيش ليها مبرر! مفيش مبرر ، مفيـــــــش!
 و ارتفعت نبرته أكثر في كلمته الأخيرة، ارتعشت أناملها و هي تنزح دموعها محاولة السيطرة على تلك الرجفة التي أحاطت جسدها، ارتفعت أنظارها نحوه بتروٍ و هي تومئ برأسها ببطء قائلة:
- لو خنته فهو كمان خانني!.. خانني بحبه ليها و أنا على ذمته! خانني بشكل عمرك ما هتتخيله و لا هتقدر تخمنه!
شدد من ضغطهِ على عضلات فكيه و هو يرمقها بنفور تام، ثم ردد بخفوت محذر من بين أسنانه المطبقة:
- امشي يا هدى، امشـي!
أومأت برأسها و هي تقول بصوت مبحوح ساحبة حقيبتها:
- همشي، لكن قبل ما أمشي عايزاك تعرف حاجة واحدة
و توقفت أمامه و هي تتأمل ملامحه ثم قالت بشرودٍ غامض:
- في حاجات كتير انت لو عرفتها.. لو عرفتها هتعرف وقتها إن محدش في الدنيا حبك قدي!
و التفتت تهم بالمغادرة، فـ استوقفها بقولهِ الخشن و قد شعر بأشواكٍ تنغرس في منتصف فؤاده:
- أنا كنت بموت يا هدى!
توقفت بمحلها دون أن تلفتت، فـ راح يستطرد:
- كان ممكن أموت في أي وقت، محسيتيش إنك لازم تشوفيني لآخر مرة، محاولتيش تشوفي ابنك عايش و لا لأ، محاولتيش تشوفي ابنك لسه فيه النفس و لا مات؟
فـ شددت من قبضتها على حقيبتها و هي تقول بخفوت مبررة دون أن تلتفت:
- حاولت.. و فارس منعني
خطى نحوها ليقف أمامها مجبرًا لها على النظر إليه و هو يقول مستهجنًا و قد استعاد قسوتهِ:
- لو كنتي حاولتي بجد زي أي أم بتحب ولادها زي ما بتقولي، مكنش في قوة على الأرض تقدر تمنعك!
ارتفعت أنظارها إليه و هي تغمغم بثبات:
- كنت عارفة إنك هتعيش.. كنت عارفة إنك أقوى من كده
- أنا مش إله مُخلّد في الدنيا عشان تبقى متأكدة إني هعيش!.. متحاوليش تبرري
فارتفع حاجبيها و هي تقول بنبرة جادة:
- و الأم بتحس باللي بيحصل لولادها، و أنا كنت حاسة إنك هتعيش
و احتدت نبرتها قليلًا و هي تقول مستطردة:
- لما حاولت تنتحر و انت صغير عيشت!.. دلوقتي كنت هتموت؟ فهمني ازاي؟
كشّر عن أنيابه و قد تشنجت نبرته و هو يقول:
- عذر أقبح من ذنب!.. انتي بتحاولي تبرري أي حاجة بتعمليها و بس!، مبتحاوليش تشوفي نفسك غلطانة
فـ نطاحتهُ بالرأس و هي تقول بنبرة شبه محتدمة:
- و انت عمرك ما شوفت نفسك غلطان يا يامن
فـ تشدق بقسوة قائلًا:
- تربيتك!
هزت رأسها استنكارًا من رأسهِ المتحجر و هي تتجاوزه قائلة بصوت غلبتهُ الرجفة:
- أنا ماشية يا يامن، أنا ماشية
و مضت مستوفضة نحو الخارج و هي تغالب دموعها التي تجمعت في مقلتيها، و راحت تصفع الباب بعنفٍ من خلفها، تزامن ذلك مع سقوطهِ متهالكًا على الأرضية الصلبة، مستندًا إلى الجدار من خلفهِ بظهرهِ، و اتكأ برأسهِ إليه و هو يطبق جفنيه بقوة، شعورهِ آنذاك لا يوصف، كم اشمئز من نفسه كونه ينتمي لعائلة گ تلك، كم اندلعت النيران بصدره حتى طالت قلبه، تلك النيران التي لا يجد لها مُطفأ، اتقد داخله أكثر، ألن ينتهى ما يعايشه يومًا ما، هو دائمًا أقوى، دومًا يتجاوز، و لكنه آنذاك انتابه شعور بالضعف.. بالعجز.. بالقهر.. بالنفور من نفسهِ.. ممن حوله، و كأن طاقة الحزن بالعالم أجمع سكنت بداخله، هو قادر على التجاوز، تجاوز ما سبق وحده، و سـ يتجاوز وحده أيضًا:
- انت كويس؟
أتاهُ صوتها الرقيق على حين غِرة، فلم يفتح عينيه و لم يجبها، ظل على حالتهِ المتيبسة، فـ جثت على ركبتيها أمامه و هي تقول باهتمام مدققة النظر لملامحه:
- حصل لك حاجة؟
- تـؤ
لم يبد عليه أي تغيير و هو ينطق بكلمتهِ الموجزة، بل ظل جامدًا كما هو، فزمت شفتيها قبل أن تقول مغضنة جبينها:
- بس أنا سمعتك بتزعق، انت مش بترحم حد أبدًا؟
تلك المرة فتح عينيه و قد تحفّزت خلاياه تمامًا و هو يصرف نظره تلقائها، لم يرف له جفن و هو يسألها متشككًا:
- سمعتي إيه بالظبط؟
ارتفع كتفيها و هي تقول بلا اكتراث:
- سمعتك بتزعق لحد و انت بتتكلم في الفون، ده انت صحيتني بصوت زعيقك!
اعتدل في جلسته ليجتذب مرفقها بشئ من الحدة و هو يسألها بعنف:
- سمعتي إيه؟ انطقي!
.........................................................
.....................
.....................................................................
 
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now