"الفصل الحادي و الأربعون" الجزء الأول

708 16 0
                                    

"الفصل الحادي و الأربعُون"
"

تلك الأيام التي تمرّ مستهلكة روحي و مستنفذة ما بقى لي.. إنها عُمري!"
يومين كاملين مرّا و هي حبيسة غرفتها بالمشفى القريب ذو الإمكانيّات المحدودة، و لكنها على الأقل كانت تفي بالغرض، كان دومًا متواجدًا.. تشعر بذلك، و لكن العجوز فقط من كان مرافقًا لها كظلها، يومين لم تحادثه سوى لمرات معدودة، و كانت بها جافّة للغاية، مقابلة ثباتهِ بالقسوة، حتى أتى يوم خروجها من أسرها المؤقت، لتعود لأسرها الدائم.
كانت تستند على العجوز الذي عاونها لتخطو للخارج، قابلتها تلك النسمات الباردة المنعشة فاستقبلتها بفتور، خاصةً حينما سقطت أنظارها على سيارتهِ و هو يجلس بها خلف المقود، ملامحهِ الجامدة الصلبة تلك أثارت استفزازها، تأففت و تشنج جسدها فهدئها العجوز بقولهِ الهامس:
- اهدى يا بنتي
فهمست لهُ باحتجاجٍ واضح:
- أنا مش هركب معاه
فقال لها كذبًا:
- ما أنا معاكي يا بنتي
فكادت تعترض من جديد و هي تقلب عينيها في سئمٍ:
- يا عم منصـ...
قاطع صوتها صوت بوق السيارة الذي أعرب بهِ عن نفاذ صبره، فزفرت بحنق واضح، فاقتادها العجوز مسايرًا خطواتها و هو يقول بقنوط:
- معلش يا بنتي، مفيش فايدة منه العناد
أشاحت بأبصارها بعيدًا حتى وصلا للباب الأماميّ، تركها العجوز ليفتح بابها، فانحنت لتستقل السيارة على مضض، أوصد "منصور" الباب من خلفها، ثم ابتعد، فاعتقدت أنه سيستقل المقعد الخلفي، و لكن الصدمة حين ضغط "يامن" على دواسة البنزين فانطلق بها، اتسعت عيناها و هي تلتفت لتنظر نحوهُ من الزجاج المجاور لها، فكان يبتسم ببشاشتهِ المعهودة و هو يشير لها مودعًا، كزّت على أسنانها و هي تلتفت نحوه لتقول بلهجة حانقة:
- عم منصور!، انت نسيته و لا إيه
أخفض "يامن" نظارتهِ القاتمة ليخفى عينيه الحمراوين خلفها أثناء قوله الصلد:
- هيركب مع الحراسة
فهدرت بهِ و قد استشاطت غيظًا:
- ليـه؟
و لم يجبها، فتأففت و هي تعتدل في جلستها و قد شعرت و كأنها على مرجل، هزت إحدى ساقيها من فرط انفعالها، بينما هو لم يُكلف نفسه عناء النظر إليها، و لكنها لم تكن تنتبه إلى نظراته المُختلَسة، استندت بمرفقها لحافة النافذة، و بكفها للرقبة الطبيّة التي عادت تستخدمها مجددًا اثر وقوعها، أخذت تتابع بطرف عينها الطريق من زجاج نافذتها دون التفوّه ببنت شفة، و لكن بداخلها أحاسيس عِدة، و أبرزهم ذلك الشعور البغيض، فقد طُعنت مجددًا و مجددًا في كبريائها طعنة نافذة على يده، و ذلك الشعور كان كفيلًا ليُسكن النقم مجددًا بداخلها.. تجاههِ.
.....................................................................
كانت تبكي و قد تعالت شهقاتها ثم غمغمت من بينها:
- أعمل إيه يعني؟.. مكنتش أعرف إنها هتعمل كده؟، دي ما صدقت وافقت قالتلي الفرح الأسبوع الجاي!، أعمل إيه يا يارا!
فـ أتاها صوتها الحانق و هي تقول عبر هاتفها الذي تهشّمت شاشتهِ.. و لكنه ما زال قيد العمل:
- ما انتي اللي متخلفة!، دي آخرة تسرعك!
فعاتبتها لتأنيبها الجاف:
- هو أنا مكلماكي تعاتبني!،أنا بسألك أعمل إيه، شوفيلي حل أعمله، أنا مش عايزاه يا يارا، مش عايزاه!
تنهدت "يارا" بحرارة و هي تطبق جفنيها و قد شعرت بالسخط تجاه ذلك الشعور:
-رهيـف، متوافقيش يا رهيف، اعملي أي حاجة لكن إوعى، إوعى تتجوزي واحد مش بتحبيه يا رهيف
 و تقبض كفها على غطاء فراشها و هي تحنى أهدابها لتقول بلهجة بائسة:
- نصيحة مني بلاش.. اليوم اللي هتمضي فيه وثيقة جوازك، اعرفي إنك بتقطعي تذكرة جهنم!
ازدردت "رهيف" ريقها و هي تمسح أنفها بمحرمة ورقية أثناء قولها المرتاب من بين نشيجها:
- انتي.. كـ..ـويسة؟، بقالي كام يوم حساكي متغيرة!
كانت تسير في الحديقة على الرغم من آلام جسدها و تلك الكدمات المتفرقة فيه، و التواءة قدمها، و لكنها لم تطق الجلوس بغرفتها فتشعر و كأنها مُقيّدة، تلمست أوراق زهورها التي بدأت تُينع في غيابها، ثم تقوست شفتيها لتهمس بإحباط:
- عادي، المفروض أكون إزاي يعني؟
فتيقنت "رهيف" من إحساسها:
- كنت حاسة إن فيكي حاجة!، مالك يا يارا؟
أجابتها "يارا" بضيق:
- ماليش يا رهيف، أنا كويسة
كادت "رهيف" تتحدث، و لكنها استمعت إلى باب غرفتها ينفتح على مصراعيه، فانخفضت نبرة صوتها و هي تقول:
- هكلمك تاني يا يارا، سلام
و أنهت المكالمة، دست "يارا" هاتفها في جيب بِنطالها القماشيّ الأبيض اللون، ثم راحت تسحب نفسًا عميقًا زفرته على مهل، و هي تتلتفت حولها، تعلقت أنظارها بسرب الحمامات التي تسير في نظامٍ بديع في وسط زرقة السماء الصافية أثار عينيها الزرقاوين فظلتا مسلطتين عليهم، حتى و فجأة.. اختل توازن إحدى الحمامات فبيد أنها مصابة، حتى سقطت تاركة سربها رغمًا عنها، تحركت "يارا" على الفور على التقطتها بين كفيها، بالرغم من خوفها في البداية من حركتها تلك، و لكنها أحكمت إطباقها برفق على جسدها الناعم، و ملمس ريشها الأبيض يُداعب بشرتها الرقيقة، انحنت لتجثو فوق الحشائش على الأرضية و تركتها أمامها بحرصٍ و هي تداعب رأسها بينما تستمع لهديلها الناعم، ابتسمت رغمًا عنها مزيحة بعضًا من وجومها، لم تنتبه الذى ذلك الذي يُتابع كل حركةٍ أو ردّ فعل يصدر عنها، و هي تعبثُ ببراءة لتناقضُ جفائها الذي اتخذتهُ منهجًا لها معهِ إن أجبرتهما الظروف على الالتقاء خلال الأيام الماضية، فقد كانت تتجنّبه و تتجنب التواجد في مكانٍ هو بهِ، أحكمت القيد حول قلبها اللعين الذي تسكنهُ رصاصاتِ كلماته السامّة، و أصمتت فاههِ الذي يعطى إشاراتٍ لعينيها دونًا عن عقلها للبحث عنهُ ما بين الفنية و الأخرى.
و لم تدرك قطّ أنه كان مرافقًا لها دومًا متابعًا لخُطاها التي لا تتعدى أسوار أسرهِ، اقتنصتها نظراتهِ و هو يقف خلف الحائل الزجاجيّ بمكتبهِ، فيتمكن هو من رؤيتها في ذلك التوقيت الذي يتبع أواخر النهار الذي يكاد يهُم بالرحيل، و لا تتمكن هي من رؤيتهِ، شابكًا كفيه خلف ظهره، عاقدًا حاجبيهِ و قد احتلّ التجهم –كعادتهِ- وجهه.
للمرة الأولى في حياتهِ يواجه ذلك التشتت.. التمزّق.. التيهِ التام.. و يعرف معنى الحيرة و يدرك كنهها، لا يُمكنه الخلاص منها، و كأنها مرضٌ خبيث ينهشُ من خلاياه بنهمٍ، مرض استوطن جسدهُ و احتلّ أنسجتهِ تمامًا، فأضحى مستحيلًا انتزاعها، مرضٌ لا دواء له؛ يتفشّى و ينتشر، و هو لا يقوى حتى على زجرهِ.
فتاة.. سُكبت الفصول الأربع بين حنايا روحها، گالربيع في بهجتها، گالخريف في ذبولها، گالشتاء القارس في جفائها، گالصيف بنسيمهِ المتوهّج في اشتعالها، فتاة لم يرَ لها مثيلًا، نادرة گماستيّ عينيها الزرقاوين، حجرٌ عتيق كريم يبرقُ أسفل ضوء الشمس الوهّاج فيخطف الأنظار ببريقهِ، و ليتهُ انجذب لذلك البريق.. و لكنهُ انجذب لنداء روحها دونًا عنه، و خطى نحوها كمن يخطو متلهّفًا لأن يُسقى بعد تعطّشٍ، و لكنهُ "يامن"؛ يبغضُ إلا العذاب على نفسهِ، و كأنه كتب على نفسهِ أن يحيا أبد الدهر عطِشًا.. ظمآن.. و حرّم على نفسهِ حتى حقّ ارتشاف قطرة واحدة.
فتوقف- رغمًا عنه- في منتصف الطريق، لا يدرى أيّهما يسلُك.. أيعود منهُ، أم يتابع فيهِ سيرهُ؟ أم أنهُ سيظل هكذا؛ عالقًا في المنتصف، لا هُو ببالغها، و لا هو يملك حقّ دحرها عن حياتهِ.
 عاد العبوس يفترشُ صفحة وجهها من جديد حين رأت ذلك الجرح في إحدى جناحيها و الدماء تسيل منه، غامت عيناها و قد ذكرها ذلك برسوماتها الخاصة بهِ، مع اختلاف الطير، تركت زفيرًا حارًا حتى تنبهت إلى صوتهِ القريب:
- بتعملي إيه على الأرض كده؟
ارتفعت أنظارها نحوه لتقول بلهجة قانطة:
- الحمامة دي وقعت يا عم منصور،.. أعملها إيه؟
انحنى "منصور" ليحملها بين كفيه و استقام مجددًا، فنهضت "يارا" عن جلستها و هي تحذره:
- بالراحة عليها يا عم منصور
فطمأنها بقولهِ الودود:
- متخافيش يا بنتي، أنا هوديها للدكتور البيطري المسؤول عن الخيل، هو ساكن قريب من هنا عشان لو احتاجنا له في أي وقت
فسارت من خلفه تتبعه و هي تقول عاقدة حاجبيها:
-خد بالك يا عم منصور
أومأ برأسه و هو يقول ببشاشة:
- حاضر يا بنتي، ادخلي انتي استريحي جوا
هزت رأسها بتعند لتقول:
- لأ.. أنا كويسة هنا
أحنى أنظاره عنها بينما يتلمس ريش الحمامة الأبيض:
- زي ما تحبي يا بنتي، مش عايز أضغط عليكي
فدمدمت بفتورٍ شبه لا معنى لهُ:
- شُكرًا!
و قفت تتابع انصرافهِ، بوجهٍ خيّم عليه الحُزن، و ظللتهُ غيوم الشجن، طردت زفيرًا حارًا من صدرها، و هي تُطبق جفونها، استسلمت "يارا" لذلك الهبوب الذي حمل معهُ عبق الزهور من حولها، و راح يعبثُ في خصلاتها مبعثرًا لها حول وجنتيها، ثمّة صقيع ضرب أوصالها، و جعل قشعريرة تسرى في جسدها إثر تلك النسمة الباردة التي هبّت، فانكمش جسدها قليلًا.
 أحاطت "يارا" بكفيها ذراعيها و هي تكتّفهما أمام صدرها، و بكلتيهما شرعت تمسد على عضديها محاولة بثّ الدفء في نفسها، حتى تصلّب جسدها، و من فرط شدوهها لم تدرك حتى ما حدث سوى بعد أن فتحت عينيها و التفتت كالملسوعة لتجدهُ يقف جوارها تمامًا، يحدق أمامهُ دون أن يعيرها نظرة واحدة، و قد عقد ساعديهِ أمام صدره، انعقد حاجبيها، و عبس وجهها عبوسًا شديدًا اجتلاها، و قد فطنت لما فعل على غفلة منها حيثُ ترك أعلى كتفيها شالها الصوفيّ المعبّأ برائحتها و قد بدا أنه أحضره من غرفتها.
ضمّت "يارا" بأطراف أصابعها حافتيّ الشال لصدرها بحركة متشنجة و هي تهمهم بكلماتٍ نمّت عن سخطها، ثم تعمّدت أن يخرج صوتها مسموعًا و هي تردد بامتعاضٍ:
- بتعمل إيه هنا؟
و كأن ردّه كان مُعدّا مسبقًا حيثُ ردد دون أن يفكر أو يلتفت:
- مزرعتي.. أنا حر فيها!
تقوست شفتيها هازئةً و هي تردد بسخرية تامّة:
- حُر!.. تعرف إني نسيت حتى معنى الحرية
نظر نحوها من طرفهِ نظرة عابرة دون أن يلتفت، ثم عاد يحدق في الأفق و هو يقول بجمودٍ:
- عظيم!
فـ انفعلت تمامًا، و فقدت آخر ذرات اتزانها بعد كلمتهِ الغامضة تلك، و التي لم تحلّ شفرتها حتى الآن، التفتت إليهِ بجسدها قليلًا و هي تضيق عينيها، ثم قالت مُحتجّة بتشنجٍ رافق نبرتها:
- عظيم إيه!.. هو إيه ده اللي عظيم بالظبط، أنا مش شايفة أي حاجة عظيمة
انعطفت –تمامًا- نظراتهِ نحوها، دون أن يلتفت برأسهِ، فالتقت عينيهِ مع زُرقة عينيها المتبيّنة لهُ من أسفل أهدابٍ عانقتها، نظرة مطوّلة عميقة تبادلها معها، ثُم في النهاية حلّ ساعديه و هو يشيح بوجههِ عنها، ليحك بظهر إبهامهِ ذقنه قائلًا بصلابة:
- الجو برّد.. ادخلي
فضربت إجابتها في وجههِ بانفعالٍ:
- البرد هو وجودك، أي برد في حياتي فهو بسببك، حياتي مبقاش فيها أساسًا معنى للدفا
فتشددت نبرتهِ و هو يتطلع إليها بعينين احتدتا عقب قولها:
- ادخلي
فرفضت ذلك رفضًا قاطعًا، بتعنّدٍ تام تعمّدته:
- لأ
فقال "يامن" متمسّكًا بآخر ذرات ثباتهِ الانفعاليّ، من بين أسنانهِ الاتي أطبقهنّ:
- ادخلي
- لأ
فجأر حينئذ -و هو يستدير بجسده بالكامل ليكون في مواجهتها- بنفاذ صبر و قد شرع وجههُ يصبغ بالحمرة المنفعلة:
- قولت ادخـلي!
- ليـــه؟
صرخةً خرجت منها و كأنها كانت مكبوتة في منتصف صدرها و تخلّصت منها حينما أتتها تلك الفرصة، نهج صدرها علوّا و هبوطًا و هي تتابع:
- ليـه؟.. خايف أبرد؟ و لا هو تعنّت و فرض سيطرة و أوامر و خلاص!
دنا "يامن" منها خطوة مُقلّصًا المسافة بينهما، و أشار للخلف بسبابتهِ و هو يردد من بين ضغط أسنانهِ:
- قولت ادخلي
لم تقوَ -رغمًا عن أنفها- على النظر داخل مقلتيهِ المتوهجتين في تلك اللحظة، فأحنت بصرها قليلًا، ليكن صدرهِ مستوى بصرها، بينما تنطق بسخطٍ من بين تهدج أنفاسها:
- و أنا قولت لأ.. لأ، مش عايزة!
فامتدّ كفهُ إلى مرفقها، ليُطبق بأناملهِ عليه و هو يقول بلهجة لا تخلو من القسوة:
- رأيك ميفرقش معايا، مش بمزاجك، يا.. بنت حسين!
و ازدجاها من خلفهِ، فبدت و كأنها تُساق لجهنمٍ، كُل خطوة يخطوها "يامن" تعود بها بالزمن، للقاء الأول، للأحداث الأولى، كل خطوة يخطوها، و كل تعثّر تتعثر بهِ من خلفهِ أشعرها أنهما يعودان للماضي.. لا يخطوان للمستقبل المجهول، حتى صرخت بهِ، غير قادرة على تحمّل ذلك الضغط عقب أن اصطدمت قدمها بحصى و كادت تنكفأ على وجهها، دون حتى أن ينتبه إلى ذلك:
- انت حتى مش بتكلف نفسك تبطأ خطواتك عشاني!
تسمرت قدماهُ في الأرضيّة، فاصطدم جسدها بظهرهِ إثر توقفهِ المفاجئ، عادت "يارا" خطوة للخلف و قد تشربت وجنتيها بحمرة غاضبة، استعدادًا لمواجهة أخرى معهُ، حتى التفت "يامن" إليها دون أن يفلت مرفقها، فتابعت تُعنّفه:
- مش بتكلف نفسك حتى تبصلي على إني انسانة!.. مش بتبص لي غير على إني خدامة عندك تؤمر و أنا أجاوبك!
و صمتت هنيهة تلتقط أنفاسها المتلاحقة، ثم أردفت مشيرة للخلف، تعني مقصدًا سطحيّا:
- خدت بالك كام مرة كنت هتوقعني بسبب خطواتك اللي سابقاني!.. طبعًا لأ
دنا "يامن" منها خطوة، حتى باتت المسافة بينهما لا تقدر، بحيث كادت أنفهِ تلامس أنفها، فلفحت أنفاسهِ الدافئة المعبّأة بالنيكوتين وجهها فبدت لها كنفحاتٍ من حميم، أجفلت "يارا" بصرها تمامًا، و قد تقلص وجهها و هي تحاول الإشاحة بهِ بعيدًا، و لكنهُ اقتطع ذلك الطريق عليها و هو يردد بصوتٍ قاتم:
- خطواتي.. مبتناسبش خطواتك يا.. بنت حسين!
ارتفعت عينييها إليهِ و قد توسعتا قليلًا، نقلت بصرها بين عينيهِ المتوقدتين، فردد و هو يومئ بحركة مستفهمة لا تكاد تلحظ:
- خطواتنا عمرها ما هتتناسب يا بنت حسين، فهماني؟
أطبقت على أسنانها غيظًا و هي تتهرب بعينيها المكلومتين بعيدًا عنهُ، محاولة التظاهر بالثبات التام و الاحتفاظ أمامهِ ببقايا كبريائها، فقالت بجفاءٍ حالما فرقت أسنانها:
- مفيش حاجة اسمها خطواتنا يا يامن بيه، مينفعش حرف نون يجمعنا
فشدد من قبضتهِ على مرفقها، كنوعٍ من إثارتها لتعيد النظر إليهِ و هو يقول باستهجانٍ ممتعض، كأن لم يُصغي إليها:
- فاهماني؟
رمشت مرة واحدة، محاولة التخلّص من بوادر الدموع التي نسجتها عيونها، و هي تعيد النظر إليهِ بإطالة غامضة، برق وميض الدموع اللامع في مقلتيها من بين أهدابها، أطبقت "يارا" أناملها بباطن كفها، حتى تركت أظافرها أثرًا بازغًا فيهِ و هي تحاول التماسك لئلا تنهارُ أمام عينيهِ، لا تعلم ما ذاك الكمّ الذي أفرزهُ القلب من الألم الذي اعتراها دفعة واحدة، تكبدت العناء حتى لا تنفر الدموع عن مستوطنها الأصليّ في بحور عيونها، و لكن باءت محاولاتها بالفشل، و ضاعت هباءً، رمشة أخرى.. فـ حالما فرّقت جفونها انحدرت تلك العبرة الملتهبة على سهل وجنتها، ثم قالت بارتجافٍ أحاط نبرتها بضراوة على الرغم من محاولاتها الجمّة لتمسّك بثباتها:
- فاهماك
و أحنت أهدابها عنهُ و هي تسحب مرفقها من قبضتهِ، مغمغمة بصوتٍ خفت قليلًا:
- سيب إيدي
و ابتعدت.. خطوة، خطوتين عن محيطهِ، رمقتهُ بنظرة من طرفها، حملت من التأنيب ما لم تتعمّده، تأنيبًا شبّهتهُ بالضعف أمامهِ، كونها تؤنّب بمجرد نظرة، شخصيّة حجرية مثلهِ، لا تفقه بأمور اللين و الرفق، و لا تفقهُ حتى الحُـب.
ثم شرعت تحثّ خطاها للداخل، و هي تنزحُ عبرتها اللعينة تلك، التي جعلتها تبدو بذلك الهوان أمامهِ، لم يتابعها بناظريهِ، على الرغم من رغبتهِ الملحّة في أن يفعل، و ظلّ محدقًا أمامهِ، في جذوع تلك الأشجار المحفوفة من حولهِ، و كأنهُ لا يرى إلا الضباب، زفر نفسًا ملتهبًا من صدرهِ، و من فورهِ، أخرج قداحته و علبة سجائرهِ، أشعل "يامن" سيجارتهِ التي لا يعلم كم عددها اليوم بعدما أنهى ما يقارب العلبتين، منتويًا أن يحرق رئتيهِ بتلك المادة السامّة، قبل أن يُقدم على أمرًا لن يمكنهُ تأجيلهِ، أمرًا عليهِ إطلاعها عليه اليوم، و بطريقتهِ.
.................................................
- ألم تكن طيّارتك أمس؟.. كيف لم...
قاطعهُ "فارس" و هو يستند بكتفهِ لحافة شرفته بينما يمسك بقدح يحوى مشروب لشاي الساخن الذي تتطاير منه الأبخرة:
- فاتتني،.. مقدرتش أمشي
تغضن جبين "مايكل" و هو يقول متعجبًا:
- إيـه!.. إزاي فجأة..
عبث "فارس" بإبهامهِ بقدحه و هو يقول بلهجة غامضة بينما عينيهِ تشملان المنظر الطبيعيّ أمامه من ذلك الارتفاع:
- في شخص محتاج وجودي، و شخص تاني أنا مدين لهُ بوجود!
تخصّر "مايكل" و هو يقول مطالبًا بتفسير:
- صِدقًا.. مش فاهم هاجة "حاجة"
لم يُكلّف "فارس" نفسه عناء التفسير، ارتشف رشفة من قدحهِ ثم قال:
- مش مهم.. بعدين هفهمك كل حاجة
فتسائل الأخير بحيرة و هو يعقد حاجبيه:
- متى؟
ابتسم "فارس" ساخرًا و هو يقول:
- بعديـن!
....................................................................
هاجت و ماجت، و تكاد تقيم الدنيا و لا تقعدها و هي تراهُ يقف أمامها بصلابتهِ المعهودة، و جمودهِ الذي سئمتهُ، كان وجهها مشربًا بحمرة الغضب الفاقعة التي أكسبت بشرتها الحليبيّة لونًا آخر، و عينيها الملتهبتين التي تشعان سخطًا بينما تهدر باهتياج واضح:
- ده بدل ما تطلقني! انت.. انت أكيد مش طبيعي!، انت في وعيك بجد؟
كان باردًا للغاية و هو يترك ثوب العرس الأبيض المغلف أعلى فراشها بينما يقول:
- واعي جدًا!
دنت منه لتقول باستهجان:
- عايز تعمل فرح ليه و انت أصلًا هترميني؟.. مش أنا وسيلة لانتقامك، عايز تعمل فرح ليـه بقى؟
و بدت السخرية في نبرتها و هي تتخصر بإحدى كفيها لتقول بلهجة ذات مغزى:
- فهمتك..قولت تستفيد مني قبل ما ترميني!، مش كده؟
تحرك "يامن" ليغادر ببرود كما أتى و لكنها وقفت لتسد الطريق عليه و هي تقول محررة خصرها بسخط تام:
 - لو كان ده اللي في دماغك يبقى تنسى، فاهم، نجوم السما أقربلك مني!
وقف محله و هو يدسّ كفيه بجيبيه، ظلت نظراته الغامضة معلقة بها لدقائق عمّ فيها الصمت فلم يصدر عنها سوى صوت تنفسها و صدرها يعلو و يهبط من فرط إنفعالها، حتى انتفض جسدها و كأن صاعقة مسّته حين أخرج إحدى كفيه ليتلمس وجنتها بلمسات خبيرة بينما يقول بلهجة مهددة:
- قولتلك قبل كده، اللي عايزه باخده في وقته!
 و دنا منها أكثر مقلصًا المسافة بينهما حتى صارت أنفاسه الحارة تلفح وجنتيها أثناء قوله:
- شرعًا انتي مراتي! يعني محدش يقدر يمنعني عنك، و مش محتاج أعمل فرح عشان آخد اللي عايزه!
و تركها متيبسة محلها و ابتعد..خطى نحو الباب بينما كلماتها المهتاجة تقع على مسامعهِ و هي تلتفت نحوه:
- قولتهالك قبل كده يا يامن،.. متبقاش حيوان معايا!، قولتلك كون أي حاجة و كنت، كنت ظالم و قاسي و متزمت و متسلط و بتتحكم فيا و لا كأني لعبة في ايديك، لكن متكونش حيوان معايا، متكـــونش!
صفق الباب صفقة عنيفة تعارض برودهِ الظاهريّ، فحادت بأنظارها بعيدًا و قد تسلطت على الثوب الذي لم تطلع عليهِ بعد، شعرت بدمائها تغلي غليّا داخل أوردتها، و گأنها جذوات متقدة لا مجرد سائل أحمر يضخّهُ القلب فيسري بعروقها، راحت تهدر باستهجان تام و هي تخطو نحو منضدة الزينة:
- ده بدل ما أخلص منك بتربطني بيك أكتر! بدل ما تطلقني جاي تقولي بكل برود البسي ده بكرة عشان الفرح!
أخذت تفتح الأدراج بحركات متشنجة و هي تبحث گالمجنونة فيهم و ريثما تنتهي من إحداهم تصفقه بعنف و تشرع بآخر، حتى وجدت ضالتها، رفعت المقص عاليًا أمام عينيها و قد انعكس ضوء الشمس القادم من النافذة عليه فانعكس بريقه في مقلتيها، كزّت على أسنانها و هي تخطو نحو الثوب بخطوات منفعلة، و أخذت تزيح عنه ذلك تغليفه، ثم شرعت تغرس المقص و هي تفتح و تغلق بهِ بحركات متشنجة لتقتص قماش الثوب الفخم.. الذي كان من المفترض أن ترتديه غدًا، بينما تقول بلهجة مستهجنة:
- مش هلبس الأبيض لشيطان زيّك، مستحيــل!
............................................................
لم تكن تُصدق أنها استطاعت إقناع جدتها بعد محاولات عِدة لتسمح لها بالذهب لصديقتها في حفل عرسها، و بالرغم من كونها اشترطت أن يتواجد "راشد" معها، إلا أنها تنفست الصعداء و هي تخرج القليل من ملابسها لتضبها بحقيبة صغيرة و عاونتها والدتها حتى انتهت، فأغلقت "رهيف" السحاب و التفتت لتجد والدتها تربت على كتفها أثناء قولها الدافئ:
- خدي بالك من نفسك يا حبيبتي
 و أحنت نظراتها بضيق لتهتف:
- أنا مش عارفة كان لازمته إيه بس! مكنش لازم تتعبي نفسك يا رهيف
تركت "رهيف" الحقيبة جانبًا ثم وقفت لتقول بلهجة جادة:
- متخافيش يا ماما، و بعدين تغيير جو شوية بدل الحبسة في البيت، أنا زهقت حقيقي
تركت " سعاد" زفيرًا حارًا من صدرها و هي ترمقها بنظراتها، ثم غمغمت:
- اللي يريحك
..................................................................
تهاوى جسدها على أقرب مقعد و هي تحدق في الدعوة أمامها بذهُـول، حملقت عيناها غير مصدقة ما تراه، حتى خرجت ابنتها و هي تناديها بضجر متأفف:
- بقالي سنتين بنادي عليكي يا ماما، انتي فيـن؟
رمشت "حبيبة" عدة مرات بأعينها و هي ترفع بصرها إليها، فتغضن جبين "ولاء" و هي تخطو نحوها متأملة وجهها لتهتف مستوضحة:
- في إيـه؟، مالك مبلمة كده ليه؟
و راحت أنظارها تتجه للدعوة المزينة التي تحتل كفيّ والدتها، فحملقت بها، ثم سحبتها بحركة منفعلة من بين أصابعها و قد التقطت عيناها اسمه، صُعقت.. و كأنه سكب دلوًا من الماء البارد فوق رأسها، فُغرت شفتيها من فرط صدمتها و قد بدت واضحة على ملامحها، و بلحظة تبدلت ملامحها من الصدمة للحنق، بدأت الدماء تتجمع في وجهها فأكسبتهُ لونًا محمرًا، كزّت على أسنانها.. ثم زمجرت غاضبة و هي تترك الدعوة بعنف على سطح الطاولة، و تحركت للخارج دون حتى أن تكترث لتديل ملابسها التي تصلح نوعًا ما للولوج خارج المنزل، نهضت "حبيبة" لتتبعها متسائلة:
- بت يا ولاء، رايحة فين
- ملكيش دعـوة، ملكيش دعوة بيا، محدش يكلمني، محدش له دعوة بيا!
 فتحت خزانة الأحذية أمام باب المنزل و انحنت أمامها لتخرج حذائها الرياضي، و ارتدتهُ من فورها و هي تستأنف قولها المهتاج، ساحبة معطفها الثقيل عن الشماعة خلف الباب:
- محـدش له دعوة بيا، سيبوني في حالي، سيبــوني!
و فور أنا فتحت الباب و هي ترتدي المعطف فوق بنطالها و كنزتها وجدت أحد الجارات في وجهها التي أتت لتبارك لأختها، و لكنها لم تكترث.. و مرت من جوارها، فتغضن جبين الجارة و هي تتابع هبوطها على السلم، و ما إن كادت "حبيبة" تتبعها و هي تنادي عليها حتى أوقفتها الجارة و هي تقول مشدوهة:
- مال بنتك يا حبيبة؟ واخدة في وشها و راحة على فين كده؟
ازدردت "حبيبة" ريقها و هي تتابع طيف ابنتها الذي تلاشى، ثم انتقلت أنظارها للجارة و هي تبتسم بسخافة لتتمتم:
- معلش.. أصلها تعبانة شوية، فتلاقيها مش على طبيعتها
فرددت الجارة و هي تلوى ثغرها ببسمة متسعة:
- ربنا يشفيها يا حبيبتي، أنا قولت آجي أباركلك، و أعتذر لك في نفس الوقت
ربتت "حبيبة" على كتفها و هي تفسح لها الطريق للدخول متفهمة ما تقصد، فدلفت الجارة و هي تقول:
- و الله يا حبيبة دي ساعة شيطان.. متآخذنيش يا حبيبتي، أهو جوز بنتك عمل فرح ليها عشان يخرس كل لسان، ربنا يباركله.. باعت لكل الجارات رسالة يبلغنا فيها إنه هيعت عربية مخصوص تاخدنا
أوصدت "حبيبة" الباب و هي تخطو نحوها، في حين راحت الجارة تجلس بأريحية و هي تقول بلهجة ودودة:
- ربنا عوض بنتك براجل حنين يراضيها.. مهانش عليه الناس تفضل جايبة في سير..
 و صمتت و قد شعرت بأن لسانها انفلت بكلماتهِ أكثر من اللازم، فابتسمت بسخافة و هي تتنحنح:
- احم.. ربنا يخليهم لبعض يا حبيبتي و يهنيها يارا بنت حبيبة يا رب!
و ما هي إلا دقائق.. و اجتمعت الجارات في المنزل حتى صار و كأنه لا يتسع للجميع، و "حبيبة" گالمبهُوتـة بينهم، لا تدرك حتى ما يتوجب عليها فعله تجاه ضيوفِها.
..............................................................
أوصدت الباب عقب أن استلمت تلك الدعوة، ظلّت محملقة بها بعينيها الشاخصة لثوانٍ، حتى فجأة احتلّ الوجوم صفحة وجهها، زمّت على شفتيها بغيظ و قد شعرت بالدماء تندفع في أوردتها حتى تكاد لا تتسع لها، الدعوة التي بعثها إليها لم تكن دعوة للحضور، بل كانت دعوة لإثارة غيظها و تحسُّرها في ذات الآن، تركت جسدها يتراخى على الأريكة و هي تلقى بالدعوة جانبًا بلا اكتراث بينما تهمس كمدًا:
- آآه يا بنت الـ******، بقى انتي تفرحي و تتهني و أنا ابني معرفلوش طريق جرة
 و رفعت أنظارها للسماء و هي تهمس بانفعال:
- منك لله يا يارا يا بنت حبيبة، اللهي يا رب ما تتهني و لا تشوفي طيب في حياتك بحق اللي حصل لابني بسببك!
حينها.. فرّت دمعة حارقة من بين جفنيها لتهطل على وجنتيها، بينما تتذكر تهديدهُ في نهاية اللقاء، و الذي ينص على أن إبنها.. حياتهِ في قبضته، و بنقرة زر يمكنه إنهائها إن لم تكفّ عما تفعل.
راحت تهمس و هي تهز رأسها استنكارًا عقب أن ألقت نظرة حامية على باب غرفة زوجها الذي رفض رفضًا قاطعًا على الرغم من توسلاتها الجمّة ليتركها تحرر محضرًا تتهمهُ فيه بخطفهِ لابنها:
- حسبي الله و نعم الوكيل!
..........................................................
و عقب محاولات جمّة منها و استعلامها عن محل إقامتها الحالي من رفيقاتها، تمكنت من الوصول إليها، سحبت "ولاء" شهيقًا عميقًا قبل أن تقرع الباب عدة طرقات منفعلة، حتى و أخيرًا فتحت لها "وداد"، و لمّا كادت تُظهر تأففها لوجودها تفاجأت بها ترتمي في أحضانها و هي تبكي بكاءً مريرًا:
- عملها فرح يا وداد، عملها فرح و جوازهم هيقلب جد، أنا هموت يا وداد.. همــوت!
....................................................................................
........................................
..................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Onde histórias criam vida. Descubra agora