"الفصل الثاني و السبعون"

651 11 0
                                    

"الفصل الثاني و السبعُون"
نجحت في نهاية المطاف بالتخلص من أياديهم القاسية التي تركت آثارًا بسائر جسدها المتورم و الذي اكتظ بالكدمات و لجأت لغرفتها لتحتمي بها صافقة الباب من خلفها و سارعت بإغلاقهِ بالمفتاح.. استندت بظهرها عليه و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا من فرط الهلع من أن تكون نهايتها بين يديه مجددًا، أطبقت جفونها لتنسال الدموع الحارقة من بينهما و قد شعرت بقلبها ككتلة من الجمرات المتوقدة لا يستسلم للمياه الباردة، استمعت إلى توعداتهم الشرسة من الخارج و وصلتها تلك الذبذبات إثر الطرقات العنيفة على بابها:
- هتتجوزيه يعني هتتجوزيه يا *****، بعد عملتك الـ***** كمان مش عايزة تتجوزيه؟.. لسه ليكي عين يا*****
فصؤخت صرخة مدوّية خرجت من أعماق قلبها المتاع:
- مش هتجـــوزه.. مش هتجوزه لو كان آخر يوم في عمري، لو عملتوا إيه فيا مش هتجـوزه
 ارتخى جسدها أرضًا و هي تنكمش على نفسها ضامة ركبتيها إلى صدرها و قد استشعرت ذلك الألم الطاحن الذي أصاب بطنها عقب ضرباتهم و ركلاتهم الموجعة، تأوهت بصوتٍ خفيض و هي تتشبث بها و هي تتوسلهُ:
- متسيبنيش، عشان خاطري سامحني و متسيبنيش.. متسيبنيش لوحدي يا ابني، انت اللي هترجعلي حقي، انت اللي هتبقى سندي في الدنيا، سامحني.. و الله أنا مقدرتش أفرط فيك، متسيبنيش يا ابني، متسيبنيــش..آآه
قبضت جفونها و هي تتنفس بمعدل سريع مستشعرة آلامها تتزايد، لم تعلم إلى من تلجأ و هي ليس لها ملجأً.. لم تعلم بـ من تستنجد و هي وحيدة تذروها الرياح العاتية أينما تشاء في بقاع الأرض الواسعة، ضربت بمؤخرة رأسها عدة مرات للباب من خلفها و هي تطبق أسنانها محاولة تحمل آلام بطنها التي لا تحتمل، فتحت عينيها و قد قدت العزم أن تلجأ إليه..
 نهضت عن محلها ، و سارت بخطى بطيئة نحو الكومود الخشبي المتهالك و الملئ بالقشور، و سحبت عنهُ مصحفها، جلست أرضًا خلف الباب مجددًا و كأنها تخشى أن يقتحمون الغرفة في أي لحظة و أصوات سبهم و لعنهم لها تخترق أذنيها فتكاد تصمها، تحاملت على آلامها..
و راحت تقرأ سورة "مريـم" بصوتها الخافت الذي امتزج مع النشيج، لا تعلم لمَ تلك السورة تحديدًا التي انتقتها دون غيرها من السور المباركة، و لكن لربما شعرت أن فيها ما يُشبهها، إنها مازالت تؤمن أنها عذراء الروح.. و إن كانت مغتصبة الجسد فروحها لا تزال محتفظة بنقائها، و إن كانت برائتها قد اُغتيلت رغمًا عنها فهي لا تزال بريئة الروح.. تعالت شهقاتها و هي تتشبث ببطنها و قد ابتلعت باقي الكلمات في جوفها غير قادرة على قراءة المزيد و قد شعرت بسكاكين حادة تضرب رحمها، تشبثت ببطنها و هي تقبض جفونها و هي تصرخ صرخة مُمزقة لنياط القلوب:
- يـــا رب!
تلاحقت أنفاسها و هي تخفض نظراتها لتصعق مما رأت.. ثيابها تلطخت بلون الدماء الأحمر و ذلك السائل الدافئ ينسال من جسدها، شهقت من فرط الصدمة ثم راحت تتسول جنينها:
- لأ.. لأ متسيبنيش، متسيبنيش يا ابني.. آآه
لا تملك غيرهُ.. ستعانى الذل من أجل طفلها، ستتوسلهُ من أجل طفلها، ستفعل ما يريد من أجلهِ فقط، لم تقوَ على الوقوف.. فتركت المصحف جانبًا و بصعوبة أعلى منضدة الزينة عقب أن بسطت كفها بهِ، ثم راحت تزحف بجسدها على الأرضية مصارعة آلامها لتصل للهاتف الأرضيّ التي تحمد الله أنهُ يتواجد في غرفتها، و بسطت كفها لتسحبهُ.. ثم راحت تقر على الأزرار و هي تضغط على شفتها السفلى محاولة تحمل آلامها، رفعت السماعة إلى أذنها و قد شعرت بآخر ذرة من كبريائها تسحق.. و لكن ليس بيدها حيلة، إلى من سـ تلجأ؟.. إلى أهلها.. إلى من تسببوا بما حدث لها؟ إلى من؟.
شهقت من بين انتحابها و هي تترقب صوتهُ البغيض أن يصلها، و ما إن وصل كانت تصرخ بـ:
- الحق ابنك.. ابـنك بيموت... آآآه!
و انقطع صوتها و قد استسلمت لذلك التشوش الذي عمّ رؤيتها، و تلك الظلمة التي ابتلعت جسدها بداخلها.
.............................................................
أطبق بكفهِ على تلابيبه و هو يحصرهُ بالزاوية أثناء جأرهِ المرتفع:
- و رحمة الغاليين لو حصل لابني حاجة لاكون مخلص عليكم واحد واحد.. سامعيني؟ مش هرحم حد فيكم!
إن كان غيرهُ لما صمتوا عن حقهم.. و لكن إن اعترض أحدهم، إن فغر فاهُ بمحالة التطاول عليه بالألفاظ فقط، إن تحدث لسانهم بما لا يعجب شخصًا من تلك العائلة فيعلمون جيدًا أن مصيرهم لن يكون خيرًا بالمرة، و لذلك أطبق "محمد" أسنانه و هو يلتزم الصمت أمامهِ يردع انفعالاتهِ و أفكاره الدموية عنهُ بشقّ الأنفُس، حينما كان "يوسف" يحرر إحدى كفيه عن عنقه ليقض على فكّهِ مرددًا من بين أسنانه المطبقة:
- هو دا اللي اتفقنا عليه؟.. هو دا اللي وصيتك بيه؟
فلم يلتزم الصمت إينذاك.. و راح يردد محاولًا الدفاع عن نفسه و قد انفعل:
- عايزني أسيب الـ**** دي و هي لطخت سمعتنا و جابت لنا العار
فـ أطبق أكثر على فكهِ و هو يردد بجموح:
- لأ.. معملتش حاجة، أنا اللي عملت.. أنا اللي غصبتها، عظيـم؟ تقدر تنطق و لا تفتح بؤك بكلمة؟
حملقت عينا "محمد" و قد تيبست تعبيراتهِ من فرط صدمته، و لكنهُ سريعًا ما نزح ذلك الشعور عنه، و راح يقول متشدقًا:
- متحاولش يا يوسف بيه.. متحاولش تحميها بكلامك، أنا عارف إنها بت **** و إلا مكنتش فكرت حتى تبصلها!
فلم يمنع نفسه من سبهِ و:
- تصدق إن انت اللي ****** و ***** كمان
و صمت هنيهة يلتقط أنفاسه المنفعلة ثم جأر و هو يشدد من قبضته على فكّهِ:
- اسمع يالا.. اليوم اللي سهير هتبقى فيه مراتي لا هتبقى أختك و لا تعرفها، عظيـم؟ لا هي أختك.. و لا انت تعرفها، و لا هتعرف حد من العيلة الـ**** دي تاني، حتى لو قابلتها صدفة في الشارع متتجرأش حتى ترفع عينك في عينها، لأن و ديني.. هاكون مخلص عليكم واحد واحد
اضطر أن يبتعد عنهُ حالما خرجت الطبيبة النسائيّة من الغرفة، و أوفض نحوها و هو يسألها:
- ابني حصل له إيه؟
نزعت القناع الطبيّ عن وجهها و هي تتنفس الصعداء، ثم رددت مطمأنة إياه:
- متقلقش يا يوسف بيه، الحمد لله قدرنا ننقذهُ
.........................................................
جلس أمامها منكسًا رأسهِ غير قادرًا على رفع بصره صوبها، حينما كانت هي تحدق بنقطة في الفراغ متحاشية النظر إليه، حتى نطق أخيرًا عقب أن لفظ أنفاسهِ الملتاعة:
- أرجوكي يا سهير.. أرجوكي، هعمل أي حاجة عشان تسامحيني، هعمل أي حاجة تطلبيها مني يا سهير، لكن سامحيني
ارتفع جانب ثغرها بابتسامة ساخرة حملت من المرارة ما فاض من نبرتها و هي تغمغم:
- أسامحك.. أسامحك على إيه و لا إيه؟
و نظرت نحوهُ نظرة متهمة و هي تردد باهتياج:
- أسامحك على دبحك ليا؟ و لا على شرفي اللي ضيعته؟ و لا على اللي حصل لي بسببك؟ و لا على ابني اللي كان هيتقتل بسببك؟ و لا على حياتي اللي دمرتها؟ و لا أحلامي اللي ضيعتها؟ و لا أهلي اللي خسرتهم بسببك؟ و لا على راسي اللي بقت في الأرض بسببك؟ و لا على الفضيحة اللي حصلت لي بسببك؟.. أسامحك
و صرخت صرخة منفعلة و هي تتابع:
- بالسهولة دي عايزني أسامحك؟.. كأنك معملتش فيا حاجة، كأنك مقتلتنيش و أنا عايشة! لسه ليك عين تقولي أسامحك!
فردد و هو يستعطفها بنظراته:
- هصلح اللي حصل.. هصلح كل حاجة، محدش هيقدر يوجهلك حرف، وافقي نتجوز عشان خاطر ابننا.. ابني هربيه في حضني.. هنربيه سوا يا سهير
اصطبغ وجهه بالحمرة القانية و هي تحيط بطنها بذراعيها مرددة بتشنج مستهجن:
- أبـــدًا.. دا ابني، ابني أنا و بتاعي لوحدي، مش هسيبك تسرقه مني بالسهولة دي، مش هسيبك تشاركني فيه، انســى
زفر "يوسف" بنفاذ صبر، ثم أردف محاولًا لفت نظرها لنهاية تعندها:
- سهيـر.. انتي بتصعبي الموضوع، أهلك هيقتلوكي لو موافقتيش يا سهير، مش هيسبوكي في حالك
و وجّه نظرة نحو بطنها و هو يردد بنبرة جادة:
- لو انتي خايفة على ابن فعلًا.. هتوافقي، لو خايفة تخسري ابنك هتوافقي يا سهير، لازم تعملي دا، مفيش خيار تاني عندك!
..........................................................
و كأن الحُمم البركانية تتوافد لأوردتهِ و قد شعر باحتدام النيران في صدره و هو يجلس أمامه مطبقًا على أصابعهُ، ثم ردد مستهجنًا:
- و انت كدا حسنت صورتك قدام الناس لما تجوزني واحدة من الحواري.. هو دا اللي فرق؟
لوى "يعقوب" شفتيه و هو يردد باستهجان:
- و هو بإيدي؟.. عايزني أجيبلك منين واحدة من مقامنا تقبل بالبلاء دا!
فلم يقوَ "يوسف" على كبح جماحهِ، ضرب بقبضته المتكورة سطح المكتب و هو يردف بلهجة قاتمة:
- و ليــه؟ انت كدا استفدت إيه؟.. لما أنا في الآخر هتجوز واحدة فقيرة صوريّا يبقى انت استفدت إيه
فـ أجابهُ "يعقوب" بتشنج و كأنها عقدة بداخلهِ:
- أهم حاجة متكونش بنت خدامة.. على الأقل دي متعلمة و هنعرف ننضفها و تخليها تليق بينا، لكن خدامة بنت خداميـن.. لأ، انسى!
نفخ "يوسف" باستهجان و هو يردد بخفوت منفعل:
- استغفر الله العظيم
و نظر صوبهُ مجددًا.. حينما كان "يعقوب" يغمغم هازئًا:
- و بعدين مالك؟.. مش كفاية غصبتني أخطبك للي ما تتسمى قبل كدا.. و هي اللي سابتك و مسحت بكرامتك البلاط، رفضت ابن يعقوب الصياد بنفسه، اشمعنى دلوقتي مش راضي
و كأنهُ دعس بقدمهِ قلبه بلا هوادة و هو يعيد رتق جرحًا لم يُكتب له البراء، أحنى "يوسف" بصره و قد شعر و كأن هنالك ما يطبق على صدرهِ، ثم غمغم و هو يقبض جفنيه بصوت غير مسموع:
- هي السبب في كل حاجة أنا فيها!.. لو مكنتش حاولت أنساها مكنتش اتزفتت شربت
نظر "يعقوب" نحوهُ متعجبًا صمتهُ، فسخر منهُ:
- مالك؟ فكرتك بالذي مضى؟
حرر "يوسف" زفيرًا حانقًا من صدره و قد تجهم وجههُ و هو يردد مشيحًا بوجهه عنه:
- مالوش لازمة الكلام دا دلوقتي يا بابا، لو انت خلصت اللي عندك فـ بستأذنك.. أنا ماشي
و نهض عن محلهِ، حينما كان "يعقوب" يردد بلهجة ذات مغزى:
- طب بارك لاخوك حبيبك بقى عشان نوى يتجوز جوازة عادية من غير تعقيدات.. من بنت تليق بيه و بمقامه و بمقام عيلته
فـ التوى ثغر "يوسف" بابتسامة ساخرة و هو يردد متهكمًا قبل انصرافهِ:
- بجـد؟.. ربنا يكمل له على خير
و انصرف من الغرفة و لسان حالهِ يتمتم:
- أهي صياعتك دي اللي حولت حياتي جحيم يا كمال، يا ريتني ما سمعت كلامك يا أخي، ربنا يكون في عون اللي هتكتب عليها الموت و هي عايشة!
.................................................................
لا تصدق أنها اليوم تجلس أمامه تمامًا عقب أن خارت قواها تمامًا و أضحت بلا أي حيلة، منحها "يوسف" نظرة هادئة محاولًا بثّ الأمان في نفسها، و لكنها تجنبت أن تنظر لهُ حتى، و ظلت نظراتها عالقة بنقطة في الفراغ، حتى ابتدأ "يعقوب" الحديث عقب أن شملها بازدراء واضح:
- اسمعي يا.. سهير، لو فاكرة إنك هتبقى رسميًا مرات يوسف الصياد تنسي دا.. عمرك ما تفكري تحلمي بدا
فلم تتوقع هي نفسها أن تكون بتلك الجسارة لتردد:
- صدقني يا يعقوب بيه.. دي حاجة متشرفنيش، لكن للأسف معنديش حل تاني
هبّ "يعقوب" واقفًا على قدميه و قبل أن يشنّ هجومًا ضاريا عليها كان "يوسف" يردد بلهجة قوية:
- بابا.. اهدى لو سمحت
و نظر صوبها و هو يميل عليها قليلًا هامسًا لها بتوسل:
- سهير.. أرجوكي
منحتهُ نظرة قاسية من طرفها، حينما كان "يعقوب" يتنفس بانفعال.. جلس مجددًا و هو يحدجها بنظرة ناريّة، ثم نطق ملقيًا كلماتهِ الجافة في وجهها:
- يوسف هيتجوزك زي ما خططتي.. لكن محدش هيعرف بدا، أبـدًا
قبضت شفتيها بقوة محاولة ابتلاع ردودها قسرًا، حينما كان هو يتابع و هو يمنح بطنها نظرة هازئة، و لم يمنع نفسهُ من خلط الاشمئزاز بنبرتهِ:
- و اللي في بطنك دا لو عايزاه يعيش.. يبقى مش هيتكتب باسمك
جحظت عينا "يوسف" و هو ينظر نحوهُ بعدم تصديق، ثم ردد باستهجان و هو يضيق عينيه:
- ايه اللي بتقوله دا يا بابا؟.. انت مقولتليش دا؟
تشبثت "سهير" ببطنها و هي تطبق أسنانها و قد شعرت بارتجاف جسدها، حينما كان "يعقوب" يردد موجهًا حديثه لها:
- يوسف هيتجوز واحدة تانية.. هتسافروا برا لغاية ما تولديه، و بعدين يوسف هيرجع بـ "هدى" مراته الرسمية اللي كانت حامل و خلفت برا، و هيتكتب باسمها
أطبق "يوسف" على أناملهِ و هو يردد بتشنج واضح و قد احتقنت الدماء في وجههِ:
- بابا.. اللي بتقوله دا مش هيحصل، يعني إيه مش هيتكتب باسمها
فنهض "يعقوب" عن جلستهِ و هو يبُت في الأمر:
- دا اللي عندي.. و لو بنت الشغالين موافقتش يبقى نفضها الحكاية دي
فزأر "يوسف" بانفعال و هو ينهض عن جلستهِ:
- بـابـا.. كفاية، لا هتجوز هدى و لا غيرها، أنا مش هتجوز غير من سهير، خـلاص؟
لم يبدُ عليها الصدمة.. هي بالأصل كانت تعلم ذلك قبلًا حين وصلتها مكالمتهِ الهاتفيّة التي هددها بها بإنهاء حياة جنينها إن لم ترتضِ بقدرها، ستعيش على الهامش.. لمجرد أن تحظى بتواجدها جوار طفلها، سـ تعيش "سهير" الخادمة.. ستكون لابنها مجرد خادمة لن تستمع منهُ كلمة "ماما" يومًا، ستراهُ يكبر أمامها يومًا بعد يوم مقابل أن تفني عمرها في تواجدها أسفل قدميهِ.
صمتت.. و طال صمتها و نظرات "يعقوب" المهددة و المنذرة تلاحقها، أحنت "سهير" عينيها عنهُ و هي تكسر حاجز الصمت بقولها المتهكم:
- حضرتك بتطلب مني أتخلى عن ابني.. عشان أكون جمبه، بتطلب مني أتخلى عن حقي فيه.. عشان أشوفه قدامي ليل نهار، بتطلب مني إني أنسبه لواحدة تانية أسمعه بيقولها ماما.. و أنا مش هيقولي غير يا خدامة! بتطلب مني إني أفضل سهير المذلولة تحت رجليكم عشان غلطة ماليش فيها أي ذنب.. بتطلب مني أموت و أنا عايشة، مقابل إني أموت و عينيا شايفة ابني.. مش اني أموت بعيد عنهُ
غمغم "يوسف" تأثرًا و قد ترققت نظراته نحوها:
- سهيـر
نظرت نحوه نظرة من طرفها، ثم تقوست شفتيها و هي ترفع رأسها نحو "يعقوب" الذي تفاقمت نظراته شراسة و وعيدًا، و دقائق من الصمت هبطت عليه جميعًا و كأن على رؤوسهم الطير، حتى ردد "سهير":
- و أنا موافقة.. يا يعقوب بيه!
............................................................
- بارك اللهُ لكما و بارك عليكما و جمع بينكما في خير
و طفق يجمع حاجياته و متعلقاتهِ متهيّأً للانصراف عقب أن أدى مهمتهِ.. و ما إن انصرف حتى نهضت "سهير" عن محلها من فورها، و رددت قبل أن ترحل بجفاف خافت وصل إليه عقب أن وقف أمامها:
- إياك يا يوسف بيه تفكر للحظة.. إني هكون ليك زوجة، أنا قتلت نفسي و أنا عايشة بس عشان خاطر ابني
و برحت محلها عقب أن منحتهُ نظرة مزدرية لتختفى في حجرتها التي كانت تسكنها قبلًا حين كانت خادمة للقصر.. و اليوم تعود إليها بنفس الصفة، و إن كان باطنيّا قد صارت زوجةً لابن صاحب القصر.
.........................................................
و حدث ما أراد "يعقوب".. و أعدّ لـ "يوسف" أعظم حفل زفاف في إحدى الفنادق الفخمة التي تليق باسم عائلة الصيّاد، و من بعدهِ سافر ثلاثتهُم لمدينة "روما" بحجة قضاء شهر العسل هُناك.
لم يشاركها غرفة.. أو حديث.. أو شيئًا غير جفائهِ المبرر نحوها، و ترى بعينيها كيف كان يترقق في معاملتهِ مع زوجته الأولى، و على الرغم من اعتراض "سهير" لمكوثهِ بحجرتها بالفندق.. إلا أنها تركته في النهاية و قد سئمت عنادهِ الزائد، حتى اقتنى "يوسف" فيلا صغيرة لهُ و لـ "سهير" و طفلهما القادم فقط، و رفض رفضًا قاطعًا أن تشاركهما "هُدى" فيه.. و ابتاع لها شقة صغيرة تقطن بها وحدها.. و كأنها على هامش حياتهِ، فهي في نظرهِ مجرد امرأة وافقت أن تبيع حياتها نظير الأموال و فقط.
و للحقّ.. جعلها و كأنها ملكة مدينته الصغرى، فعل ما لم يفعله رجل قبله و لا بعدهِ لتعفو عنه و تغفر له جرم لا يغتفر، لتصفح عن ذنبهِ نحوها، و ليخطو أولى الدرجات نحو قلبها و إن كانت لم تعلمهُ يومًا أنها أصفحت.. و غفرت.. و عفى قلبها عنهُ.. و ماذا تفعل بقلبٍ أحبه و لم يقوَ على اجتثاث ذلك العشق من جذوره حتى عقب ما ارتكب بحقها.
 و إن كان قد أُصيب بالصقيع المنذر بالحقد الموشك.. و لكنهُ أذاب ببراعة صقيعها و أحيا من جديد براعم الحب، و إن كانت لم تعترف بهِ يومًا، خطوة تليها خطوة.. لم يتعجل الأمر و لم ييأس أو يقنط على الرغم من محاولاتها الجمّة لجعلهِ ينبذها و يسئم، و لكنه كان صبورًا حتى تمكن من تهشيم ذلك الحاجز الجليدي الذي شيّدته بينهما، أعانها على النسيان.. و كأنه شخصًا آخر غير الذي ارتكب بحقها أبشع الجرائم، و لم يكن لها مفرّ.. ارتضت  في نهاية المطاف _قسرًا_ أن تتعايش مع حياتها الجديدة.
حتى أتى ذلك اليوم الذي لم تخشَ دونهُ بعد استقرار حياتها في كنفهِ..ذلك اليوم الذي سترى فيه طفلًا حملتهُ في داخلها و شاركتهُ تسعة أشهر، شاركته طعامها و شرابها، و غذّته على حنانها، و أطعمتهُ رغمًا عنها من مؤونة أرقها و عذابها، و اليوم سيُختتم العذاب فـ تنتقل من مرحلة عذاب التفكير و الخوف من المستقبل، إلى عذاب فعليّ ستعايشهُ يومًا بـ يوم و ثانية بـ ثانية ما إن تحطّ طائرتهما على أرض الوطن..
 و قد أضحى فعليّا في أحضانها، و حينها لم تعد ملكة قصره كما كان في "روما".. اليوم عادت خادمة و لكنهُ لم يجعل ذلك الشعور يداهمها، و حاول بشتى الطرق أن يشعرها أنها فقط و أبدًا ملكة على عرشهِ و مليكة مدينتهِ التي شيدها من أجلها.
و لكن ما يفعل لم يكُن يومًا كافيًا ليقشعُ وصبها منذ أن انتقل رضيعها _الذي أسماهُ "يوسف" بنفسهِ_ من كونهُ طفلها التي وضعتهُ.. إلى طفل "هُدى الريحاني" زوجة "يوسف الصيّاد".. رسميًا»
........................................................................
انفلتت شهقة مصدومة من فاه "يارا" و عادت خطوة للخلف و هي تُكممه بكفيها و أعينها المتوسعة عن آخرها معلقة بهِ، التفتت نحو "فارس" الذي لم يقلّ عنها صدمة ثم سألتهُ بارتياب خافت:
- ايه.. ايه اللي بتقوله ده؟
انحرفت نظرات "فارس" نحوها ليرمش عدة مرات غير مستوعبًا ما يحدث أمام ناظريهِ.
حينما زمجر "يامن" و هو يخطو نحوها مُطبقًا بأناملهِ القوية على فكّها و دفعها بعنف ليرطم ظهرها و رأسها بالجدار بعنفٍ بالغ، تأوهت "سهير" متألمة و قد تقلصت تعبيراتها و لكنها لم تكفّ حيث هتفت متابعة:
- في أوضته اللي انت مش قابل حد غيري ينضفها، على سريره اللي انت محتفظ بيه، في.. آآه!
أطبق "يامن" أكثر على فكّها فشعرت به يكاد يهشم في قبضته أثناء قولهِ الهادر:
- اخرسـي، اخرســــي!
ضمت شفتيها و قد انسدلت عبرة من عينيها المؤنبتين لتشق سبيلها حتى كفهِ، حينما كانت تغمغم:
- كنت هنزلك.. كنت هقتلك في بطني لما عرفت بوجودك، لكن مقدرتش، مقدرتش أقتل ابني بإيدي، مقدرتش!
أطبق جفنيهِ بقوة و هو يلكم الجدار براحتهِ بجوار رأسها بانفعال و هو يحرر صرخة مكبوتة في أعماقهِ، كادت "يارا" تتحرك لتخطو نحوهُ و لكن استوقفها "فارس" و هو يُطبق على ساعدها ليمنعها من التقدم، التفتت نحوه و هي تحاول الفكاك منه مردفة باستنكار:
- انت بتعمل إيه؟.. سيبني انت مش شايفهُ! هيقتلها
انحرفت نظراتهِ نحوها و هو يجتذبها لتكون جوارهِ و هو ينطق بـ:
- هو مش شايف قدامه، خليكي على جمب
فسألتهُ و قد شعرت بقلبها يتواثب بين أضلعها:
- الكلام اللي بتقوله ده صح؟
انحرفت نظراتهِ عنها و هو يحرر زفيرًا حارًا من أعماقه غير قادرًا على الإجابة حتى، فعادت تحملق بهم و قد شحب لون وجهها من فرط ارتيابها.
حينما كانت "سهير" تنطق بألم بالغ:
- كانوا هيقتلوني.. كانوا هيقتلوني لما عرفوا بوجودك.. كانوا هيقتلوني و لا كأن أنا اللي غلطت، محدش صدقني، محدش عرف إنه دبحني آآآه!
أطبق مجددًا على عنقها و هو يجأر بأعلى صوتٍ لديه:
- كفايــة، كفايــــة، اخرسي
و عاد يسحب سلاحهُ ليلصق فوهتهِ بجبينها و هو يردد باحتدام:
- كلمة زيادة هتكون الأخيرة.. انتي قتلك حلال يا ******
التوى ثغرها بابتسامة متهكمة و قد عادت عيناها تغرورقان بالدموع، ثم رددت بمرارة:
- كأني شايفة يعقوب قدامي.. كأني شايفاه قدامي لما حكم عليا إني أموت و أنا عايشة.. لما حكم عليا إني أكون خدامة و أنا مرات ابنه، لما حكم عليا أتدفن و سري يتفن معايا و أنا عايشة
فجأر بها و قد تشنجت عضلات جسده بأكملهِ:
- اخرســي.. أنا معنديش غير أم واحدة و ماتت.. سمعاني.. ماتـــت، و انتي هتحصليها
ثانية واحدة كانت تفصلهُ عن ضغط الزناد، فـ نهج صدرها علوًا و هبوطًا و قد شعرت بقلبها يكاد يبلغ حنجرتها و قد شعرت بآلامٍ حادة تداهمها، تفصّد جبينها عرقًا و هي تكور أناملها محاولة التحمل و لكنها لم تقوَ على ذلك، جحظت عيناها و هي تحيط بطنها بذراعها، ثم هتفت مستنجدة بهِ:
- يامــن
و لكنه لم يتفت.. بل بيد أنهُ لم يستمع إليها حتى، فتشبثت بساعد "فارس" الذي تغضن جبينه و قد أصيب بارتباك متفاقم و هو يسألها:
- في إيـه؟.. ماسكة بطنك كدا ليه؟.. يــارا
أطبقت بأناملها على ساعدهِ و هي تحرر صرخة مكبوتة في صدرها أعقبتها بقولها المرتعد:
- ابني بيموت يا فارس.. الحق ابني يا فارس، آآآه
تيبست ملامحه تمامًا و قد اخترقت كلماتها  أذنيهِ كالسياط، تراجع عنها خطوة و هو يلتفت نحو زوجتهِ، أرخى قبضته عن سلاحه فسقط أرضًا و هو يخطو نحوها هادرًا بصوتهِ:
- يـــارا
و ما إن وقف أمامها حتى تخلّت عن ساعد "فارس" لتطبق على قميصه و هي تردد متوسلة إياه:
- ابننا.. ابننا يا يامن، الحق ابني أرجوك
و من فورهِ انحنى عليها ممرًا ذراعه خلف ظهرها و حملها بين ذراعيه، و ما إن كاد يخطو للأمام تنبّه إلى قول "فارس" المُريب و أعينه مسلطة على الدماء التي انسالت من بين قدميها فتكونت بقعة من الدماء التي تكونت أرضًا:
- إيــه الدم دا؟
انحرفت نظراتهِ تلقائيًا نحو جسدها و ساقيها ليجد بنطالها قد اصطبغ بلون الدماء الأحمر، ضمّ جسدها أكثر إليه و قد شعر بقلبه يكاد ينخلع من محلهِ و هو يجأر بصوتهِ:
- يـــارا
لم تقوَ على رؤية الدماء.. فتشوشت رؤيتها و قد شعرت بآخر ذرات وعيها تنسحب منها رويدًا رويدًا، فتشبثت بسرتهِ و هي تغمغم مترجية:
- ابني.. الحق ابني يا يامن
و انطبق جفنيها أمام نظراتهِ المحتدمة، تحرك من فوره مستوفضًا للباب و تتبعهُ "فارس"، و قبل أن يخرج كان يزأر متوعدًا إياها بالرد القاسي:
- و ديني لو حصل لابني حاجة ما هرحمك
توقفت محلها متيبسة و هي تتابع ما يحدث بأعين مشدوهة، حتى وصلها صوتهُ:
- ابنك!.. أنا.. هيبقى عندي حفيد
زمجر "يامن" حينما كان "فارس" يفتح الباب لهُ ليعبر منهُ أثناء قول الأول المهتاج:
- مبقاش يامن ان ما وريتك شغلك.. قسمًا بالله لدفعك التمن غالي أوي!
.................................................................
تجول في الردهة ذهابًا و إيابًا و قد شعر بنيرانهِ المتوقدة تكاد تصل لعنقه فتضاعف ما بهِ من اختناق محتدم، رفض "فارس" أن يحادثهُ في خضم ما يعانيه، و ظل جالسًا على أحد المقاعد يراقب حالتهِ المهتاجة تلك، حتى انفتح الباب على مصراعيه لتخرج منهُ الطبيبة النسائيّة، أوفض "يامن" نحوها من فوره و هو يسألها:
- حصل إيـه؟
أحنت نظراتها عنه و هي تدمدم بقنوط:
- مع الأسف.. فقدنا الجنين
تراجع للخلف خطوتين عن محيطها و كأن عقربًا قد لدغهُ، توسعت عيناه المحتدتين و هو يحملق بوجهها، حتى نهض "فارس" من فورهِ ليخطو نحوها متأثرًا و بتشككٍ سألها:
- مــات؟
أومأت الطبيبة و هي تنزع القناع عن وجهها:
- ربنا يعوضكم.. عن إذنك
و انصرفت من أمام عينيهِ، ألصق ظهرهُ بالجدار قابضًا جفنيه بعنفٍ و هو يُطبق على أنامله مستشعرًا لهيبهِ المتفاقم و كأنهُ حمم بركانية و قد شعر برغبة عارمة في تحطيم و تهشيم ما أمامهُ، كشر عن أنيابه و هو يفتح عينيهِ المُتأججتين و هو يشرع في التحرك المندفع، فتبعهُ "فارس" من فوره و قد شعر بأنهُ سيقدم على ارتكاب جريمة أخرى و:
- استنى بس يا يامن.. رايح فين، اهدى و ....
بزغت عروق جبينه بوضوح و هو يدفعهُ دفعة عنيفة مزمجرًا بجأر:
- ابعــد، ابعــــد عني و إلا هتلحقها!
و مضى بخطواتهِ النارية للخارج، و ما إن كاد "فارس" يتبعهُ حتى انفتح بابيّ غرفة الطوارئ لتخرج الممرضات يدفعن فراشها نحو المصعد، تيبس و قد شعر بضرورة تواجده خاصة و أنهُ يعلم أن حياتها في خطر تنهد و هو ينقل نظراتهِ بين طيفه الذي تلاشى عقب أن ترك الردهة، و بين فراش "يارا" الطبيّ، فضرب الأرض بقدمه بعصبية و هو يزفر حانقًا.. ثم لحق بالأخيرة، و لا يعلم حقًا ما يمكن أن يؤول الأمر إليهِ مع الأول.
............................................................
كان يجتذبها من عضدها بوحشيّة عنيفة حتى بلغ سيارته فدفع بجسدها لداخلهِ صافقًا الباب بعنف من خلفها، دار حول مقدمة السيارة و استقل مقعده خلف المقود غير مباليًا باحتجاجاتها و كلماتها المستوضحة، و شرع يقتاد السيارة مبتعدًا عن تلك البقعة و كلمة الطبيبة تتردد على أذنيه و كأنها سائلًا قابلًا للاشتعال فاقم لهيبهِ الأسود، حتى بلغ تلك البقعة تحديدًا..
 ترجل عن السيارة و دار حولها ليفتح بابها، و بسط كفه ليجتذبها بعنف للخارج صافقًا الباب من خلفها، مضى عدة خطوات ساحبًا لها من خلفه و هي تعصف يمينًا و يسارًا.. حملقت عيناها و هي تتأمل ذلك التل بأعين جاحظة، حتى دفع جسدها بقوة لتخر على قدميها أمامهُ أحنت رأسها و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا بانفعال، حتى استلّ سلاحه من ملابسهِ ليصوبهُ نحو رأسها و وجههُ أشبه بكلتة من النيران المتأججة، ثُم جأر راعدًا بتمقُط:
- أمنية اللي أنا عملت المستحيل عشان أرجعلهالك عارفة هعمل إيه بعد ما أقتلك؟
و انخفضت نبرتهِ قليلًا لتخرج أشبه بالفحيح و هو يردد من بين أسنانه المطبقة:
- هرجعها.. لكن هرجعها عشان أخلص عليها بإيدي زي ما هخلص عليكي
و زأر في وجهها بجنون و قد توسعت عيناه المحتقنان بالدماء:
- هخلص عليها زي ما خلصتي على ابني.. هقتلها بإيدي زي ما قتلتيه
ارتفعت أنظارها الدامعة نحوهُ رويدًا رويدًا و هي تسألهُ:
- عرفت المكان دا ازاي؟
إنها مجنونة.. مجنونة بالكامل، و لكن لن يعيقهُ ذلك عن قتلها، أشار "يامن" بسبابتهِ الأخرى للسماء و هو يردد:
- المكان دا اللي هتموتي فيه.. اللي هخلص عليكي فيه عشان كلامك الـ**** على أبويا
و ارتفعت نبرتهِ و هو يهدر باحتـدام:
- هقتلك في المكان اللي روحه موجودة فيه.. عشان يشهد على حقهُ اللي هرجعه منك بافتراكي عليه!
فسألتهُ مجددًا و كأنها لم تستمع إلى أيّا مما يتفوه بهِ:
- عرفت المكان دا ازاي؟.. يوسف اللي قالك عليه
فجأر بها بتشنج و هو يهددها بسلاحهِ:
- إياكي أسمع اسمه بيتنطق على لسانك الـ****** دا، سامعـــة!
نقرت "سهير" بسبابتها أرضًا بجوار ركبتيها تحديدًا و هي تردد بلهجة متراخية:
- هنا.. هنا أخويا رمالني نفس الرمية
و أشارت بعينيها للسلاح القابع في كفه و هي تردد:
- و كان واقف نفس واقفتك.. و ماسك نفس سلاحك
صمتت قليلًا و قد اخترقت أذنيها صوت الطلقات المتتالية، حتى صوت الطيور الفارّة من هنا اخترق أذنيها، ثم التفتت يسارًا لتجد طيفهُ يُطل عليها، تلك المرة خشت أن ترفع نظراتها نحوه فلم تلاحظ حتى نظراته المتوسلة تلك، و لكنها الآن تراها بوضوح و قد رمشت لتطلق سراح عبراتها، تقوست شفتيها شجنًا و هي تبادله بنظرات أكثر رجاءً عساه يساعدها و يقف جوارها في تلك اللحظة تحديدًا، عسى أن تتمكن من اقناع فلذة كبدها أنهُ ينتمي إليها هي.. هي فقط، ثم عادت ترفع نظراتها نحوه و قد اختنق صوتها و هي تشير بسبابتها إليه:
- شايفه؟.. هو هناك؟ جه يومها يلحقني، جه يومها و قال لأخويا يسيب سلاحه
و أشارت نحوهُ مجددًا و هي تستطرد بتلهفٍ أصاب نبرتها و هي تشير لسلاحهِ:
- وقتها مقدرش يقف قصاده.. ساب السلاح و .. وقع جمبي
ارتفعت أنظارها نحوهُ و هي تتابع:
- وقتها.. قاله إنه هيقتلني عشان.. عشان فضيحتي، عشان جبتلهم العار!
و صمتت هنيهة و قد امتزجت نبرتها مع نشيجها الأليـم:
- سألني قدامه.. سألني اللي في بطنك دا ابن مين، عرفه بغبائه إني حامل فيك
و هزت رأسها استنكارًا و كأن الجنون قد أصابها:
- و انت مكنتش هنا.. انت كنت جوايا، كنت جوايا
كان محملقًا بها محاولًا ألا يتبع حدسهُ المقيت الذي أنبأهُ بصدق حديثها، لم تتغير ملامحهُ و نظراتها المتسعة تهبط حتى بطنها، ارتخى ذراعه رغمًا عنه و قد شعر و كأن الخور قد اصابهُ، و تحرر كفهُ عن السلاح فسقط أرضًا.. عند نفس البقعة تحديدًا، فـ أخفضت كفيها نحو السلاح و هي تردد مشيرة إليه:
- السلاح.. السلاح كان هنا
و ارتفعت أنظارها يسارًا مجددًا و:
- و هو كان هناك.. مقدرتش.. مقدرتش أستحمل أسمع كلمة منه تاني، مقدرتش أسمع صوته، مقدرتش أبص في وشه و هو خلاني أعيش كل حاجة تاني.. خلى كل حاجة تتعاد قدام عيني، كل لمسة منه لجسمي، كل حاجة اتعادت قدامي، كل حاجـة
و نهضت عن الأرضية و هي تسحب السلاح مصوبة نظراتها لطيفهِ الذي شرع يدنو منها شحب لون وجهها و قد شعرت و كأن روحها تنسحب من بين جنبيها، و تلقائيًا أشهرت سلاحها في وجه طيفه بأيديها المرتعشة و هي تردد:
- و هو ساب.. ساب سلاحه، فضل يقرب.. و أنا أبعد و أهدده بقتله لو قرب خطوة زيادة، لكن مسمعش كلامي، و قرب أكتر.. و أكتر، و أنا أبعد، الخطة منه كنت بقابلها بخطوتين مني لغاية ما....
توقفت لدى الحافة و هي تنظر خلفها مدمدمة بهمس مرير:
- كنت هقع من هنا.. و هو لحقني، ايده كانت على جسمي، دا كان كفاية عشان يخليني أنسحب، مقدرتش أستحمل الضغط أكتر من دا
نظرت نحوهُ و هي تردد من بين شهقاتها و قد عادت لأرض الواقع مجددًا عقب رحلة عايشتها مع أطيافٍ لم تكن حولها:
حسيت إني خلاص.. بعد ما كنت انت السبب اللي هعيش عشانهُ خسرتك قبل حتى ما أتهنى بيك، كنت خايفة.. أهلى مسابونيش غير لما وافقت عليه، كانوا هيقتلوك في بطني.. و اضطريت أتذل له عشان يلحقك من الموت، اضطريت أوافق عشان أضمن انهم يسيبوك، لكن جدك مسابنيش.. جدك هددني إنه يقتلك في بطني لو موافقتش على أي حاجة عايزها، و اضطريت من تاني أوافق إني أعيش خدامة عشان أفضل جمبك، اضطريت أوافق على الظلم و القهر و المرار اللي عيشته و أنا بشوفك بتقول لها ماما، اضطريت أسكت و أكتم في نفسي و أنا شايفة معاملتها اللي زي الزفت ليك و مقدرتش أنطق؛ لأني مجرد خدامة!.. خدامة ملهاش رأي و لا صوت
و صمتت هنيهة و قد تيبست ملامحها و تجمدت دموعها في عينيها لترفع رأسها بشموخٍ:
- اضطريت أقتل نفسي و أنا عايشة عشانك.. اضطريت أموت عشان تعيش، اضطريت أضحي بيك عشان أكون جمبك، اضطريت أعيش مع اللي دبحني عشان انت متموتش، استحملت.. استحملت كل حاجة، عشان خاطرك انت
خطت نحوهُ مجددًا بخطوات معدودة مرددة بنبرة خاوية من الحياة:
- سيبتك تعيش.. عشان ييجي اليوم اللي تقتلني فيه، استحملت كل حاجة.. و لسه هستحمل اللحظة اللي هتكون انت آخر واحد أشوفه.. لسه هستحمل إني أعيش اللحظة اللي هشوف فيها اللي قتلت نفسي عشانه بيقتلني بإيده من غير ذرة ندم
 توقفت أمامهُ مباشرة، نكّست رأسها و قد هدأت انفعالاتها حتى باتت أكثر وهنًا و ضعفًا، جثت على ركبتيها أمام جسدهِ المتصنم.. أسنانهِ المطبقة و عضلات صدغيه ترتعشان و هو يشدد على ضغط فكيهِ ، لم يمنحها نظرة واحدة فقط، بل ظلت عيناهُ متعلقتان بنقطة في الفراغ لا تعلم هي أنها طيفًا آخر لهُ تجسد مام عينيهِ، عيناهُ فقط تتحدثان بالنظرات المتوسلة و هو يهزّ رأسه بالسلب، و كأنه يرجوه ألا يفعل، لم يتحرك قيد أنملة حين تلمست كفهِ بأناملها.. احتوتهُ بضغطة خفيفة و هي تقبض جفنيها قهرًا،  ثم فتحتهما مجددًا و هي تضع السلاح بكفهِ مرددة باختناق صاحب صوتها:
- خـد.. اقتلني يا.. يا باشا، اقتلني
ارتفعت أنظارها المتحسرة  نحوهُ و هي تردد:
- و صدقني.. أنا مش زعلانة عشان هموت، أنا متت من زمـان، زعلانة عشان اتحرمت حتى.. من إني أسمع منك كلمة ماما مرة واحدة.. واحدة بس، قبل ما أموت
و عادت تطرق رأسها مستسلمة لنهايتها المجحفة لها عقب ظلمٍ جار على حياتها بأكملها، و عقب حياة لم تمنحها العدل لمرة واحدة، حياةً أتت عليها بما لم تتحملهُ نفس، و قضت على ما تبقى منها، حياة سلبتها جميع حقوقها، و كأنها عدوة لدودة لها لم ترتضِ بمنحها نصيبًا منها، لفظت نفسًا حارًا من صدرها، و قبضت جفونها و هي تترقب نهايتها، عبرتين شقا سبيلهما على وجنتيها، رغمًا عنها، ضمت شفتيها محاولة كبت شهقاتها، حتى انتفض جسدها مع صوت الطلقات العديدة التي أطلقت و كأنهُ "يوسف" مجددًا، حتى صوت الطيور التي هربت مفزوعة من الصوت و هديلها قد بزغ و صدح الصوت في الأرجاء، فتحت جفونها و هي تنظر لجسدها بارتياع، ثم عادت تنظر نحوه لتجده يطلق طلقاتٍ عدة للسماء و هو يزمجر زمجرة عنيفة معقبًا إياها بصرخاتٍ مهتاجة كبتها في صدرهِ طويلًا، حتى انتهت ذخيرتهِ فألقى بسلاحهِ بعيدًا و هو يجأر بها باستهجان:
- انتي مجنونــة، أكيد مجنونـــة.. مستحيل يكون صح، مستحيـــــل!
و كأنها باتت أكثر تماسكًا حين رفض قتلها، فرددت و هي تنظر نحوهُ بثبات:
- لا.. مش كذب، و متجننتش، اللي حصل لي كان كافي يجنن أي حد، لكن أنا عيشت و متجننتش، بُص في عيني.. بص في عيني يا يامن و انت هتعرف كلامي كذب و لأ، شوف دموعي و شوفها دموع حقيقية و لا لأ
ولاها ظهرهُ و هو ينفي برأسهِ بهستيرية، ثم صدح صوتهُ القاتم:
- لأ.. لـــــأ، كل دا كـــذب، كذب
انعقد حاجبيها و هي تسألهُ:
- مسألتش نفسك لمرة هي بتعمل معاك كدا ليـه؟.. مسألتش نفسك في يوم إزاي أم تعمل كدا في ابنها؟.. جربت تلاقي إجابة للسؤال دا يا يامن؟
صمتت هنيهة تستحضر ثباتها الزائف مجددًا و تستجمع شتات نفسها، ثم طقت بلهجة أشد بأسًا:
- يوسف مكنش ضعيف زي ما هي كانت بتتحجج، بالعكس.. يوسف كان أقسى معاها، مكنش بيديها أي اهتمام، و بدل ما أكون أنا هامش قدام الناس هي كانت هامش في حياتهُ، و دا كان بيكرهها فيه أكتر و أكتر، كانت بتنتقم منهُ فيك.. كانت بتنتقم منه في ابنه، كانت مستنية اللحظة اللي يظهر فيها حسين عشان تبقى قاتل عشان بس تحرم حبيبة من حسيـن، هي دي هدى مرات عمك.. مرات عمك و بس!
فخرجت صرختهِ كالرعـد و:
- لأ.. لــــــأ
و أشار لنفسه و هو يردد دون أن يلتفت نحوها من بين أنفاسه المهتاجة:
- أنا معنديش غير أم واحدة و ماتت
و التفت نحوها و هو يهدر بإصرار:
- سمعاني، أم واحدة و هي هـــدى
فتابعت و هي تومئ برأسها بحركة خفيفة، و كأنها لم تستمع إليهِ، و اعترفت لهُ بـ:
- مش هقول إنه فضل حيوان معايا.. لأ، حاول يكفر عن ذنبه، كفر عن ذنبه بكل الطرق و حاول يخليني أغفر له، كان بيعاملني كأني ملكة، كان بيمنع جدك عن إنه يوجه لي كلمة واحدة، كان في ضهري دايمًا.. لكن خسرت الضهر دا لما اتقتل، داسوا عليا و هددوني
و نهضت عن الأرضية و قد شعرت بدمائها تغلي في عروقها، خطت نحوه و وقفت أمامه مباشرة و هي تردد و قد اصطبغت بشرتها الشاحبة بالحمرة:
- ياريتهم عملوا دا بس.. يا ريت، لكن عمك الحقير قتلهم، قتل أختي و جوزها.. اتسبب لهم في حادثة عشان كان عارف إني عارفة كل حاجة، قتلهم بدم بارد و معتش غير أمنية اللي فضلت ساكتة عشانها، أمنية اللي بتضيع بسببك و بسبب أنانيتك و انت مش قادر حتى ترجعها
ارتفع ذقنها و هي تتابع بنبرة قاسية:
- قتل خالتك و جوزها.. و بنت خالتك ضايعة و مش عارف تلاقيها، و واقف قدامي تحاسبني عشان قولت الحقيقة اللي حبستها جوايــا عشان البنت اليتيمة من سنيــن
أشاح بوجهه عنها و هو يهز رأسه نفيًا و لسانهِ لا يهمس سوى بـ:
- كـذب.. كذب كل حاجة كذب
و تراجع للخلف عن محيطها ثلاث خطوات و هو يجأر:
- كل حاجة كــذب، كل حاجـــة
دست كفها في جيبها ثم خطت نحوهُ لتخرج تلك الورقة المتهالكة و التي أصابها الصفرار قليلًا، ثم أردفت و هي تفتحها أمام عينيه:
- اتفضل.. شوف دا كذب و لا لأ
نهج صدره علوًا و هبوطًا و نظراته الملتهبة مسلطة على تلك الورقة، ثم اجتذبها بعنفٍ من كفها و هو يرجو ألا يكون ما يفكر بهِ صوابًا، و لكن ضاع رجائهِ هباءً حين أدرك أنها قسيمة زواج، تسلطت عيناه الُمحتقنتين على اسمها المدوّن بالأسفل بجوار اسم والده الذي خُط بخطهِ الذي يحفظه عن ظهر قلب، نظر نحوها و قد اهتزت عضلات فكيه إثر إطباقها،  أطبق أنامله على الورقة حتى تجعدت، فسحبتها "سهير" من بين أناملهِ و هي تشهرها في وجهه مجددًا مرددة:
- اللحظة دي قضت على اللي باقي مني، متخيل؟.. اني أضطر أتجوز اللي دبحني عشان ابنه اللي زرعه غصب فيا ؟
ضاقت عيناهُ لينسدل خيط من الدموع الحارقة من بينهما و هو يردد مستهجنًا:
- كل حاجة كذب؟ كل حياتي عبارة عن كذبــة؟
أشار بسبابتهِ و هو يردد من بين أسنانه التي تكاد تكون رتقًا:
- كل.. كل حاجة كذب؟ كل اللي عيشته كان كذب؟ أنا.. أنا ابن حرام؟
أحنت بصرها عنهُ و هي تهمس بصوتٍ قانط:
- اتجوزني
فجأر باحتدام و هو يتراجع خطوة عنها:
- يعني إيـه؟ أنا ابـن مين؟ ابـن ميـــن؟
رفعت أنظارها إليه و هي تستعطفهُ بنظراتها مشيرة لصدرها:
- ابني.. و الله العظيم ابني أنا، ابني أنا
فلم تتلقَ منهُ سوى صرخة أخرى مدوّية امتزجت مع زمجرته العنيفة، ثم جأر بها:
- إيه تانـــي؟ في إيه تاني مخباه عني؟ ايــه تاني لسه مستخبي ورا العيلة الـ**** دي ، إيه تانــــــي؟
انحناءة رأسها تلك جعلتهُ يتيقن أن هنالك المزيـد، فتوسعت مقلتاه الملتهبتين بجنون و هو يجأر بها:
- انطقـــي
فنطقت بخفوت مكدود:
- عُمـر
و كأنهُ تمكن من أن يستنبط ما ستتفوه بهِ، و لكنه ظل يحملق بها بترقب بنظراتهِ التي لم تكفّ عن قدح الشرر، و بدون أن يرمش سألها:
- ماله؟
- مش أخوك
ارتد للخلف و كأن عقربًا لدغهُ و هو يحملق بها و قد شعر و كأن الأرض بأكملها ضاقت عليه بما رحُبت، فرفعت "سهير" أنظارها نحوه و هي تردد موضحة:
- عمر.. ابن عمك، ابن كمال و.. و هدى! يعني.. أخو فارس
ظلت نظراتهِ عالقة عليها دون أن ينبس ببنت شفة، و ما هي إلا ثوانٍ و كان يوليها ظهرهُ بارحًا ذلك المكان الحقير كما أسماهُ عقب أن أدرك تلك الحقيقة المقززة عنه، ذلك المكان الذي قضى بهِ وقتًا لم يقضيه بغيره، و ألقى به كافة همومهِ و تنفس بعمقٍ هوائهِ، اليوم يشعر أنهُ أبغض بقعة من بِقاع الأرض لديه، لم يعلم مسبقًا لم هو مميزًا لدى والدهِ.. و اليوم أدرك ذلك حق الإدراك، حيثُ أنه المكان الذي علم به بوجودهِ.
 كل خطوة يخطوها تهطل دمعة عابرة من عينيه الملتهبتين لم تُخفف حُممهِ مقدار ذرة، تهطل على صدغيه المرتجفين و هو يُطبق فكيه أكثر، حتى بلغ سيارتهِ، فاستقلها خلف المقود، و سارع باقتيادها منصرفًا مخلفًا ورائهُ سحابة من الرمال و صوت احتكاك الإطارات بالسيارة، و ما إن استقل السيارة حتى وجد اتصالًا واردًا من "فارس"، كاد يتجاهلهُ.. و لكن و كأنه حدسه الذي أنبأهُ بضرورة الرد، فـ أجاب من بين أسنانه بصعوبة:
- عايز إيـه؟
و صمت قليلًا حتى استمع لردهِ فجأر باستهجان:
- إيـــه!
...................................................................
..............................
.........................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now