"الفصل الخامس عشر"

798 16 1
                                    

" الفصل الخامس عشر"
و گ الأيام الماضية ، كانت الشمس متلحفة برداء الغيوم ، مختبئة فلم ينجم عنها سِوى شُعاع باهت من الضوء لا أكثر ، فـ كانت الرياح عاتية تصطدم بـ وريقات الأشجار فتصدر حفيفًا خافتًا .
كان قد عاد للقصر ليأخذ حمامًا دافئًا يُزيح به آثار التعب خلال اليومين الماضيين ، عبر من الممر المؤدي لباب القصر الخشبي الضخم ، ثم تركها في منتصفهِ و ترجل ، دنا منه السائق فور أن رآه ، فـ ردد "فارس" و هو يغلقها بـ القفل الالكتروني :
- سيبك يا عم سعيد ، أنا شوية و نازل تاني
أومأ برأسه و هو يعود خطوة منكسًا رأسه ، فـ ضيّق "فارس" عينيه و هو يبحث في أرجاء الحديقة ، ثم تسلطت نظراته على السائق و هو يسأل بحنق:
- هدى هانم فين؟
فـ أجابه و هو يشير بكفه:
- هدى هانم في الجنينة الخلفية يا فارس بيه ، تحب أبلغها بوجودك
بسط كفه مشيرًا إليه و قد التوى ثغره متأففًا:
- لا ، مش عايز
و خطا مبتعدًا و هو يزفر حانقًا من تلك التي لا يشغل بالها أيّا من أولادِها ، أخرج سلسلة مفاتيحه من أحد جيوبه و فتح الباب ثم دلف ، جاب البهو بنظراته و هو يعبر نحو الدرجات ، ثم صاح قبل أن يستقلّها:
- سهيــر
و شرع يصعد الدرجات معيدًا النداء ، حتى توقف في منتصف الدرج و هو يلتفت إثر صوت الفتاة الذي ظهر من خلفه:
- أفندم يا فارس بيه؟
تغضن جبينه و هو يجوبها من رأسها حتى أخمص قدميها ، ثم ردد منزعجًا:
- أفندم إيـه؟ سهير فيـن ؟
حمحمت و هي تضم كفيها معًا بتوتر ثم نكست رأسها و هي تجيبه بخفوت:
- احم.. سهير قدمت استقالتها يا فارس بيه ، و لسه الـ..
كان صوتها منخفضًا للغاية ، فـ تأفف و هو يترجل عن الدرجات ، ثم توقف أمامها مرددًا بصوتٍ حانق:
- انتي بتبرطمي و لا بتكلمي نفسك و لا إيـه بالظبط؟.. ما تعلي صوتك و تخلصي! فيـن سهيــر ؟
ازدردت ريقها و هي ترفع نظراتها إليه لثوانٍ ، ثم عادت تجفلها و هي تغمغم:
- كنت.. كنت بقول لحضرتك إن سهير .. سهير قدمت استقالتها!.. و لسه مكتب التخديم مبعتش واحدة غيرها ، لو حضرتك محتاج حاجة فـ...
ارتفع حاجبه الأيسر استنكارًا و هو يهدر بها مستهجنًا:
- نعــم!.. سهير مين اللي قدمت استقالتها؟ انتي بتقولي ايـه؟
رمشت بعينيها عدة مرات ثم أردفت مؤكدة بصوتٍ مهزوز:
- و الله ده اللي حصل يا فارس بيه
تمعن النظر لملامحها قبل أن يردف مستفسرًا و قد شعر بـ الدماء تغلي في عروقه:
- ايـه اللي حصل بالظبط؟
زمّت شفتيها و هي تدمدم بارتباك تام:
- هي .. هي و هدي هانم ،.. يعني ، حصل بينهم خناقة محدش فهم منها حاجة ، و ..و فورًا سهير سابت القصر
و من ثم حاولت تغيير دفّة الحديث قائلة:
- حضرتك تؤمرني بـ إيـه يا فارس بيه؟
أشار بعينيه و هو يردد بصوتٍ محتد:
- حضري شنطة هدوم لـ "عمر" ، أنا طالع أخد شاور ، أنزل تكوني خلصتي
أومأت عدة مرات و هي تجيبه بخنوع:
- حالًا هروح يا فارس بيه ، بعد إذنك
تابع انصرافها من أمامه و خطواتها المرتبكة بأعين ضائقة ، زفر محتقنًا و هو يفرك وجهه بكفيه حتى احمرّ جلد بشرته ، و لم يتمكن من منع نفسه من سبها :
- يلعن ×××× ، أنا مش هخلص من قرفك ده بقى!
تأفف بصوتٍ مسموع و هو يمضي نحو السلالم و طفق يلتهم درجاتهِ نحو الأعلى.. حيث غرفته ، و ذهنه يحاول جاهدًا التفكير في ذلك السبب الذي أسفر عن استقالة "سهير" ، و لكنهُ حاليًا لن يدع ذلك يشغل بالهُ كثيرًا ، سـ يتجاهله حالما يستقر الوضع قليلًا ، حينها سيسعى حتمًا لاكتشافهِ.
.......................................................................
كانت أعينها تفيض من الدمع حتى أغرقت المصلاة و لسانها لا يكفّ يلهجُ بالدعاء من أجل فلذة كبدها ، تلك التي حُرمت السعادة منذ وقت طويـل ، لم تعلم كم مر عليها من الوقت تحادث ربها بـ قلبٍ مفطور ، و دموعٍ حارقة ، و حينما شعرت أنها اكتفت ، رفعت رأسها عن المصلاة لتنهي صلاتها بـ التشهد الأخير ، سلّمت ثم نهضت عن الأرضية و هي تسحب المصلاة ، و قامت بـ طيّها و رؤيتها مشوشة بسبب تلك الدموع التي تكدست بعينيها ، نزحتهم بـ أطراف أصابعها و هي تترك المصلاة جانبًا ، ثم سحبت كتاب القرآن الكريم ، و جلست تقرأ منه بـ خشوعٍ بنبرة حاولت ضبطها و ألا تجعل تلك الاهتزازة التي صاحبت بكائها تسيطر عليها ، كانت تستمد من آياتهِ قوة ، و من أحرفه المباركة انشراحًا حطّ على قلبها فـ أزاح الظلمة الحالكة التي أصابته ، كان قد أصابها القنوط التام ، حتى اقشعر بدنها حين صادفتها تلك الآيـة و كأنها مُوجهة لها " قُل يا عِباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا ، إنهُ هو الغفور الرحيم"
اطبقت جفنيها فـ شقت الدموع طريقها مجددًا على وجنتيها ، و لكنها غير تلك الدموع التي ذرفتها ، إنها دموع أكثر صلابة ، دموعًا انقشع دفئها و قد شعرت أن الله ربط على قلبها ، لـ تصبر و تحتسب .
....................................................................
سحبت "ولاء" الملعقة لتقوم بـ تقليب مشروب الشاي الدافئ بعدما أنهت إعداده و قد شعرت بـ الصداع يكاد يفتك برأسها تمامًا ، سحبت مقعدًا من حول الطاولة المستديرة الصغيرة التي تتوسط المطبخ ، و اعتلته و هي تمسك بحذر بـ كوبها الزجاجيّ محاولة استمداد الدفء منه ، استندت بمرفقها على الطاولة ثم راحت تدلك جانبيّ رأسها في محاولة بـ الطبع فاشلة منها في ازاحة ذلك لصداع عن رأسها ، زفرت بوهن و هي تعيد القبض على كوبها و هي تهتف:
- أوف!.. هو الصداع ده ملوش أهل يسألوا عليه!
سحبت هاتفها بكفها الآخر و راحت تتفقد آخر الأخبار ، و لكنها لم تجد جديدًا ، نقرت على الزر الجانبي لتغلقه و قد تهدل كتفيها بقنوط ، و تركته جانبًا ، التقطت مسامعها أصواتًا مدوية اثر الطريقة العنيفة في استخدام ما يقع بصره عليه ، علمت على الفور أنه والدها.. فـ حانت منها التفاتة نحو باب المطبخ و قد تأففت من ذلك الوضع الذي بات لا يُحتمل لـ والديها ، ثم نهضت و دنت من الباب لتغلقه عليها محاولة أن تنأى بنفسها و لكن هيهات ، و حالما أوصدته استندت بظهرها عليه مُطبقة جفنيها فـ لم تلوح غير صورتهِ في الأفق ، إنهُ أملها الوحيد!.. لم تذكر أنها فشلت في إقناعهِ من قبل ، و لكنها سريعًا ما نزحت تلك الأفكار عن رأسها و هي تفتح عينيها لتمضي نحو الطاولة مجددًا:
- انتي ناسية عمل إيـه!.. انتي اتهانتي على ايديه ، كفاية أوي اللي حصلك
و سحبت كوبها ثم رفعته إلى شفتيها و كادت ترتشف منه و لكنها شعرت بـ تأنيب الضمير ، فوضعته جانبًا و هي تردف و كأنها تجيب على سؤال عقلها:
- لأ مش كرامتي أهم من أختي!.. بس هعمل إيه يعني ، هروح أتذل له عشان يساعدني ، و هو هيعرف يعمل إيه أصلًا! احنا حتى مش لاقيينها !
و نزحت تلك الفكرة تمامًا عن عقلها و هي تسح كوبها مجددًا و شعرت بالرتشاف منه ، ثم أبعدته عن شفتيها و هي تهتف متهكمة:
- و أكيد هو مش زي ابن عمه ، و لا هيعرف حتى يلاقيها ! و جوزها هو اللي هيلاقيها!
و اختلطت نبرتها بالتوجس :
- ساعتها الله أعلم إيه اللي ممكن يحصل!
و سحبت الهاتف من جديد، مررت إبهامها متجوّلة في أحد مواقع التواصل الاجتماعيّ، محاولة إلهاء نفسها عن التفكير و لو لدقائق معدودة، و لكن.. توقف إصبعها عن التمرير عند صورة له أُرفقت بمنشورٍ نصيّ، تغضن جبينها و هي تنقر بسبابتها على الصورة لتكبيرها، تركت الكوب جانبًا، و راحت تسمح لنفسها للمرة الأولى بالتمعّن في ملامحهِ التي تحمل كمّا مريبًا من الصرامة و التصلّب، تجولت "ولاء" بعينيها على تقاسيمهِ، متأملة كل ذرة بوجههِ، حيثُ جبينه المجعد دومًا بحاجبيهِ الكثيفين المعقودين اللذين يعتليان عينين اختزنتا كمّا هائلًا من النيران الناشبة فيهما، فلاحت لها كجنان أُضرمت نيرانها بخضرتهما المتوقّدة تلك، انحناءة أنفهِ ، و شفتيهِ الغليظتين، و فكّه المتصلب، و صدغيه المُشتدين و كأنهُ يطبق أسنانهِ، و تلك اللحية الخفيفة التي تُفاقم وسامته و خشونته في نفس الآن، ابتلعت "ولاء" لعابها و قد بدت كالمسحورة و أعينها عالقة عليهِ لا تقوى حتى على صرفهما، ثم غمغمت متعجبة و قد شعرت بقلبها يتواثب بين أضلعها:
- مالي!.. إيه اللي بيحصل!
.................................................................
- ألف حمدلله على السلامة يا مستر يامن ،.. مكنش لازم تتعب نفسك أبدًا و تيجي لحد هنا ، احنا كان ممكن نستجوبك من المستشفى
ردد بـ ذلك فور أن دلف عليه ، فـ أومأ بحركةٍ خفيفة من رأسه لم تكد تُلحظ و هو يغمغم مستهزئًا:
- لا متتعبش انت نفسك!.. أنا قدامك
فـ أشار لهُ " بكر" بالجلوس و قد التوى ثغره بابتسامة لم تصل لعينيه هو يردف:
- اتفضل ارتاح
اعتلى "يامن" المقعد و جلس محاميه أمامه ، سحب "بكر" سماعة الهاتف و هو يسأله بجدية تامة:
- تحب تشرب إيـه؟
فـ أشار بكفه و هو يغمغم بصلابة:
- مش جاي عشان أشرب حاجة !
ترك الأخير السماعة و هو يشبك كفيه معًا ، راح يتأمل تعبيرات الجالس أمامه ، ثم أردف مشيرًا إلى كاتب المحضر على يساره:
- نبدأ؟
تشنجت عضلات جسده قليلًا و هو يجيب:
- يا ريت!
فـ شرع يُمسك بـ طرف العصا متدرجًا في الأسئلة:
- هل فعلًا بينك و بين زوجتك مشاكل؟
كان ردهُ غير متوقعًا حيث غمغم بصلابة و هو يناظره بنظراتٍ صارمة:
- أي علاقة بين الزوجين مبتخلاش من المشاكل!.. و لا إيـه يا حضرت الظابط؟
ارتفع حاجبه الأيسر و هو يتمعن بملامحه محاولًا سبر أغواره ، ثم أردف و هو يبسط كفيه :
- أكيد ، ده شئ وارد جدًا بين أي زوجين
مال "يامن" بعنقهِ للجانب قليلًا و هو ينظر نحوه بنظراتهِ الثاقبة ، فـ ضيق الأخير عينيه ثم استطرد بنبرة ذات مغزى:
- لكن يا ترى المشاكل دي وصلت لأن زوجتك تحاول تقتلك!؟
ارتفع جانب ثغره بابتسامة متهكمة قبل أن يردف بصوتٍ جامد:
- كـذب!
تغضن جبين الأخير مستفسرًا:
- أفندم
مال "يامن" بجذعهِ قليلًا ليكون أقرب إليه مدمدمًا بنبرة ساخطة:
- كل اللي اتقال كـذب!.
و أشار بـ سبابتهِ حيث موضع إصابته مستطردًا:
- مراتي كانت هتاخد الطعنة مكاني..مش هتقتلني !
فـ نظر نحوه بجمود قبل أن يردف بجدية تامة:
- بس اللي اتقال غير كده تمامًا!.. و من شخصين مش شخص واحد ، و أولهم عمك " كمال الصياد" اللي قدم البلاغ!
عاد "يامن" بظهرهِ للخلف مجددًا و هو يرتدي قناع الجمود التام ، متمتمًا بنبرة جليدية:
- عظيم!.. أنا بقى عايز أحرر محضر للشخص اللي دبر لقتلي.. "كمال الصياد"
.........................................................................
كان " فارس" يغلق أزار القميص الأخيرة حين فتح الباب فجأة و على حين غرّة ، فلم يُكلف نفسه عناء الحيود ببصرهِ عن انعكاس صورته في المرآة ، بل شرغ يغلق أزار معصم القميص و هو يردد بنبرة باردة:
- مش عيب يا مرات أبويا تدخلي كده عليا من غير ما تخبطي!
فـ مضت نحوه و هي ترسم ابتسامة مستهزئة على ثغرها متمتمة بتهكم:
- المرة الجاية يا روحي أوعدك إني هكسر الباب فوق دماغك
سحب المشط و شرع يُصفف خصلاتهِ البنية و هو يردف ببرودهِ الذي يستثير أعصابها:
- و أهون عليكي يا هدهد تكسري دماغي!
كزت بعنفٍ على أسنانها ، ثم هتفت بنبرة حانقة من بينهم:
- فــارس!
ترك المشط من كفه جانبًا و هو يلتفت نحوها مرددًا بنبرة جليدية:
- أفنـدم يا روح فارس!
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تغمغم بصوت ساخط:
- عمر فيـن؟.. و إيه حكاية الشنطة اللي بتحضرها عشانه دي؟ إيـه!.. عايز تبعد ايبني عني بالعافية
كان بروده الزائف أن يتلاشى تمامًا و لكنه تمسك بـ آخر ذراته و هو يتأمل ملامحها ، ثم تغضّن جبينه و هو يسحب خصلة من خصلاتها متمتمًا بتعجب:
- ايه ده يا هدى؟
انتفضت و هي تهتف بذعر:
- ها؟.. في ايـه؟
- دي شعرة بيضا!.. طب مش عيب على شعرك الأبيض ده تضحكي على ابنك و تملي دماغه بالكذب!
توسعت حدقتاها و هي مسلطة لبصرها مباشرةً في عينيه ، لم تكترث لكلماتهِ الأخيرة ، بل لم تستمع إليها من الأساس.. سحبت خصلتها من كفه و هي تهتف بعدم تصديق:
- شعرة بيضا ازاي!.. انت بتضحك عليا أكيد ، مستحيـل!
تراجع للخلف ليسحب سترته و سلسلة مفاتيحه و هاتفه ، ثم هتف محاولًا مواراة ابتسامته الشامتة:
- آخر مرة روحتي فيها البيوتي سنتر كانت امتى يا هدهد؟.. لازم تتصرفي و تصبغي شعرك تاني!
ازدردت ريقها و هي تفكر بكلماته ثم غمغمت و هي تستدير لتلج خارجًا و هي تقول :
- صح!.. انت معاك حق ، فعلًا لازم أتصرف
و فور خروجها عن الغرفة ، اكفهرّ وجهه و هو يتابع طيفها الذي تلاشى ، شرع يرتدي سترته وهو يكاد يبصق من فرط اشمئزازهِ منها أثناء غمغمتهِ:
- ظلمك اللي سماكي أم!
...............................................................
كان " مهدي" كمن سُكب دلوًا من الماء البارد فوق رأسه بعد كلمات رب عمله الأخيرة ، توسعت مقلتاه و وهو يرمقه بشدوه ، بينما تجعد جبين " بكر" اثر تقطيبه و هو يردد مستنكرًا:
- تدبير للقتل!.. في عمك
أومأ و هو يردد بصوتٍ واثق:
- بالظبط كده ، عمي أساسًا مكنش موجود وقت الحادث عشان يتهم مراتي و أقدر بكل سهولة أثبت ده!
انحلت عقدة حاجبيه قليلًا و و يردف باهتمام:
- ازاي؟
فـ غمغم "يامن" ببساطة و هو يشير بنظراته القاتمة:
- كاميرات الشركة!.. " كمال" كان في شركة " الصيـاد"
ضمّ الأخير شفتيه معًا لثوانٍ قبل أن يتمتم مستوعبًا:
- تقصد ان" كمال الصياد" عمك ، قاصد انه يوجه التهمة لـ زوجتك، و هو نفسه اللي متفق مع قاتل مأجور عشان يقتلك؟
أومأ برأسهِ قبل أن يردف بصوتٍ قاتم:
- بالظبط
ضاقت عينا الأخير و هو يردف بلؤم:
- أعتقد ان للحكاية علاقة بـ قاتل والدك!.. سمعت ان زوجتك "يارا حسين الحديدي" هي نفسها بنت " حسين الحديدي" اللي اتُهم زمان بقتل والدك
احتقنت الدماء في عروقه و هو يكور قبضتهِ الساكنة فوق ساقهِ ، صرّ بعنفٍ على أسنانه قبل أن يغمغم من بين أسنانه الملتصقة:
- تقدر تقول كده
- و مش غريبة انك لما تيجي تتجوز متفكرش غير في البنت دي؟!
أشار بنظراته و قد تشنجت عضلات وجهه و هو يردد بنبرة واقعية لا تكاد تصدق أنها كذبًا:
- لما قلبي حبها و اختارها مسألش عن أبوها و لا عيلتها و لا الماضي المتعلق بيها! الحب مبيفهمش الكلام اللي بتقوله ده يا.. يا حضرت الظابط!
بدا و كأنه اقتنع بكلماتهِ ، فـ أومأ برأسه و هو يردف:
- على العموم ده مش موضوعنا حاليًا ، لو بتفكر تحرر محضر فتقدر تعمل ده ، ننتهي أولًا من التحقيق
ارتخت عضلات "يامن" قليلًا قبل أن يدمدم:
- عظيم
حمحم "مهدي" قبل أن يتمتم محاولًا لفت انتباههِ إلى ما يقوم به:
- احم.. يامن بيه
منحهُ "يامن" نظرة صارمة من زاوية عينه فصمت الأخير و هو يُطأطأ رأسه مُطبقًا جفنيه ، فـ وجه " بكر" سؤالهِ التالي:
- حاليًا قدرنا نفهم سبب كذب " عمك" و اتهامه الباطل لزوجتك!.. لكن في كلام تاني !
أدرك من كلماتهِ المتوارية مقصده ، فـ توهجت نظراته و هو يحرفها نحوهُ ، فاستأنف الأخير بنبرة ذات مغزى:
- زي مثلًا كلمات " عمر الصياد" .. و اللي كان الشاهد الوحيد في القضية  ، و كان موجود بالفعل وقت وقوع الجريمة و ...
ضَجِر من مراوغتهِ فـ :
- يا ريت تدخل في الموضوع يا حضرت الظابط !
حمحم قبل أن يُلقى بسؤالهِ مباشرة:
- ايه ردك على الاتهامات الموجهة لزوجتك بخيانتها ليك ! و إنها اتفقت مع عشيقها عشان هو اللي يقتلك!.. أو إنها حاولت تقتلك بعد ما اكتشفت خيانتها لو بنتكلم عن شهادة "عمر"؟
كاد يُهشم أسنانه من فرط إطباقه عليها ، و ابيضت مفاصل أصابعه و هو يكورها مشددًا من إحكامهِ عليها ، ثوانٍ مرت قبل أن يتحكم ببركانهِ الذي يهدد بـ الثورة في أي دقيقة قبل أن يميل بجذعهِ للأمام مسلطًا لنظراتهِ التي قدحت شررًا عليه مرددًا بصوتٍ متشنج و قد اصطبغت بشرته بالحمرة الفاقعة:
- اللي لسانه اتجرأ ينشر كلام زي ده على مراتي.. و اللي خياله اتجرأ يفكر انهُ يتهم مراتي بحاجة زي دي!..أنا هعرفه
تقلصت المسافة ما بين حاجبيه و هو يستفسر :
- قصدك ايـه؟ وضح أكتر
عاد بظهرهِ للخلف رافعًا ساقًا فوق الأخرى و هو يهتف بنبرة واثقة:
- أقصـد ان مراتي بريئة من أي تهمة اتوجهت لها! أنا قدامك أهـو ، و بقولك ان المشكلة اللي حصلت بيني و بين مراتي ملهاش أي علاقة بالخيانة ، و إن اللي دخل أوضتي لما حاول يقتلني مراتي حاولت تنقذني!
سحب شهيقًا عميقًا زفره بتروٍ قبل أن يردف:
- تمام ، أحب أبلغك بـ...
اقتطع صوته صوت طرقات على بابهِ فـ تغضن جبينه و هو يرفع نظراتهِ قائلًا بصرامة:
- ادخـل
دلف العسكري و دنا من " بكر" ثم انحنى عليه و هو يهمس لهُ بشئٍ ما في أذنهِ ، و كأنه يبثّ رِسالة من أحد الأشخاص بالخارج ، فـ تغضن جبين "يامن" و هو يتابعه بتشككٍ ، ابتعد "بكر" قليلًا ليشير لهُ بنظراتهِ الصارمة مغمغمًا:
- تمام.. اخرج انت!
ابتعد العسكريّ و خرج موصدًا الباب خلفه ، فـ تسلطت نظرات الضابط على "يامن" هو يستند بـ مرفقيهِ على سطح مكتبه و يشبك كفيه معًا قبل أن يردف بنبرة ذات مغزى:
- سمعت إن مخزن من المخازن الخاصة بعيلة الصياد اتحرقت؟
لم يبدُ عليهِ التأثر بما قاله ، أومأ "يامن" و هو يجيبه بنبرة صلدة:
- ايوة ، و متأكد إن كمال هو نفسه اللي حرق المخزن!
ضيّق عينيهِ و هو يتمعن النظر لملامحه مرددًا بتشكك:
- بس مش غريبة دي!.. اللي أعرفه إن عمك "كمال الصياد"، بيشتغل في شركتك و ...
قاطعهُ "يامن" و قد بدأ يفقد آخر ذرات صبرهِ:
- حضرت الظابط!.. عمي كمال مطالش من ورث أبويا أو جدي مليم، و أظن السبب واضح!
أومأ "بكر" بعدم اقتناع، ثم غمغم بشئ من المكر:
- طب و ليه يحرق مخزن من مخازنك القديمة ليه؟ لما هو ممكن يحرق مخزن من المخازن الجديدة و ده يتسبب بخساير جسيمة!
حك "يامن" بسبابتهِ ذقنه و هو يغمغم بنبرة حالكة:
- لأن ده كان مجرد تمويه مش أكتر!.. لفت انتباه، تهديد، كان بيحاول يوصلي رسالة ، و خلاص فهمتها!
عاد بظهرهِ للخلف، و قد بزغت نواياهُ على وجههِ، فرك " بكر" ذقنه بإصبعيّ السبابة و الإبهام، ثم دمدم:
- انت عارف إني مش مقتنع و لا لأ يا صيّاد؟
انحرفت زاوية ثغر "يامن" بابتسامة ساخرة و هو يُخفض ساقهِ لتلامس الأرضية، و تمتم:
- تؤ.. معرفش، أنا متأكد
و أشار "يامن" بعينيهِ لكاتب المحضر الذي دوّن أقوالهِ و هو يردد بلهجة قاتمة:
- اللي أنا عايزه هو اللي هيكون، برضاك أو غصب عنك يا بكر!
اشتعل وجههُ بحمرة قانية و قد استشاط غيظًا، ثُم سأل باستهجان:
- و ليه متقولش اللي حاول يقتلك مين و احنا هنتصرف!
قست تعبيرات "يامن" و قد اشتدت عضلات جسده ، و هو يقول بصوتٍ مستهزئ:
- أصل الصياد كان نفسه يطلع ظابط!
و نهض منتصبًا في وقفته قبل أن يميل قليلًا ليستند بكفيه على سطح المكتب ، مسلطًا نظراتهِ التي باحت بـ الكثير على عينيّ " بكر" مباشرة ، و هو يردد بصوتٍ حازم:
- أقدر أحرر المحضر و أمشي؟.. و لا لسه في أسئلة تانية؟
كان التحقيق إلى حدٍ ما هادئًا ، و لكنه بحلول الآن على العكس تمامًا ، حيث تبادل كلاهما النظرات المتحدية و دام ذلك لثوانٍ ، تابع "مهدي" ما يجري بنظراتٍ قلقة ، و لكنهُ تنفس الصعداء حين نظر يسارًا نحو كاتب المحضر الذي أومأ برأسهِ ، ثم سحب الدفتر من أمامه و قلمًا ليضعهم أمام "يامن" و هو يردد بصوتٍ مغتاظ:
- تقدر طبعًا ، محتاجين بس امضتك على أقوالك ، و بعدها تقدر تحرر المحضر ضد " كمال الصيّاد"
................................................................
ضمّت طرفي السترة معًا و هي تحاول أن تستمد الدفء منها ، كانت قد تركت ساعدها أعلى سطح المكتب و استندت برأسها عليه، عقب أن تجرّعت كوب المشروب المهدئ كاملًا، أنى لهُ بهذا؟.. أن يُدبر ما هو مخالفًا للقانون، بل و يجعل رجال المخفر تحت إمرتهِ و كأنه يمتلكه؟ أبلغ نفوذهِ للحد الذي يجعلهُ يهاجم شرطيّ في منتصف مكتبه، بل و يوجّه له الأوامر و كأنهُ خادمًا لديه، و كيف سمحوا لأنفسهم بأن يترأسهم بذلك الشكل اللعين؟.. أيعقل أن يتخلوا عن أمانتهم فقط من أجل بضعة وريقات فانية؟
داهمها شعور تام بـ التيه و الفقد ، و لكن حالما اخترق عبقه العالق بسترته أنفها ، تغضن جبينها و هي ترفع رأسها عن ساعدها لتحدق بها ، تأملتها مطولًا و سريعًا ما عادت تدفن رأسها مجددًا ، لم تعلم كم مر عليها من الوقت ، و كم تحركت عقارب الساعة و هي على نفس وضعها ، حتى أنها كادت تستسلم لأكثر من مرة لسلطان النوم محاولة أن تنسحب من هنا ، و بالفعل.. دقائق و كانت تغرق في سُبات عميق.
استجاب لـ رغبتهِ بالدلوف إليها وحده ، و ظلّ هو و " مهدي" خارجًا ، فـ خطا "يامن" للداخل ، أدار المقبض و دلف فتعجب السكون المُطبق ، تسلطت نظراته عليها ثم ردد و هو يدنو منها بصلابة:
- قومي يا بنت حسيـن ، هنمشي من هنا!
و لكنها لم تستجب لهُ ، فـ تغضن جبينه و هو يخطو نحوها ، انحنى عليها فـ استمع بوضوح لانتظام أنفاسها ، فـ امتد كفه ليحتوى كتفها بضغطةٍ خفيفة حثها بها على الاستفاقة:
- قـومي!
انتفضت فزعة و هي ترفع رأسها عن ساعدها متمتمة بتحشج:
- هاه!.. في إيـه
بعث لها نظراتهِ الجامدة و هو يقول بصوتٍ صلد:
- اهدي!
فـ سألته بتيهِ تام و هي تحرف نظراتها الهلعة بين عينيه:
- أنا فيـن؟
أجابها و هو يسحب ساعدها ليجبرها على الوقوف:
- في القسم! تعالي.
ازدردت ريقها و هي تحاول جاهدة أن تتحمل ثقل جسدها:
- قـ..قسـم!.. حصل إيـه؟
سار و هو يسحبها بجوارهِ من ساعدها قائلًا :
- محصلش حاجة ، متشغليش بالك كتير!
و خرج من الغرفة و هو يشير بعينيه لـ "مهديّ" فـ أومأ الأخير و هو يمنحه نظرةً واثقة ، ثم مضي من أمامهما مصطحبًا لها معهُ ، و فور اختفائهِ طرد "مهديّ" زفيرًا حارًا من صدره ، و هو يهز رأسه استنكارًا ، فلم يقاوم "هِشام" فضوله و هو يسأله:
- إيـه؟ إيه اللي حصل
رفع الأخير نظراته القانطة إليه و هو يردد:
- حاجة مكنتش أتوقعها أبدًا يا هشام بيه!
تغضن جبينه و هو يستوضح:

في مرفأ عينيكِ الأزرق Opowieści tętniące życiem. Odkryj je teraz