"الفعل التاسع و السبعون"

874 21 2
                                    

"الفصل التاسع و السبعون"
گانت في أوجِ حبورها، و هي تسير في أحضانهِ، عنقها مطوقًا بذراعهِ ، بمحاذاة الحاجز الحديديّ الفاصل بينهما و بين النيل، و كأنهما عاشقين متيمين، و على الرغم من كونهِ لم يتخلَ عن جمودهِ و صلابتهِ ، لم يتخلَ عن تلك الأفكار التي تتهاتف على ذهنهِ و قد ضجّ بها، و لكنها كانت راضية، يكفيها شعور أنه بجوارها.  
الجـو لا يزال باكرًا، و كم تعشق هي تلك الأجواء الصافية الخالية من البشر، التي تُشعرها و كأنهما وحدهما في الكون، لا يُضاهيهما أحدًا، و لا يصحّ أن يُقترن بهما، الشمس لم تكن حامية في ذلك التوقيت، بل ألقت بظلالٍ هادئة من نسيجها الذهبيّ على صفحة المياه الراكدة، فأشعلت بها بريقًا مضويّا، كحباتٍ من اللؤلؤ المتناثرة.
ألقت "يارا" نظرة إلى يسارها لتنعم برؤية ذلك المشهد، حيثُ الشمس و كأنها تُعانق من قبل السحب، و سربٌ من الطيور يخفقُ بجناحيهِ مرفرفًا و كأنهُ يتطلع في تلمس شمس الآفاق، انبعجت شفتيها بابتسامة ناعمة و هي تلكزه في رفقٍ لتحثُه على الالتفات، مستخدمة سبابتها في الإشارة:
- شـشـش.. بُص كده
انحرفت نظراتهِ الضجرة نحو ما تشير إليه، فتقلصت المسافة أكثر بين حاجبيه و هو يتمتم في استنكار:
- في إيه؟
- شايف المشهد جميل ازاي؟.. كأن السحاب غيران على الشمس!
حُلت عقدة حاجبيهِ و قد ارتفع أحدهما استهجانًا و هو يحرف نظراتهِ نحوها، فنظرت "يارا" إليهِ بعينيها التي برقتا بوميضٍ لامع، أنغض "يامن" رأسه في سخرية، ثم تمتمت و هو ينظر أمامهِ من جديد:
- مجنونة أكيـد!
راقبت "يارا" حركة شفتيه، فاشتدت ملامحها قليلًا و هي تسألهُ في احتداد:
- بتقول حاجة يا بيبي؟
اجتذب "يامن" عنقها إليهِ أكثر بحركة شبه عنيفة عبر ذراعهُ الملتفّ حول نحرها و هو يأمرها بـ:
- بطلي بيبي دي
فـ انفرج ثغرها بابتسامة مُتسعة و هي تردد مُكررة عدة مرات:
- طب بيبي.. بيبي.. بيبي.. بيبي.. بيبي!
التفت نحوها ليرمقها باشتداد، فاتسعت ابتسامتها و هي تشبّ قليلًا على قدميها لترطم بمقدمة رأسها جبينهُ بشئ من الرفق، ثم غمغمت بلهجة مُتيمة:
- بيبي!
أشاح بوجههِ عنها و شبح ابتسامة يرتسم على شفتيهِ، فـ وارها ببراعة و هو يحكّ بإبهام ذراعه الملتف حولها ذقنهِ فتابعت حركتهِ تلك بزرقاوتيها الوامضتين، و بلا تردد.. امتدت أنامها لتعبث في بصيلات ذقنهِ و هي تبتسم في ابتهاج لما تفعل، أخفض "يامن" نظراته لينظر نحوها من طرفه، و على حين غرة كان يقضم طرف إصبعها لتكفّ عما تفعل، فسحبته و قد عبست ملامحها، و وبّختهُ باستنكار:
- أي.. إيه الرخامة دي يا يامن
فنظر أمامهُ ببرود، ثم أجابها باستخفافٍ و هو يشدد من قبضته على عنقها:
- أيوة كده.. اتعدلي!
فتحدتهُ بقولها و:
- طب بيبي!.. هه
تجهم وجههُ و هو يلتفت نحوها لينظر لها شزرًا، خلع عنهُ نظارته الشمسية التي تحجب عيناه ثم ردد محذرًا إياها:
- يارا.. من غير هزار، لو سمعت بيبي دي منك تاني فـ...
ضاقت عيناها في تحدٍ و هي تتدمدم:
- هتعمل إيه يا بيبي؟
- كـده
و اختطف قبلة عابرة من شفتيها فشهقت و قد تلونت وجنتيها بالحمرة متلفتة حولهما، لكمتهُ في صدرهِ و هي تعنفه باحتداد:
- احنا في نص الشارع
فـ أشاح بوجههِ عنها و هو يضع نظارته مجددًا مدمدمًا بلا اكتراث:
- الشارع فاضي قدامك.. و لو كان مليان، إيه يعني؟
و نظر نحوها من خلف زجاج نظارتهِ و هو يشير بعينيه في عبثٍ مرددًا:
- بيقولوا مراتي!
فـ انبعجت شفتيها بابتسامة رغم محاولاتها الجمّة للتظاهر بالعبوس، راحت تتهرب بنظراتها منهُ لتحدق في الآفاق، أزعج ضوء الشمس عينيها، فرمشت عدة مرات و هي تبتعد بناظريها عن النجم المُلتهب، حاولت أن تنظر مجددًا و لكنها أُجبرت على الحيود ببصرها، فتقلصت تعبيراتها و هي تنفخ في تأفف:
- أوف
تفاجأت بهِ يضع نظارته الشمسية القاتمة على عينيها عقب أن خلعها، فاتجهت أنظارها نحوهُ و هي تتلمسها بأطراف أناملها، حينما كان هو ينظر أمامهُ فرددت مُشاكسة على الرغم من كونها لا تناسبها و ثغرها يتزين ببسمة مُبتهجة:
- انسى إنك تسترجعها بقى، خلاص بقت بتاعتي!
نظر نحوها من طرفهِ و تلك الابتسامة المتوارية تعيد تزيين ثغرهِ، مرر "يامن" إبهامهِ على وجنتها و هو يستأنف سيره مشيحًا بوجهه، فاتسعت ابتسامتها أكثر و هي تلتقط بعينيها ابتسامتهِ التي يبالغ في إخفائها، ثم مرّغت وجهها في أحضانه أكثر و هي تتشمم عبقهِ الفريـد و الأحب إلى حاسة الشمّ لديها.
...............................................................
متيبسًا.. بصرهُ شاخصًا لا يكاد يصدق ما يراه بأمّ عينيهِ، فغر شفتيه و قد تهدّل كتفيهِ من فرط الصدمة التي تلقّاها كالشهب المتساقطة فوق رأسه، حدّق "عُمر" في القصر.. أو لنكن أكثر دقة في بقايا القصر المُتفحم، و كأنهُ يقف على الأطلال، بقايا دارهِ الذي أينع بهِ، و قضى به سنواتهِ التي تكاد تكون ثمانية عشر، رمش بعينيه عدة مرات علّ ما يراهُ يُشيد مجددًا، علّ تلك الأساسات تعيد بناء نفسها بنفسها في لمحِ البصر لتُكون قصر عائلة الصيّاد الذي انتمى للجذور، و لأجداد أجدادهِ و توارثه جدًا من وراء جدّ و أعيد إصلاحهِ ليكون على أحدث طراز مع كل جدٍ يورثه، و لكنها أضغاث أحلام.. فـ القصر بدا لهُ و گأنهُ إنهار إلى جُهنم.
انعقد حاجبيهِ و قد تجاوز صدمتهِ التي طالت و امتدت لدقائق عِدة، أطبق "عُمر" على أنامله و هو يرمقه بسوداويهِ المتوقدتين، فـ حتى ذلك الذي ضمّه بين جدرانه قد ظعنهُ، و ترك هو وحيدًا و كأنهُ لم يكن له رفيقًا يومًا.
.................................................................
هبط "فارس" الدرجات الفاصلة بين الطابقين و قد شعر ببعض القلق إذ لم يجد رفيقهِ في المنزل، و لم يجبهُ مجددًا على اتصالاتهِ الجمّة، فاستنبط شيئًا لم يستسغهُ مطلقًا، قرع الجرس عدة مرات في انفعال متمنيًا ألا يحدث ما يجول بمخيّلته، للحظة أصابه الندم.. إن أصاب تلك الفتاة مكروه بسبب رفيقهِ فلن يتمكن من تخدير ضميره الذي سيعذبه في صحوهِ و نومته، أطبق جفونه بقوة و هو يقرع الجرس مجددًا بنفاذ صبر، حتى فُتح الباب، فرّق جفنيه ليجد "مايكل" الذي يحمل قدح مشروب القهوة الممزوجة مع الحليب سريعة التحضير، شملهُ بنظراتهِ، ثم برح مكانه و دلف بخطى متلكئة، ازدرد "فارس" ريقه و هو يسأله بتشكك:
- بتعمل إيه هنا يا مايكل؟
و لكنهُ كان متجهمًا للغاية، توقف "مايكل" في منتصف الطريق و هو يرتشف من قدح قهوتهِ ثم عاد يبعدها عن شفتيه و هو يدس كفه بحيبهِ، لم يذق للنوم طعمًا خلال ليلتهِ الجافّة تلك، حتى دلف "فارس" و قد فرغ صبره تمامًا و هو يسأله صائحًا باستهجان:
- بتعمل إيه هنا يا مايكل؟
فانفعل "مايكل" فجأة.. قذف بقدحه و قد اصطبغت بشرته بالحمرة القانية و هو ينظر نحوه مستنكرًا تفكيرهِ، فسقط القدح متهشمًا و مصدرًا دوّي مزعج ، صاح  "مايكل" بسخط تام و هو يشير لنفسهِ:
- أأبدو بتلك القذارة لك حقًا فارس؟
توقف "فارس" امامهُ و هو يشمله بنظرة حامية، ثم ردّ على سؤاله بسؤالٍ:
- رهيف فين؟
تفاجأ "فارس" بتلك الدفعة العنيفة التي نالت كتفهِ فجعلته يتراجع خطوة واحدة للخلف و "مايكل" يهدر بهِ مطالبًا إياه بإجابة لسؤالهِ:
- جاوبني!
تشنجت نبرة "فارس" و هو يهدر بهِ:
- في إيه يا مايكل.. انت اتجننت؟
فلم يكترث "مايكل" لقولهِ، قلّص المسافة بينهما و هو يشير لنفسه متابعًا باستهجان نضح من نبرته المنفعلة:
- أجبني فارس.. أهكذا أبدو؟
فسأل "فارس" مكررًا سؤالهِ بصرامة و هو يحدجهُ بنظرة قاتمة:
- البنت فين يا مايكل؟
أشاح "مايكل" بوجههِ عنه و هو يُطبق أسنانهِ، زفر متأففًا و هو يوليه ظهره بالكامل، حكّ "مايكل" جلد عنقه بانفعال، قبل أن يجيبه من بين أسنانه المضغوطة:
- she had gone faries!.. she had gone
ارتفع حاجب "فارس" الأيسر استنكارًا، ثم ردد متسائلًا بريبة:
- و ايه اللي خلاها تمشي فجأة؟
ابتسم "مايكل" بتهكمٍ مرير من زاوية ثغره، ثم ردد و هو يلتفت نصف التفاتة:
- You know.. you have a reason to ask a question like that
- أتعلم.. لك الحق بأن تسأل سؤالًا هكذا
و فتح ذراعيهِ معترفًا بأخطاء حياته السابقة و:
yes I did - عاشرت الكثير من النساء؟
و التفت إليه ليردد متابعًا باستنكار هازئ:
- But I don't think I have forced one of them before
 "لكن لا أعتقد أنني أجبرت إحداهنّ سابقًا فارس"
أشاح "فارس" بوجهه عنه و هو يزفر متأففًا، و شدد على سؤالهِ قائلًا:
- إيه اللي حصل؟.. مشيت ليه؟
دسّ "مايكل" كفيه بجيبيه و هو يقوس شفتيه معيدًا النظر أمامه، و أنغض رأسه مردًا:
- She wasn't going to stay here forever.. she solved her problems and it's over
" لم تكن ستبقى هنا أبد الدهر.. حللت مشاكلها و انتهى الأمر"
- بــس؟
بزغ صوته المتشكك من خلفه، فتأفف "مايكل" و هو يخرج إحدى كفيه من جيبيهِ ليحكّ عنقه مجددًا مستشعرًا اختناقه الذي يكاد يصل إليه، فردد "فارس" و هو يعقد ساعديه أمام صدره:
- و يا ترى مشيت من امتى بقى؟
بسط "مايكل" ساعده مزيحًا كفه عن عنقه لينظر في ساعة يدهِ، ثم ردد بنبرة خالجتها المرارة:
- If we are talking about when she left here, I don't remember.. but if we talk about the last time I stole a look at her, I'll tell you
- إن كنا نتحدث عن موعد رحيلها من هنا، فلا أذكر.. و لكن إن تحدثنا عن آخر مرة سرقت نظرة إليها، فسأخبرك
و دس كفه مجددًا في جيبه و هو يبتلع غصة عالقة في حلقهِ، و تابع و هو يطبق جفونه:
- Ten hours ago..fifty-three minutes..and I might miss the seconds, but I think it's twelve seconds.
- منذ عشر ساعات.. ثلاثة و خمسون دقيقة.. و لربما أخطئ في الثواني، و لكنني أعتقدها اثنيّ عشرة ثانية
 و برح محلهُ.. راح يخطو مجددًا نحو غرفة مكتبه صافقًا الباب من خلفهِ، ليلوذ بكتبهِ مستكملًا بحثه و تنقيبه، مستكملًا رحلته التي بدأها و أزمع على إنهائها بشكلٍ يليق، تتابعهُ نظرات "فارس" المشدوهة و قد فغر شفتيهِ، استصعب ذلك.. و شعر بعسر بالغ و هو يعترف لنفسه، لم تكن "رهيف" بالنسبة إليه مجرد امرأة يطمع في أن يقضي معها ليلتهِ ثُم ينبذها كغيرها، و لكن بدا أن رياح الحُب العاتية عصفت بقلبهِ، حُـب تلك الفتاة التي تختلف عنهُ في كل شئ، و كأنهما عالمين.. طريقين متوازيين لا يلتقيان أبدًا.
................................................................
- إذا رجعت بجن.. و إن تركتك بشقى، لا قدرانة فلّ، و لا قدرانة إبقى
تشنّج "يامن" في جلسته و هو يستمع للصوت الصادح في المقهى الراقي المُطل بواجهتهِ على النيل مباشرة، و همّ ينهض عن مقعده و هو يتأفف:
- كدا كتير أوي.. قومي
انفلتت منها ضحكاتٍ ناعمة و هي تكركر من ذلك التصادف العجيب، كتمتها بكفها و هي تستخدم كفها الآخر لتركهُ على كفهِ الخشن متلمسة ملمسه في محاولة لاستبقائهِ، مدمدمة من بين ضحكاتها الخافتة:
- خلاص بقى يا بيبي، مش أغنية هي
زفر حانقًا و هو يعتدل في جلستهِ المتحفزة، فرددت "يارا" و الابتسامة لا تفتؤ تحتلّ محياها مشيرة بعينيها لقدحهِ:
- اشرب القهوة يا بيبي، انت بتحب تشربها سخنة
نظر نحوها نظرة مطولة و قد ارتخت عضلات وجههِ المشدودة، إلا من جبينهِ المجعد دائمًا، ثم أخفض نظراته نحو كفها الذي يحتضن كفهُ بملمسها الناعم، زفر مُطولًا، ثم سحب القدح بكفه الآخر و شرع يرتشف منهُ، سحبت "يارا" كفها لتسحب هي الأخرى قدحا استعدادًا لاحتسائهِ، و لكنها سألت أولًا بجدية جلت على وجهها:
- يامن؟
انتبه إلى تغير تقاسيم وجهها، فتكّهن نوعًا ما بما ستلقيه على مسامعهِ، أشاح بوجهه عنها لينظر عبر واجهة المطعم الزجاجية و هو يترك قدحهُ جانبًا عقب أن ارتشف رشفة واحدة، فسألته "يارا" مجددًا و هي تعقد حاجبيها:
- انت متعرفش مكان نائف؟
أجابها بفتورٍ مقتضب و هو يسحب قداحتهِ و علبة سجائره من جيب سترتهِ:
- عارفه
تركت قدحها قبل أن تحظى برشفة واحدة منه و ذلك البخار يتطاير منهُ معلنًا عن سخونتهِ المفرطة، ثم سألته بتحفز مضيقة عينيها و هي تعتدل في جلستها:
- و سايبه؟
أشعل "يامن" سيجارته و دسها بين شفتيه متجنبًا النظر لزرقاويها، و عاد مجددًا يحدق في الواجهة المجاورة و هو ينطق بإيجاز غامض للغاية:
- لسه وقته مجاش!
فكانت نبرتها الرقيقة محذرة و هي تشير بحاجبيها المعقودين:
- يامن.. أرجوك كفـ...
فكانت نبرتهِ المُشتدة تزامنًا مع اشتداد تعبيراته و احتداد نظرتهِ نحوها و هو يُنفث دخان سجائره قاطعة بما يكفي ليقطع عليها ذلك الطريق:
- مات الكلام في الموضوع ده
تنهدت بضيقٍ أطبق على أضلعها و هي تحنى بصرها قليلًا عنهُ، تشنجت تعبيرات وجهها إثر استنشاقها دخان سجائرهِ، فرددت بعدائيّة نحو تلك المادة السامة التي يُفرط في احراق صدره بها:
- أوكي..نغير الموضوع
و أشارت نحو سجائرهِ مستأنفة:
- السجاير دي لازم تحاول تخف منها شوية
كانت نظرتهِ المستهجنة نحوها و قد التهبت عيناه كافيتين لتُصمتها، و لكنها راحت تبرر و هي تتهرب بنظراتها منهُ بنبرة حاولت جعلها ثابتة:
 أنا حامل دلوقتي.. و معتقدش أبدًا إني ينفع أشم ريحة السجاير دي، و كمان بتقلب لي معدتي و بتخنقني
و كأنها ضغطت على وترًا حساسًا لديهِ، أو نقطة ضعفه مثلًا، اضطر "يامن" على الرغم من حاجتهِ حاليًا لملأ صدره بمادة النيكوتين أن يحرر آخر نفس من سيجارتهِ، و بتجهمٍ غير راضي بسط ذراعه ليطفأها بالمنفضة و هو يزفر متأففًا، حكّ عنقه في انفعال حينما كانت هي تراقب فعلتهِ تلك و قد ارتخت تعبيراتها، افترّ ثغرها متزينًا بابتسامة متيمة و هي تتأمله و لكنه قطع عليها الفرصة و هو يلتفت برأسهِ، ليعود سيرتهِ الأولى و قد شغل أمرًا ما تفكيرهِ و:
 ـ يارا!.. حبيبتي انتي هون، و الله ماني مصدق عيوني!
اقتطع صوتها ذلك الصوت السوريّ الذي تحفظه عن ظهر قلب ، و انتشلها من أوج ضيقها ، التفتت لتلتمع عينيها ببريق غريب و قد افترّ ثغرها عن ابتسامة عريضة ، انتصبت لتردد بجذل :
ـ كيمو!.اخبارك إيـه؟
فـ كان ثغره منبعجًا كـ الأبله و هو يقول مادًا كفه منتظرًا أن يُحتضن بكفها:
ـ أنا مو مهم بالمرة، قليلي كيف حالك انتي
استشعر "يامن" تلك السخونة المتغلغلة لجسدهِ اثر اندفاع الدماء في عروقهِ حتى كادت تنفجر ، كزّ بعنفٍ على أسنانه و هو يتأمل ذلك الأشقر ذو الخصلات البنيّة الفاتحة و العينان التان اكتسبتا لون البُندق و اعتلاهما حاجبان بنيّان و اكتمل مظهرهّ الجذاب بـ طول متوسط، كان يرتدي الزي الرسمي للنادل و اسمهِ مُدونًا على صدر ثيابهِ، و بالرغم من كونهِ حسن الخلقة حتى أنهُ وسيمًا.. إلا أن "يامن" لم يعترف سِوى بـ قُبحهِ ، و ما كان كـ بنزين سُكب بغزارة فوق نيرانه هو أن بسطت كفها فكاد يُلامس كفه و هي تقول:
ـ أنا تمام الحمد لله، انت عامل ايـه؟
انتفخت أوداجهِ و توهجت بشرته و هو يهبّ واقفًا ليصافحهُ متعمّدًا الضغط على أصابع كفه و كأنه يعتصره في قبضتهِ و هو يردد بصوتٍ شرس:
ـ أهلًا!
أُجبر" كريم" على النظر اليه فتغضن جبينهُ متألمًا ثم تمتم بتعجبٍ جمّ:
ـ أهلين فيك
و حانت منه التفاتة نحوها:
ـ يارا مين بيكون هاد؟. ياللي بعرفه انك ما عندك أخ
اعتصر "يامن" اصابعهُ أكثر في قبضتهِ فـ تأوه الأخير مُعربًا عن تألمه و أصرف بصره عنها لينظر نحوه فكان يردد بصوتٍ محتقن:
ـ لا معندهاش فعلًا!.. جوزها
و تغضن جبينهُ و هو يشمله بنظراتٍ مزدرية ثم:
ـ مالك ياض خرع كده ليه؟. ما تنشف كده
تغضن جبين "يارا" و هي تتابعه بنظراتٍ ضائقة، و احتدت حين حانت منه نظرةً نجوها فقابلت نظراته بـ الحنق، بينما ازدرد الأخير ريقه و هو يتمتم متألمًا:
ـ ايدي، اترك ايدي يا رچال
ترك "يامن" كفه و هو ينظر له شزرًا ، فسحبه "كريم" محتضنًا له بكفه الآخر بينما يناظرها بشدوهٍ و أعرب عن شعوره:
ـ يارا!.. هادا صحيح؟. اتزوچتي! و من دون ما بكون عندي خبر
اغتصبت ابتسامةً و هي تقول محاولة أن تبدو نبرتها عادية:
ـ سوري يا كيمو كل حاجة جت بسرعة
تلعثم و هو يحاول ترتيب حروف كلماته، مبديًا فرحتهِ الصادقة من أجلها:
ـ ما بعرف شو بقول، بس مبروك الك يارا ، عن جد كتير فرحتلك
أومأت ممتنة :
ـ تسلم يا كيمو، ربنا يخليك
افتر ثغره عن ابتسامة صافية جذابة و هو يمرر نظراته بينهم ، ثم اشار بكفهِ و:
ـ ليش واقفين؟.. اتفضلوا
فـ اعتلت "يارا" أولًا المقعد و هي تعقد ساعديها أمام صدرها وسط أنظاره التي تكاد تلتهمها حية ، و ظل واقفًا يقذفها شواظًا من عينيه فلم تتجرأ أن ترفع نظراتها اليه بالرغم من ذلك البرود الظاهري ، فـ أشار "كريم" اليه و هو يدمدم باحترام:
ـ اتفضل ارتاح!
ترك زفيرًا معربًا عن تأففهِ ثم اعتلى مقعده دافعًا زجاجة المياه أقصى اليسار ، عاد بظهرهِ للخلف و هو يشملها بنظراتٍ مزدرية، ثم التفت ليحدق بالنافذة ، تأملت ذلك العبوس المحتل ملامحه، فـ تنهدت بحرارة ، حتى انتبهت الى صوت" كريم" و هو يتمتم بمرح:
ـ شكله زوچك رچال بيحب الرياضة كتير، لك ايدي كانت رح تنكسر بايدك يا رچُل
التفت "يامن" ليشملهُ بنظراتٍ قاتمة جعلت الأخير يحمحم و هو يبتلع ضحكاته ، ثم ضمّ شفتيه ، بينما حاد "يامن" عنه و هو يقول بصوتٍ محتد:
ـ مش هنخلص و لا ايه يا هانم؟.. ما تشربي قهوتك خلينا نمشي
تشربت وجنتيها بحمرة الخجل من طريقته الغليظة معها أمام رفيقها، و لكن انتزعها من أوج خجلها صوته المرح:
ـ قهوة!.. يلي بعرفه إنك ما بتحبي القهوة أبدًا، لك شو هاد، اتغيرتي كتير يارا
- استغفر الله العظيم
كان صوتهِ الفاتر بينما يحل أزرار قميصه الأولى ، كوّر "يامن" أناملهِ ضاغطًا عليها بقسوة محاولًا كبح بركانه الذي يكاد يثور، حتى رددت "يارا" عقب أن حمحمت بحرج:
- احم.. انت بتشتغل هنا من امتى يا كيمو؟ مش كنت بتشتغل في المطعم "....." السوري؟
أومأ "كريم"، ثم ردد و هو يتذكر ما حدث معهُ و:
- إيه معك حق.. بس هلق أنا هون، يعني.. صارت مشكلة و اضطريت اترك الشغل
- عظيم
دمدمت بها بعفوية تامّة فراحت أنظارها المشدوهة التي صابها الخوف تنتقل نحو "يامن" الذي رنا إليها بنظرة مطولة متوعدة، و لكن انفلت زمامهِ تمامًا و هو يرى كفّ ذلك الرجل يربت على كفها المسنود أعلى الطاولة أثناء قولهِ المبتهج:
- إيه.. معك حق عن جد، هاي أعظم صدفة ببدأ فيها اليوم
هبّ "يامن" على قدميهِ و هو يطبق بإحدى كفيه على ياقته مجتذبًا لها إليهِ جائرًا بشراسة جعلت من حولهم يتلفتون إليهم:
- انت اتهبلت في عقلك يالا؟
نهضت "يارا" من فورها و قد ارتكبت للغاية و هي تحاول تهدئتهِ:
- محصلش حاجة يا يامن، خلاص
و ردد "كريم" و هو يرفع كتفيهِ متعجبًا رد فعله المبالغ فيه:
- لك شو بك يا رچُل؟.. هاي متل أختي؟
انتبه إلى تلك ضغطتها الخفيفة على عضدهِ المتخم بالعضلات و هي تردد من بين أسنانها غيظًا:
- كفاية يا يامن
لم تنحرف نظراته نحوها، تقوس شدقيه بقسوة تامة و هو يحدجه بنظرات قدحت شواظًا، ثم دفعه بعنفٍ للخلف محررًا ياقتهِ، أخرج حافظة نقوده من جيب سترته و استل منها مبلغًا نقديًا لم يرهُ حتى، تركه بعنفٍ أعلى الطاولة و هو يزجرها بنظرة حامية آمرًا إياها بصوتهِ الهادر:
- امـــشي
رنت بنظرة محتدة إليهِ و قد تلون وجهها بحمرة غاضبة، سحبت بعنفٍ حقيبتها و هي تسارع بالفرار من هنا عقب أن اختنق صدرها بما يكفي لشعورها بالحرج التام أمام من حولها، و قد اخترق سمعها تعليقات عِدة و تهامز و تلامز أثناء عبورها لتصل لباب المطعم، حينما كان "يامن" يحدجه بنظرة أخيرة متوهجة، فردد مجددًا و هو يرفع كتفيهِ بسلاسة:
- عن جد هاي متل أختي.. ما بعرف ليش هيك عصّبت
و قبل أن يفتعل مشكلة أخرى أو يودي بحياتهِ من فرط احتدام الدمّ في أوردتهِ، شمله بازدراء قاتم و هو يستدير منصرفًا عن المقهى بأكملهِ، وجدها تخطو بخطى متشنجة نحو الباب فلم يقوَ على الانتظار ريثما يبتعدان حتى، راح يسحبها من عضدها إليهِ بحركة عنيفة و هو يردد مستهجنًا:
- ازاي تسمحي لنفسك تتكلمي مع الـ***** ده!
أجبرها أن تتوقف قبل أن تبلغ السيارة، فنظرة نحوهُ بلهيبٍ متقد و هي تصرخ بهِ مستهجنة:
- و انت ازاي تسمح لنفسك تزعقلي قدامه و قدام الكافيه كله!
فناطحها بالرأس و:
- و انتي ازاي تسبيه يلمس إيدك؟.. اتجننتي؟
و التفت ليحدج المقهى بنظرة مُسعرّة و هو يردد باستهجان:
- مين الـ****** ده؟
و كأن كل ما شعرت بهِ من غيظٍ و احتدام تلاشى، و لكنها تماسكت لئلّا تظهر ذلك و احتفظت بموقفها المتحفز و هي تردد باستنكار:
- واحد كان بيشتغل في مطعم كنت بروحله دايمًا و بعتبرهُ زي أخويا بالظبط و...
فجأر بشراسة مقاطعًا إياها و هو ينظر نحوها بلهيبٍ محتدم:
- دا عند أمك دا
فحذّرتهُ من التمادي:
- يامــن
فزجرها بنظرة حامية و هو يدفعها بعنفٍ ليسوقها أمامه نحو السيارة:
- بلا يامن بلا زفت.. امشي
فتح بابها و أجلسها في مقعدها ثم صفعه بعنف من خلفها، دار حول مقدمة السيارة ليستقل مقعده خلف المقود صافقًا بابهِ هو الآخر بعنفٍ مفرط، فنظرت نحوه باحتداد من طرفها، و زفرت متشنجة في جلستها:
- أوف
استمعت إليهِ يطلق سبابًا نابيًا من بين شفتيه و هو يدير المحرك، فنظرت نحوهُ باستهجان و:
- يامــن، الله
نظر نحوها نظرة من طرفهِ و هو يشرع في اقتياد السيارة مبتعدًا، فرددت مستخدمة كفها في التعبير عن حيرتها المغتاظة:
- انا مش فاهمة هو عمل إيه أصلًا، ده ملحقش ييجي جمبي!
فكان صوتهُ المحتدم كالرعد في دوّيهِ:
- و أنا كان المفروض أستنى أما يبوسك قدامي و بعدين أتكلم!
تأملت تلك الحمرة القانية التي غزت بشرتهِ، و ذلك اللهيب الذي يتقاذف من نظراته، و جبينهُ الذي تفاقمت تجعيدتهِ و قد صار حاجبيه كمسطرة مستقيمة، و عروق جبينه البارزة بوضوح، و انحرفت نظراتها نحو كفيه المتقبّضين على المقود و قد بزغت عروقهما الخضراء، فشعرت و كأن كامل غيظها يتبخّر في ثانية واحدة، ارتخى تقلص وجهها المُشتد، و تقوست شفتيها بابتسامة مُشرقة و هي تنظر نحوه، حادت نظرات "يامن" نحوها فأججت ابتسامتها تلك نيرانه أكثر، فراح يهدر باشتدادٍ مُفرط:
- أنا قولت حاجة تضحك؟
فباغتتهُ بسؤالها المشاكس و هي ترفع حاجبيها:
- انت غيران؟
أشاح بوجههِ ليحدق في الطريق أمامه و هو يقوس شفتيه إزدراءً متابعًا:
- أنا أغير من حتة ****** ميتقالش عليه راجل
فصدح صوتها المحذر و قد توسعت عيناها تعجبًا:
- يامـن!
فانفعل أكثر و:
- بـس.. مش عايز أسمع حاجة
تجهم وجهها مجددًا و قد احتدت نظراتها و هي تومئ برأسها في انفعال جليّ:
- ماشي يا يامن.. ماشي، هسكت
 و عفويًا راحت تتلمس معصمها لتخرج رابطة شعرها فتهمّ بعقد خصلاتها، و لكنها عبست أكثر و احتلّ الوجوم ملامحها و هي تخفض نظراتها نحو معصمها الخالي، قلبتهُ و كأنها تتيقن من خلوّهِن و بكفٍ مرتعش راحت تتلمس خصلاتها القصيرة للغاية!.
 اختنق صدرها بما يكفي، فأحنت بصرها و قد بزغت في عينيها نظرة ملتاعة، طردت زفيرًا حارًا من صدرها متحسرة على ما فقدت، ثم راحت تنظر من خلال زجاجها و قد نفرت عبرة رغمًا عنها من عينيها المشوشتين إثر تجمع العبرات فيهما دون سابق إنذار، اختلس "يامن" النظر نحوها فشعر بما يعتمل في صدرها و هو يتابع حركاتها، زفر متأففًا من فرط اهتياجهِ، و ما جعل قسوتهِ المفرطة عقب تصرفها تتبدد تلك العبرة التي لمعت على وجنتها اليمنى التي اقتنصها بنظراتهِ، أطبق جفونه طاردًا تنهيدة حارة، ثم أزاح إحدى كفيه عن المقود لينزح عبرتها براحتهِ متلمسًا بشرتها الناعمة و هو يردد ممتصًا حزنها:
- خـلاص
و ترك وجنتها.. راح يتلمس خصلاتها القصيرة ممسدًا عليها محاولًا تعزيز ثقتها بنفسها:
- شعرك كدا أحلى بكتير!
فنظرت نحوهُ بأعينها اللامعة و هي تتمتم بعدم تصديقٍ:
- بجـد؟
أومأ بحركة لا تكاد تلحظ دون أن ترتخى تعبيراتهِ المشدودة و هو يوزع نظراته بينهما و بين الطريق:
  و لايق عليكي جدًا!new look- بجد
انبعجت شفتيها بابتسامة مرتعشة و هي تعتدل في جلستها لتدنو بجسدها منهن و ارتكنت برأسها على كتفهِ و هي تحني بصرها فتشكوهُ إليهِ:
- مكنش لازم تزعقلي و تحرجني بالشكل ده
لفّ "يامن" ذراعه حول عنقها و هو يمسح بكفه خصلاتها القصيرة، ثم ردد بصرامة و هو يدير المقود:
- يارا
فهمهمت بعبوسٍ دون أن تنظر نحوه، أخفض "يامن" كفهِ لذقنها فأجبرها أن ترفع نظراتها إليه، منحها نظرة من طرفهِ، ثم ردد مُحذرًا من تكرار ذلك الموقف:
- اللي حصل النهاردة دا لو اتكرر مش هيحصل خير
ضغطت على أسنانها في حنقٍ مضاعف، و تجاهلت الرد عليهِ و هي تشيعه بنظراتها الساخطة، فردد "يامن" مُشددًا على كلمتهِ الحازمة:
- مفهوم؟
فـ أجابتهُ من بين أسنانها بإيجازٍ ملتهب:
- مفهوم
- عظيم
حاولت أن تتملص من ذراعهِ، و لكنه شدد على قبضته حول عنقها و هو يقول مستنكرًا:
- رايحة فين؟
- عايزة أقعد كويس.. الله
فأمرها باشتدادٍ:
- خليكي
نظرت نحوهُ باستهجانٍ من طرفها، ثم زفرت في حنقٍ تام لعدم اعترافهِ حتى بغيرتهِ عليها، إنهُ شخص كتـوم للغاية، أو لربما حتى هو نفسه لا يُفسر حقيقة مشاعره و لا يُبديها بها إن فعل.
 ليس مزاجيًا.. و لكنه ماهرٌ في ارتداء قناع البرود و التبلّد أحيانًا مواريًا ما يقبع في صدره من مشاعر محتدمة تكاد تطيح بالأخضر و اليابس، و حقهِ أن يفعل، هو تحمل ما لم يتحمله بشريّ، و لا يزال صامدًا في مواجهة ما أعتى، إن أفلت زمامهِ و انهار لحظة تكُن أسوأ لحظاته أكثرها بشاعة، فهو بسجيّته يكره مسمة الضعف، أو لنكن أكثر دقة، بسبب التربية الغير سويّة لكائنين لم يعودا على وجه الأرض، و لكنها تركا خلفهما تلك البذرة الخبيثة التي أينعت في داخله، و بات عسيرًا للغاية عليها أن تجتثّها.
 هي متيقنة أنه يعشقها حتى النخاع، و عشقهِ تنافى مع شخصيتهِ المريبة، فصار حبه أغرب، لم يعترف بهِ لها، و ربما لم يعترف بهِ لنفسه حتى،  و لكن يكفي أنه هُنا.. جوارها، ليس مُلتصقًا بها تحديدًا، فحينًا يكن بجسده جوارها، و لكن روحهِ بعيـدة عنها بُعد المشرق و المغرب، و يكفيها الآن أن روحهِ مرافقة لها، و إن كانت متأججة.. و إن كانت تعلم أنها لربما سيطولها من لهيبهِ، و لكنها فقدت السيطرة كليًا، و تركت الزمام فقط لتحظى بدقائق لربما لن تتكرر مجددًا ما حييت، ما دام "نائف" لا يفتأ حيًا يُرزق.
.................................................................
خرجت "رهيف" من غرفتها عقب أن استمعت لنداء والدتها المُتحفز، و قد ارتدت إزار الصلاة فوق ثيابها المنزليّة، تغضن جبينها و هي ترمق ذلك الرجل الذي حياها بابتسامة رزينة:
- أهلًا يا آنسة رهيف
أومأت برأسها و هي تردد بنبرة جادة:
- أهلًا بيك.. مين حضرتك
فرددت "سُعاد" نيابة عنه و ابتسامتها تكاد تصل لأذنيها:
- محامي مايكل يا رهيف
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا و هي تنظر نحوها، فردد المحاميّ بلهجة جادة:
- السيد مايكل بعتني عشان أخلص إجراءات نقل الأرض مع حضرتك
فغمغمت من بين شفتيها بذهولٍ مشدوه:
- الأ..الأرض!
تهالك جسدها على أريكة غرفة الاستقبال و هي ترنو بنظرة لنقطة في الفراغ، فجلس المحامي مجددًا و هو يهمّ بفتح حقيبته الجلدية السوداء اللون:
- أيوة يا آنسة رهيف
تغضن جبين "سعاد" و هي ترمق ابنتها باغتياظٍ، حمحمت لتجعلها تتنبّه إليها، و بالفعل انحرفت نظرات "رهيف" نحوها، تفهمت تلك النظرة الصارمة التي بزغت من عينيها، فقابلتها بأخرى مستنكرة، نهضت "رهيف" لتقف على قدميها، و استأذنت منهُ لدقائق:
- بعتذر منك.. ثانية واحدة و هرجع
و خرجت من الغرفة عقب أن قابلت نظرة "سعاد" المستوضحة بنظرة غامضة، خطت "رهيف" نحو غرفتها و أوصدت الباب من خلفها، بحثت هنا و هناك حتى وجدت هاتفها، فأجرت اتصالًا بهِ و قد عزمت على الإلمام بما يحدث.
.................................................................
المنزل بأكملهِ هادئًا و قد بدا و كأن كلاهما يغُطان في سباتٍ عميق، وجدتها "يورا" فرصة سانحة لتنسل من أحضان غرفتها، ولجت للخارج و هي تتفحص الوسط أولًا بحذر، و ما إن تيقنت إلى عدم وجد أحدهم في غرفة المعيشة تجولت براحة لتخطو نحو المطبخ، و قد أصابها الظمأ منذ سويعات و تحملتهُ فقط كي لا تلتقي بإحدى أفراد تلك العائلة  التي تعتبر نفسها لا تنتمي إليهم إطلاقًا.
 و أشبعت رغبتها أخيرًا، وقفت أمام البراد و فتحتهُ، أخرجت زجاجة مياه منه و شرعت تسكب لنفسها في كوبٍ زجاجيّ، أعادت الزجاجة للبراد و أغلقته، ثم راحت تروى عطشها حتى اكتفت، فتركت الكوب جانبًا، استمعت إلى رنين جرس الباب، فخشت أن يستقيظ أحدهما، خطت "يورا" من فورها للخارج هرعًا، و توقفت أمامه لتفتحه فيتوقف القارع، تغضن جبينها حينما رأت رجلًا عريض الصدر، مُشتد البنية، مهيب الطلّة، يقف أمامها، حينما كان "جاسم" يُبادر دون أن ينظر لعينيها بصوتٍ غليظ:
- فارس باشا باعت شنط ولاء هانم
 أفسحت "يورا" لهُ الطريق فترك "جاسم" الحقائب جوار الباب، و قبل أن ينصرف سألها بخشونة:
 - تؤمريني بحاجة يا يارا هانم؟
تقوست شفتيّ "يورا" بازدراء و احتلّ العبوس قسماتها، ثم علّقت مُصححة خطأهِ و هي تتوسط خصرها بإحدى كفيها:
- يورا!
تغضن جبين "جاسم" و هو يرفع نظراته إجباريًا لعينيها، و ضاقت عيناه في احتداد و هو يسأل مستوضحًا:
- أفندم؟
فرددت "يورا" مُشددة على اسمها:
- يـورا.. مش يارا، توأمتها
زمّ "جاسم" شفتيه و هو يردد بنفاذ صبر جافّ:
- يورا هانم.. تؤمري بحاجة؟
رنت بنظرة حانقة إليهِ و قد شعرت برغبة عارمة في صفق الباب في وجهه، و لكنها تحاملت و قد فكرت في أن تستغلّ الفرصة و مطلبهِ، فراحت تعرض عليه و تضيق عينيها في احتداد:
- أيوة.. تقدر تخرجني من هنا؟
أشاح "جاسم" بوجهه عنها و هو يحكّ صدغهِ، ثم قال بإيجاز:
- مقدرش.. معنديش أوامر بدا
و نظر نحوها متابعًا بخشونة:
- فارس بيه قال محدش يخرج من البيت إلا لما يكون على علم مسبق بده.. تحبي أسأله حضرتك؟
زمجرت "يورا" و قد تشربت وجنتيها بحمرة قانية، و لم تتردد في صفع الباب في وجههِ عقب قولها:
- لأ.. محبش!
و استندت بظهرها للباب و هي تكاد تنفث دخانًا من أذنيها، دقائق مرّت عليها و هي تحاول السيطرة على نوبة غضبها..
 حتى أطبقت جفونها و قد شعرت أنها تمادت في فعلتها، لم تكن تلك شخصيتها سابقًا.. إنها دومًا تملك قلبًا رقيقًا هشّا، تعامل الجميع بودٍ، و لا تتصرف بتلك الفظاظة مع حراستها أو حتى خدمها، و لكن الأحداث الأخيرة جعلتها شبحًا لنفسها، لا هي، فتحت "يورا" جفونها و هي تطرد زفيرًا حارًا من صدرها، ثم استدارت لتفتح الباب مجددًا، برح "جاسم" محلهُ و خطى نحوها و هو يسألها أثناء عقده لكفيه خلف ظهرهِ، و كأن ما فعلتها منذ قليل عاديًا للغاية لم يعبأ بهِ:
- خير يا يورا هانم؟.. محتاجة حاجة
انعقد حاجبيها و هي تردد مستنكرة بلهجة شابها الشدوه:
- انت لسه ممشيتش؟
نفى "جاسم" برأسه و ردد بجمودٍ:
- أنا مسؤول عن الحراسة هنا،.. أي حاجة حضرتك محتاجها إديني خبر و أنا أوصل ده للرجالة تحت ينفذوه
ارتفع حاجبيها تعجبًا و قد حلت عقدتهما، ثم رددت باستنكار و قد تقوست شفتيها هازئة:
- كل دا عشان مهربش؟
فكان ردهُ جادًا للغاية بصوتهِ الأجشّ:
- معتقدش.. دا لازم لسلامتكم
ارتفع حابها استنكارًا و هي تغمغم في تهكمٍ ساخر:
 - انت ليه محسسني إننا مُستهدفين!
- لأن دي الحقيقة.. خاصةً بعد ما بيت "حبيبة" هانم اتحرق
ضاقت عينا "يورا" و قد تحفزت خلاياها تمامًا، ثم سألتهُ باستهجان:
- قصدك.. إن البيت اتحرق بفعل فاعل؟
ارتفع كتف "جاسم" و هو يردد مجيبًا:
- أكيد مش حادث
تحفّزت خلايا "يورا"، أولت "جاسم" كامل تحفّزها و راحت تدمدم بلهجة قاتمة:
- مين اللي عمل كده؟.. انت تعرف؟
أومأ "جاسم" و هو يجيبها بسلاسة:
- نائف.. معرفش حضرتك سمعتى الاسم ده أو لأ
فغرت شفتيها و قد شحب لون وجهها و هي تتراجع عن محيطهِ خطوة للخلف، كتمت فاهها بكفها و هي تحملق فيهِ و كأنه أسقط دلوًا من الماء المثلج فوق رأسها، كررت "يورا" اسمه و هي تزيح كفها عن شفتيها مدمدمة و عيناها المتوسعتين تضيقان في احتداد:
- نـ..نائف؟
و زاغت عيناها و قد تشبعت وجنتيها بالحمرة المنفعلة مجددًا و هي تتابع بشدوهٍ شابهُ الغلّ:
- نائف.. هو اللي قتل بابا؟!.
.............................................................
إن قارن حياتهِ كلها بتلك اللحظة لن يجد ما تضاهيها، لم يقوَ على السيطرة على خفقاتهِ و هو يحدق بترقب في شاشة جهاز السونار منتظرًا أن يرى طفلهُ القادم، حبس أنفاسهِ في صدره و هو يتطلع إليهِ، انحرفت نظراتهِ نحو الطبيبة التي رددت و هي تشير بسبابتها نحو نقطة ما بالشاشة التي لم يتمكن من تحديد ما بها:
- شايفين البيبي؟
ارتكز بصر "يارا" على الشاشة و قد تهجت أنفاسها من فرط الحبور الذي تفاقم بداخلها، انبعجت شفتيها بابتسامة ارتعشت من فرط تأثرها و هي تردد بصوتٍ حاني:
- لسه صغير أوي
دقق "يامن" بالشاشة و هو يغضن جبينهُ أكثر، نقل بصره لبطنها المكشوف أمامهِ و للجهاز مجددًا و هو يسأل مشيرًا بسبابتهِ باستنكار:
- دا؟
رفعت "يارا" بصرها نحوه و هي تتمتم باغتياظٍ صاحب نبرتها:
- بردو مصمم إنه ولد
رآهُ ضئيلًا للغاية.. و تسبب ذلك بحنقهِ، مازال عليه الانتظار و الانتظار ريثما يراهُ شابًا أمامهِ يخلد نفسهُ فيه قبل مماتهِ المحتم، و لكنها لربما أحلام لن يكتب له تحقيقها، زفر بانزعاج و هو ينظر نحوها، و ردد و هو يلكزها بشئ من الرفق في كتفها:
- كلي.. كلي شوية يمكن يكبر!
نظرت "يارا" للطبيبة التي اتسع مبسمها بابتسامة عريضة، ثم رددت استنكارًا و هي تشير بكفها:
- يا ربــي!.. أخلفهولك راجل يا يامن بالمرة
- يا ريت
غابت ابتسامة الطبيبة و هي تنظر نحو الشاشة ممعنة النظر فيها ، ضاقت عيناها بتركيزٍ و قد لاحظت شيئًا ما، ازدردت ريقها و نظراتها تنحرف نحوها، فقررت ألا تفسد تلك اللحظة ريثما تتيقن مما تفكر بهِ، تقوست شفتيها بابتسامة مرتعشة و هي تنهض عن جلستها، و ناولت "يارا" بضع مناديل ورقية و هي تدمدم:
- تقدري تقومي يا مدام يارا
لاحظ " يامن" ذلك التغير البادي الذي طرأ عليها، فتجعد جبينه أكثر و هو يتابع تحركاتها كاملةً، خاصة عينيها محاولًا سبر أغوارها، حتى أولتهما ظهرها لترحل، و قبل أن تلاحظ "يارا" نظراته نحوها فتختلق مشكلة من العدم غير متفهمة ما يدور بخلده، أخفض نظراتهِ نحوها، رفعت "يارا" وجهها نحوه متأمل عبوسه البادي، فانعقد حاجبيها و هي توبّخه بازدراء:
- دا منظر واحد لسه شايف ابنه في السونار؟
 رمقها بنظرة غامضة، ثم برح محله تاركًا إياها، فتغضن جبينها بانزعاج و هي تعتدل في جلستها لتضبط ثيابها، و من ثم تتبعهُ، مازالت هناك جوانبًا غامضة إليها على الرغم من كونها تعتقد نفسها تفهمهُ جيدًا، و لكنها أحيانًا يتعسر عليها إدراك ما يجول ببالهِ، أو تفسير انفعالاته المفاجأة، أو تبدل ملامحه المفاجئ، كل ثانية تمضيها برفقته لا تزال تكتشف فيها خِصلة جديدة عنه، أنغضت "يارا" رأسها و هي تمسح على بطنها، موجهة حديثها لطفلها الكائنُ بها:
- بابي ده مُتعـب.. متعب جدًا
 حالما جلست الطبيبة خلف مكتبها على مقعدها الجليديّ، ولج "يامن" خارجًا من الغرفة الملحقة بها للغرفة الرئيسيّة، حتى توقف أمام مكابها، مال برأسهِ للجانب قليلًا ليمعن النظر في ملامحها، ثم سأل بصوتٍ صلد:
- ابني ماله يا دكتورة؟
نظرت نحوهُ و هي تحاول رسم ابتسامة على ثغرها، فباتت مرتجفة و هي تخشى إخبارهِ بحقيقة الوضع، إذ هي على علمٍ تام بتلك الشخصيّة التي يقال عنها الكثير يوميًا، رددت الطبيبة بنبرة حاولت الحفاظ على تماسكها:
- مش لازم تقلق يا يامن بيه، البيبي آ..
ضرب "يامن" براحتهِ على سطح مكتبها و هو يجأر بصوتهِ المحتد:
- دكتـــورة
ولجت "يارا" و قد استشعرت أنه على وشك اختلاق مشكلة أخرى، فخطت نحوهُ و هي تنظر للطبيبة بحرج، ثم ضغطت ضغطة خفية على ذراعهِ و هي تردد هامسة باستهجان:
- ايه اللي بتعمله ده يا يامن؟.. كفاية بقى
لم يعبأ "يامن" بزوجتهِ، و ظلت أنظاره القاتمة مسلطة على الطبيبة التي انتقض جسدها إثر صوتهِ، فردد "يامن" مكررًا سؤالهِ بلهجة مُشتدة من بين أسنانه المضغوطة:
- مبكررش كلامي مرتين يا دكتورة.. ابني ماله؟
 حاولت بشتى الطرق استجماع رباطة جأشها، حتى نجحت نوعًا ما، فحمحمت قبل أن تحنى بصرها للأسفل معربة  بصوتها الرقيق عن سوء وضع جنينهِ و عدم استقراره:
- يامن بيه.. الفترة دي الأصعب، واضح إن يارا هانم بتعاني من ضغط نفسي، و ده ممكن يصعب الموضوع أكتر
و رفعت أنظارها إليه و هي تتابع بجديّة:
- العامل النفسي مهم جدًا للأم في الفترة دي، لأن لا قدر الله بسبب سوء الحالة النفسية ممكن نـ...
و ازدردت ريقها قبل أن تستأنف:
- نفقد الجنين!
التفت نحوها حين انفلتت شهقة منها، فاهتزّت عضلة من جانب صدغهِ إثر إطباقه المشدد على عضلات فكيه، تراجعت "يارا" خطوة للخلف و هي تفغر شفتيها، فاستدركت الطبيبة و قد خشت من توتر الأوضاع أكثر:
- أنا مقصدتش أقلقكم.. بالعكس أنا مش حابة حالتها تسوء أكتر
تهالك جسد "يارا" على المقعد و هي تدفن وجهها في راحتيها و قد شعرت أن حبورها اللحظيّ يُسترق من بين يديها، و أن كما تكهنت بالضبط.. لن تدوم فرحتها، هنالك ما يجب إنقاصها و تركها غير مكتملة، سحبت الطبيبة قلمًا و راحت تخطّ بهِ بعض الأدوية المناسبة لحالتها، و من ثُم تركت القلم و هي تنزع الورقة، و بسطت كفها بالوصفة الطبيّة و هي تقف عن جلستها لتناولهُ إياها، تناولها "يامن" و أنظارهِ مسلطة على زوجته، فدارت الطبيبة حول مكتبها لتربت على كتفها برفقٍ محاولة التهوين عليها و هي تردد بلهجة جادة:
- متقلقيش يا مدام يارا.. متحطيش ده في دماغك عشان حالتك النفسية هتسوء أكتر
و زفرت زفيرًا مطولًا و هي تتبع قولها بـ:
- إن شاء الله خير
أشار "يامن" بعينيهِ للطبيبة لتبتعد و هو يضع الوصفة الطبية في جيب سترته الداخلي، ففعلت و هي تقف جانبًا، باغتها "يامن" بأن انحنى قليلًا عليها ليجتذبها و هو يطوق عنقهُ بذراعها مجبرًا لها على الوقوف، و دمدم آمرًا إياها:
- تعالي
تشبثت "يارا" بسترته عقب أن طوقت ظهرهِ، و سارت معهُ طواعية و هي تكافح لتكبح عبراتها، و سألتهُ بصوتٍ خفيض:
-  هو.. هو ممكن يحصل كده يا يامن؟ ممكن أتحرم منه عشان كنت هحرمك منه!
ممر "يامن" إبهام ذراعه الملتفّ حول عنقها على وجنتها، و همس بصوتٍ قاتم:
- شـشـش.. متفكريش في حاجة
و أخفض نظراتهِ إليها قليلًا قبل أن يدير مقبض الباب، متعهدًا لها بصلابة:
- ابني مش هيحصل له حاجة.. مش هسمح لحاجة تحصل له طول ما فيا النفس!
............................................................
اخترق مسامعهِ صوت رنين الهاتف فـ أيقظه من غفلتهِ المؤقتة التي سقط أسيرًا لها رغمًا عنه، تأوّه "مايكل" بصوت خفيض و هو يرفع رأسه عن كتاب التفسير أطبق جفونه و هو يتلمس فقرات عنقه بامتعاض، تقوست شفتيه و هو يمطهُ محاولًا إزاحة التيبس الذي أصابه عقب أن غفى بوضعية خاطئة، زفر متأففًا من رنين الهاتف الذي لا ينقطع، و كأن المتصل يُصر عليه كي يجيب، تقلصت خلجاته و هو يسحب هاتفه، و لكن سريعًا ما تراخت و حدقت عيناهُ بذهول و هو يرى اسمها منبثقًا لدى شاشتهِ، و كأنه لم يستوعب من فوره، فرك جفونه بكفه الآخر ليتقين مما يراهُ، و فور أن أدرك أنها حقيقة لا حلم كما ظنّ، هبّ واقفًا دافعًا المقعد للخلف و قد تلبك جسده، و احتل الارتباك صفحة وجهه، و بتوترٍ متفاقم أجاب "مايكل" على اتصالها و هو يطبق جفونه و أذنيهِ تضجّان بدوى دقاتهِ:
- ر..رهيف؟
قطبت "رهيف" جبينها و هي تتخصر بكفها الآخر، ثم رددت معاتبة إياه بامتعاض:
- لسه فاكر ترد يا مايكل بيه؟
ازدرد ريقهُ و هو يفرق جفونه، تاركًا لصوتها المميز ينساب على مسامعهِ فضاعف من معدل ضربات قلبه، استشعر صعوبة في تجميع أحرفه، فتبدت الكلمات على لسانهِ و تشتت ذهنه و تفكيره، رمش "مايكل" مرة مطولة قبل أن يحمحم محاولًا إستجلاب ثباتهِ، ثم أجابها:
- شئ.. لم.. كنت.. كنت غافلًا
و لم يمهلها فرصة الرد، حيث سألها من فورهِ باضطراب:
- كيف هالك؟.. هل هناك ما هدث؟
هزت "رهيف" رأسها استنكارًا، ثم أجابتهُ بتشنج بزغ في صوتها:
- أيوة.. يعني إيه المحامي جاي يخلص معايا إجراءات نقل الأرض
تنفس "مايكل" بصوت مسموع و هو يحكّ فقرات عنقه الخلفية، ثم ردّ بزفيرٍ مطولة:
- yes .. لم يبقى ينقص سوى توقيأكِ "توقيعكِ" تقريبًا
فكان ردها مستهجنًا:
- و انت ازاي تتصرف من دماغك.. انتي حتى مكلفتش نفسك و قولتلي
تغضن جبينه متعجبًا، ثم أجابها باستنكار:
- لم تجيبي اتصالي المرة الماضية.. أخبرتيني أن لم يعد هنالك دائٍ "داعٍ" لإجابة الاتصال!
أطبقت "رهيف" على أسنانها بغيظٍ متفاقم منه، ثم فرقت أسنانها لتيبه من بينهم:
- أيوة.. بس أنا معرفش إن ده كان...
فقاطعها "مايكل" بضيقٍ بدى على خلجات وجههِ و قد تكسّرت نبرته حين حاول التحدث بالعاميّة:
- في إيه يا رهيف؟.. ده اللي اتفقنا أليه "عليه"، أول ما خلصتي من كل هاجة" حاجة" لازم الأرض ترجأ" ترجع" باسمك، مش ده كان اتفاقنا؟
فتمتمت "رهيف" غير واعية بما تقول حتى:
- صوتك بيكون غريب و انت بتتكلم زيّنا
للحظة افترّ ثغره بابتسامة هادئة، و لكن سريعًا ما تلاشت بسمتهِ تدريجًا و هو يطبق جفونه متنهدًا بحرارة، ثم غمغم و هو يفرقهم:
- رهيف.. أنا بنفذ اتفقانا، تقدري تقوليلي في إيه؟
جلست على طرف فراشها و قد شعرت بصدرها يضيقُ على قلبها، أطبقت جفونها و هي تطرد زفيرًا متأججًا من صدرها، لم تجد إجابة لهُ، لم تعلم حتى لمَ انتابها شعور كهذا، و كأن آخر ما سـ يربطها بهِ سيضيع هباءً، و ينقطع ذلك الخيط الرفيع للغاية الذي كان بينهما، ضمّت "رهيف" شفتيها بحنق و هي تفتح عينيها، أومأت برأسها و هي تغمغم بنبرة مجفلة:
- شـ..شكرًا يا مايكل، أنا مضطرة أقفل
و كأنه حاول أن يستبقى استماعهِ لصوتها لدقيقة أو بضع دقائق أخرى، فراح يسألها متشبثًا بالمكالمة التي لربما ستكون الأخيرة:
- كيف.. قصدي، الـ..الصغيرة، بخير؟
أجبرها أن تزين ثغرها بابتسامة باهتة لدى تلبك و ارتباك صوتهِ بالإضافة لتكسّره البائن، أومأت "رهيف" و هي تدمدم بخفوتٍ:
- كويسة
- is she still sick?
فأجابتهُ بتنهيدة مطولة:
- لأ.. بقت كويسة
أسبل "مايكل" أهدابهِ و هو يتنهد بضيق ملتاع، و أغمض عينيهِ متمتمًا بتحسّر واراهُ ببراعة:
- So it’s the last one.. isn’t it?
هزت "رهيف" رأسها و قد أجفل جسدها، لا تعلم لما اغرورقت عيناها بالعبرات و قد شعرت برغبة عارمة في البكاء، ازدردت ريقها محاولة الحفاظ على ثبات نبرتها:
- أكيد
- أآ.....
و قبل أن يهمّ بالتحدث كان يستمع لتلك الصافرة القصيرة التي أعلنت انتهاء المكالمة، تقلص وجههُ و هو ينظر لشاشة هاتفه عقب أن أزاحه عن أذنه، حدق في الشاشة و هو يزفر في ضيق متفاقم، مسح بعنف على وجهه و هو يعاود الجلوس مجددًا، و قد حرمته حتى حقّ توديعها مجددًا، ترك الهاتف و هو يعود بظهره مريحًا رأسه للمقعد، حينما كانت هي تنظر لشاشة الهاتف و قد نفرت عبرة من عينيها ا تعلم مصدرها أو سبب محدد لها، و لكنها راحت تبعثُ رسالة إليهِ من فورها و قد تحرّجت من فعلتها المفاجئة:
- " آسفة.. و شكرًا"
و أعقبت رسالتها بأخرى من فورها:
-" متردش.. لأني مش هردّ"!
انتفض "مايكل" في جلستهِ، تأهب و هو يعتدل ساحبًا الهاتف بتلهفٍ، انفرجت شفتيه بابتسامة باهتة للغاية.. تحمل من الحسرة ما فاض من نظراته، و لم يمنع نفسه من بعث رسالة لها:
- " وداعًا"
نزحت "رهيف" عبراتها التي هطلت بغزارة عقب أن أبصرت كلمتهِ المقتضبة، طردت زفيرًا ملتهبًا من صدرها و هي تتساءل بصوتٍ مسموع تائه:
- إيه اللي بيحصل معايا!
أتاها "رهيف" صوت والدتها الذي أعقب اقتحامها الغرفة بشكلٍ مفاجئ:
- بتعملي إيه يا رهيف كل ده.. أنا هريت الراجل شاي و جاتوه
حمحمت "رهيف" و هي توليها ظهرها في جلستها تاركة هاتفها، نازحة آثار دموعها عن أهدابها، ثم أومأت و هي تردد بصوتٍ شابتهُ رجفة البكاء:
- جاية يا ماما
فأشارت "سعاد" بكفها و هي تردد مقوسة شفتيها بنبرة ذات مغزى:
 
- طب يالا أوام.. خلينا نخلص من الحكاية اللي مكانش ليها لازمة دي!
و برحت الغرفة تاركة الباب مفتوحًا و هي تغمغم بصوت وصل لابنتها:
- مش عارفة أنا ازاي بتثقي في أي حد كده بسرعة، ربنا سترها المرة دي، الله أعلم كان ممكن يحصل إيه!
 التفتت "رهيف" نصف التفاتة و قد انسكبت عبراتها مجددًا، تقوست شفتيها باستهجان و هي تغمغم:
- فعلًا.. ثقتي هي اللي أذيتني!
....................................................................
كانت محدقة في الواجهة بأعين تكمن فيهما العبرات التي تأبى ذرفها، و هي تضع كفها أعلى بطنها و كأنها تخشى أن يفرّ طفلها من أحشائها، اختلس "يامن" النظرات إليها مدققًا في خلجاتها، و حركة أناملها على بطنها برفقٍ مترقق و كأنها تهاب أن تؤذيه بلمستها، زفر "يامن" زفيرًا مطولًا متأججًا، ثم بادر بصوتٍ آمر:
- يارا.. شيلي الأفكار دي من دماغك
أجفل جسدها قليلًا لدى صوتهِ الصادح، فـ أسبلت أهدابها و قد شعرت بالخوف يجثُم على اضلعها، نطقت "يارا" من بين شفتيها بصوتٍ قانط:
- كنت عارفة إن مفيش فرحة هتكمل
أزاح "يامن" إحدى قبضتيه عن المقود، و بسط كفهُ ليحتوى كفها الآخر المسنود أعلى ركبتها، ملأ "يامن" فراغات أصابعها بأصابعهِ القوية، و أطبق بهما على راحتها متعمدًا بثّ رسالة ضمنية لها، انحرفت نظراتهِ أخيرًا نحوها فكانت قد التفتت مُتطلعة إليه باستجداء، شمل "يامن" وجهها بنظراته الجامدة التي ترققت قليلًا من أجلها، و ردد بلهجة صلبة متعهدًا لها:
- يارا.. ابننا هيعيش
- تفتكر؟
لفظت كلمتها المتحسرة من بين شفتيها و قد ترقرقت العبرات في مقلتيها، تابع "يامن" الطريق بطرفهِ، ثم عاد يوليها إهتمامه و هو يُشدد من إحتوائهِ لها بضغطة من كفه، هزّ رأسه بإيماءة لا تكاد تلحظ و هو يردد بلهجة ثابتة:
- هيعيش..و هتربيه
و قبل أن تهمّ بالحديث أطبقت شفتيها حين استمعت لصوتهِ الجامد:
- أنا عارف إن نهايتي قربت.. لكن انتي اللي هتربيه، انتي اللي هتكبريه
فخرج صوتها متوسلًا و قد انهمرت العبرات من عينيها:
- يامن
أشاح بوجهه عنها و هو يتابع بلهجة قاتمة من بين أسنانهِ:
- كنت.. غلطان لما شبهتك بيها، معاكي حق
و نظر نحوها و قد تصلبت نظراته مجددًا:
- انتي هتاخدي بالك منه، مش هتخليه يعيش اللي عيشته
أزاحت كفها عن بطنها لتشدد على كفهِ و هي تردد بصوتٍ واثق من بين نحيبها الخافت:
- يامن.. انت اللي هتربيه، انت اللي هتربيه معايا، متسيبنيش
- أنا واثق فيكي!
أطبق أكثر بأناملهِ على كفها و هو يمنحها نظرة جعلت بدنها يقشعرّ خشية من القادم، رمشت عدة مرات و قد فغرت شفتيها قليلًا غير مصدقة ما قالهُ توًا، و كأنهُ يجتثّ قلبها بلا هوادة، إذ استشعرت دنوّ النهاية و كأنه أمر محتم، لا تعلم لمَ الآن تحديدًا، خفقات قلبها دوّت في أذنيها و قد جمد الهلع من فقدانهِ الدموع في عينيها، حينما كان هو يتابع و قد أشاح بوجههِ مستثقلًا ما سيتفوه به من اعترافات لربما تخفف ما يعتملُ في صدرها و يضجّ به قلبها من التياعٍ:
- أذيتك كتير.. عارف
و نظر نحوها من طرفهِ و هو يردد بتعسّر لشخصيته التي تمنعه من الاعتراف بأخطائهِ:
- و عارف إن شخصيتي صعبة.. و إنك استحملتي كتير معايا و انتي ملكيش ذنب
و زفر قابضًا جفونه بقوة و هو يستشعر الأمر يتفاقم صعوبة، أمرًا يضجّ قلبه بِ، و لكن ترفض لسانهِ الاعتراف أو النطق به، أمرًا تعسر على ذهنه إلا رفضه، لا يزال يكابر و يعاند ذلك القلب الذي انتقاها دونًا عن غيرها ليجعلها تُتوّج ملكة على عرشه، لم يجد ما يقول، فحاول أن يجمع أحرفهِ المُشتتة و هو يفرق جفونهُ فخرجت كلماتهِ بصوتٍ أجشّ:
- أنا محتاجـك!
تقوست شفتيها تأثرًا بكلماته و قد شرعت العبرات المتيبسة تتلألأ من جديد، حتى وطأت خارج أعتاب عينيها لتشقّ سبيلها على وجنتيها، أزاحت كفها عن كفه المحتوى لراحتها الأخرى، و بسطتهُ ناحيتهِ لتمسح برفقٍ على وجنته معتدلة في جلستها فتكون أقرب إليه، هذّبت شعيرات ذقنه بأطراف أناملها، ثم مسدت على وجنته، فاستشعر ملمسها الناعم على وجنتهِ، انحرفت نظراته نحوها و هو يردد مُشددًا على مقصده لافظًا أنفاسهِ الحارة:
- محتاجك معايا
فرددت من بين شفتيها بصوتٍ مرتجف:
- أنا جمبك
- خليكي معايا
فرددت بانتحابٍ خافت:
- أنا معاك.. دايمًا جمبك
أومأ و ابتسامة باهتة تعرف  طريقها لشفتيهِ، و كأن لمحت لمحة امتنان انبثقت من عيونهِ نحوها، فمسحت "يارا" بلطف على وجنتهِ مجددًا و هي تردد متابعة و كأنها تسألهُ أن يؤكد لها مقصدها:
- كل حاجة هتعدي.. هنعديها مع بعض، طالما احنا سوا
أفلت "يامن" كفها ليطوّق بهِ عنقها و هو يتابع بلهجة ذات مغزى:
- احنا
أومأت و هي تردد بابتسامة مرتعشة تراقصت على أطراف شفتيها، و العبرات المتأثرة لا تزال تنسكب من أقداح زرقاويها:
- احنـا
لفّ ذراعه حول عنقها و هو يُركن رأسها لكتفهِ، و براحته احتوى فكها و جزء من عنقها و هو يمسح بإبهامهِ على وجنتها اليُسرى، استرق قبلة طالت من جبينها و قد ألصق شفاههِ بها، قبلة طالت فبعثت لديها مشاعرًا جمّة، و كأنه ليس ماهرًا بلغة الحديث، بل و لا يفقه منه شيئًا، و لكنه ماهرًا بلغة الجسـد، أو بلغة أخرى، لغة نادرة.. عسيرة على أي شخص أن يفقه منها حرفًا، لغة الحُـب.
كيف لقبلة مسّت جبينها أن تحتوى قلبها المُضنى، أن تُضحي بلسمًا على جراحها الغائرة، و كيف لذراعهِ الملتفّ حول عنقها بخشونة تامّة فيشعر من أمامه و كأنه يخنقها، بأن يحلّ عن عنقها قيودًا من حميم، و أن يبسط أضلعها المُطبقة على قلبها، أنى لهُ بأن يؤثر فيها من حركاتٍ لربما تبدو عاديّة للغاية، حتى هو نفسه لا يدرك مدى تأثيرهُ عليها، استكانت.. و هدأ ضجيج قلبها و هي تتلمس بأطراف أناملها بطنها، ابتسامة هادئة ارتسمت على شفتيها و هي تُمرغ وجهها في كتفه عقب أن أبعد شفتيه عنها، مُستشعر إبهامهِ الخشن الذي لم يكفّ عن تمسيده لبشرتها الرقيقة، ثم أزاحت كفها عن بطنها لتحتوي ساعده المتلمس لعنقها، و لم تجد ترددًا في الاعتراف بما تكنّه من مشاعرٍ فاض قلبها بها:
- بحبـك
.............................................................
كانت متيبّسة بمحلها شدوهًا، و لكن سريعًا ما أُحيل ذهولها طاقة غضب رهيبة اختُزنت بداخلها، تشبّعت وجنتيها بالحمرة القانية، و تسارعت أنفاسها اللهثة سخطًا و هي تحرف أنظارها مجددًا نحو "جاسم" الذي عقد حاجبيهِ في تعجب لردّ فعلها، تهدجت أنفاس "يورا" اهتياجًا و هي تسألهُ في اشتداد:
- انت.. متأكد من اللي بتقوله ده؟
أومأ "جاسم" بإيماءة واثقة قبل أن يهتف بجمودٍ تام:
- طبعًا
حادت ببصرها عنه و هي تتنفس بمعدل سريع، أطبقت "يورا" أسنانها غيظًا و هي تقبض جفونها في عنفٍ، هزت رأسها استنكارًا، ثم شرعت تحكّ عنقها بانفعال، تطلعت إليهِ "يورا" مجددًا و هي تبسط كفها نحوه و باقتضاب بادرت:
- عايزة موبايلك ثانية.. مُمكن
- لأ!.. معنديش أوامر بده
ارتفعت أنظارها تلقاء وجههِ و هي تشدد من ضغطها على فكيها، تقدمت خطوة منهُ و هي تستند لحرف الباب بكفها مُقلصة أصابعها عليهِ، غرست عينيها في عينيهِ الصلبتين و هي تردد من بين أسنانها باحتدام:
- انت مش روبوت عشان أي حركة تصدر عنك لازم تكون بأمر مسبق!
اضمحلّت تلك المسافة بين حاجبيهِ و قد استفزّته تلك الفتاة الشبيهة لسيدتهِ و زوجة ربّ عملهِ " يارا" حد التطابق، زفر "جاسم" أنفاسهِ الحانقة حين بسطت كفها مجددًا و نظراتها مُثبتة في عينيهِ، و أمرتهُ بـ:
- الموبايل
فكان ردّه باردًا للغاية و هو يحيد عنها و كفيهِ لا يزال قيد تشابكهما خلف ظهرهِ فبدا أكثر ضخامة:
- معنديش أمر بده!
زمجرت "يورا" و قد اتّقدت عيناها بنذير غير مبشر، كوّرت أناملها معًا لتضرب بقبضتها إطار الباب بعنف مرددة باهتياج:
- قولتلك عايزاه.. مكالمة واحدة، للدرجة دي انت جبان و خايف من اللي مشغلك!
تأججت النيران في حدقتيهِ الغامضتين و هو يحرف نظراته إليها، شدد "جاسم" على عضلات فكيهِ حنقًا حتى اهتزّت عضلة من جانب وجههِ، و حالما فرّقهم ردد من بين أسنانهِ باستهجان مشيرًا بعينيه:
- لو كنت جبان فعلًا مكنتش هكون واقف قادمك دلوقتي!
و حاد ببصره عنها و هو يشمخ بذقنهِ، ثم أردف بصلابة:
- أنا بأدي واجبي و شغلي.. لا أكتر و لا أقل
و أتبع كلماته بلفظهِ لكلمة ناريّة و هو يناظرها من طرفهِ:
- يا هانم
أدركت أنها تمادت نوعًا ما، إن لم تكن لديها حاجة منهُ كانت ستصفع الباب مجددًا في وجهه و قد شعرت به إنسانًا مغرورًا، أطبقت جفونها ثم نطقت بتريّث محاولة التحكم بأعصابها الفالتة:
- اسمعني يا...
- جاسم
أومأت برأسها و هي تردد متابعة:
- اسمعني يا جاسم.. أنا هكلم الهمجي اللي مشغلك لأني عـ...
توهج وجه "جاسم" بحمرة قانية و تشنجت عضلات جسدهِ و هو يلتفت نحوها ليحدجها بنظراتٍ قاتمة أثناء مقاطعتهِ المهتاجة:
- خدى بالك من كلامك يا آنسة.. انتي بتتعدي حدودك
فصرخت في وجههِ بالمقابل و قد أفلتت زمامها:
- يعني مش هتخليني أعمل مكالمة من موبايلك؟
فهدر باستهجانٍ تام:
- لأ.. لما كون معايا أمر بدا ساعتها هسمحلك، غير كده لأ
فرددت محاولة التنفيث عن طاقة الغضب الهائلة المحتجزة داخلها:
- انا غلطانة إني بتكلم مع واحد زيك، بتمشي بالريموت!
و صفعت الباب صفعة أعنف من ذي قبل في وجهه و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا، همست "يورا" باستهجان و هي تضيق عينيها فصارتا أشدّ:
- معقولة! حطيت إيدي في إيد قاتل أبويا!
حينما كان هو يقف متيبسًا، ضاق صدره من عنجهيتها المفرطة تلك، فـ شدد على عضلات فكيه و قد استثارت أعصابه لدى كلماتها المستفزة، فنطق بنفاذ صبر من بين أسنانهِ:
- استغفر الله العظيم
.....................................................................
قذفت بالهاتف بعنفٍ مفرط و قد انتابتها رغبة عارمة في التحطيم و التهشيم لاسترجاع ابنتها التي لم تلدها و لم تنمو في رحمها، زمجرت "هوليا" و هي تردد باستهجان:
- ماشي يا يامن.. ماشي، متردش عليا و خبي بنتي عني زي ما انت عايز، هوصلها بردو، و لو حصل إيه
دلف عليها أحد رجالها، فراحت تتقدم نحوه و هي تسألهُ بتلهفٍ شديد:
- "Buldun mu?"
- "هل عثرت عليها؟"
نكّس الأخير رأسه في خزي و هو ينطق بتخاذل:
-Maalesef başarılı olamadık
"للأسف.. لم ننجح"
فصرخت "هوليا" بزمجرة عنيفة و قد تشربت وجنتيها حمرة حانقة:
- Ne dersiniz?.. Nasıl başaramadınız?
- ماذا تقول أنت؟.. كيف لم تنجح؟"
و أشارت بسبابتها و هي تتوعدهُ باحتدامٍ تام شمل نبرتها الناريّة:
-"Dinle beni.. artık benim kızım değilsen sana göstereceğim.. sana her şeyi göstereceğim.
- "استمع إلي.. إن لم تعد ابنتي سأريكم.. سأريكم جميعًا"
و تعالت نبرتها أكثر في جملتها الأخيرة حتى باتت أشبه بالصراخ الجهوريّ، ظلّ الأخير مطرقًا لرأسهِ فنهج صدر "هوليا" علوًا و هبوطًا، ثم رددت تأمرهُ بسخط:
-defol get!
- "اغرب عن وجهي"
...................................................................
تأملت "يارا" من خلال زجاج نافذتها ذلك الحيّ السكني الراقي الذي عرج إليه "يامن" بسيارتهِ، متأملة القصور من حولها بأعين ضائقة و تلك المسافة بين حاجبيها قد انكمشت، حتى صفّ "يامن" سيارتهِ و أعينه تتجه نحوها، متأملًا خلجات وجهها، انحرفت تلقائيًا نظراتها تلقائهِ حين وجدته يوقف المحرك، فرددت تسألهُ بفضولٍ جاد:
- هو.. احنا هنا بنعمل إيه؟
- انزلي
لهجتهِ كانت آمرة على الرغم من خفوتها و هو يشير نحو باب السيارة، و أتبع قوله بترجله هو عن السيارة، تغضن جبينها و هي تنفذ أمره بعد فهم، و ما إن ترجلت حتى وجدته يدور حول السيارة.
 ألقت "يارا" نظرة مشدوهة على القصر من الخارج، تتأمل شموخهِ و فخامته بنظراتٍ مذهولة، أصرفت بصرها عنه للحظة حين تفاجأت بأفراد الحراسة الخاصة به تصطفّ لترحب بهِ ترحيبًا خاصًا حافلًا يليق بشخصهِ، قبل أن تنفتح البوابة الإلكترونية تلقائيًا، دنت منهُ حتى باتت المسافة بينهما تكاد تكون منعدمة، فاجتذبها إليهِ أكثر ليلفّ عنقها بذراعه، تحرّجت و هي تتلفت حولها و همست إليه على استحياء محذرة إيّاه:
- يامن.. ابعد شوية في إيه؟
فخرج صوته صارمًا على الرغم من خفوتهِ و هو ينظر نحوها من طرفه:
- شـشـش
فتذمرت بلهجة خفيضة و قد تضرجت وجنتيها بالحمرة:
- مينفعش كده يا يامن.. في ناس حوالينا
لم يبالي باحتجاجاتها و راح يسوقها للداخل و هي في أحضانهِ فعليّا، حتى سار بها فوق الممر المزدان على جانبيه بالحشائش و الكلأ الأخضر المريح للأعين، لم تتمكن من أن تتخلى عن حرجها سوى عقب أن انسحب أفراد الحراسة خلف البوابة التى انغلقت فخلا الوسط إلا منهما، تنفست الصعداء، و من ثم تجولت بنظراتها في المحيط و هي تسألهُ في فضول:
- هو احنا فين؟.. المكان ده حلو أوي
فسألها و هو يتأمل واجهة القصر عن ذلك البعد:
- عاجبك؟
فارتفع كتفها الأيسر و هي تردد بسلاسة:
- أكيـد
- تحبي ننقل فيه امتى؟
توسعت عيناها عن الحدّ الطبيعي و قد برقتا بوميض لامع مُندهش، انحرفت تلقائيًا نظراتها نحوه و أقدامها تتيبس في الأرضية و كأنها جزءً منها، فتوقفت هو الآخر بدوره و نظراته تتجه نحوها، مستمتعًا بتعبيرات الصدمة التي شملت وجهها، فغرت شفتيها و هي تسلط أنظارها على عينيه العابثتين، فسألتهُ و قد ارتفع حاجبيها:
- لأ.. أكيد بتهزر
فكانت نبرتهِ جادة للغاية و هي يشير بعينيه للواجهة:
- تؤ
و نظر نحوها متابعًا بنبرة ذات مغزى و هو يفلت عنقها محررًا إياها قليلًا من حصارهِ:
- و أظنك عارفاني.. مش من طبعي الهزار!
لم ترمش عيناها و هي تتلفت برأسها متأملة الوسط من جديد، و كأنه تغير عن النظرة السابقة لهُ، رددت "يارا" و لا تفتؤ الصدمة ترتسم بخطوطها العريضة على وجهها:
- يعني.. يعني القصر ده بتاعك؟
- بتاعنا!
انصرفت نظراتها لتحدق في وجههِ و قد سمحت لعينيها بأن ترمش عدة مرات بعدم تصديق، أقبل "يامن" عليها مقلصًا المسافة بينهما، سار بعينيهِ على وجهها، ثم امتدت أناملهُ ليعبث في خصلاتها القصيرة، متعمدًا ذلك ليظهر لها مدى إعجابهِ بمظهرها الجديد بهِ، و محاولًا نزح شعور الحنين لشعرها الطويل المسترسل، على الرغم من كونه لم يتحدث إلى أنها استشعرت و كأنها تبدو أجمل النساء عن طريق فعلة منهُ فقط، ضاقت عيناها و قد تبدد شعور صدمتها، ترقرقت العبرات المتأثرة فيهما فالتمعتا بهم، و بارتعاش غلّف نبرتها غمغمت في عدم استيعاب:
- بتاعنا!.. نون
أومأ "يامن" بحركة لم تكد تُلحظ، ثم ردد بجدية تامة و أنامله لا تكفّ عن العبث في خصلاتها:
- نون.. أنا و انتي
و بسط كفه الآخر ليتلمس بطنها الذي يضمّ طفلهما بداخلهِ بأطرافه متابعًا بجمودٍ لا يتناسب ع كلمته التالية:
- و ابننا
ارتعشت شفاها تأثرًا و قد انبجست العبرات المأثرة من عينيها، تقوست شفتيها بابتسامة لا تعكس مدى حبورها في تلك اللحظة تحديدًا، أخفض نظراتها نحو بطنها، و من ثم ضمت أناملها على أناملهِ أعلاها و هي تتابع بإيماءات متتالية، و بنبرة مرتجفة متهدجة:
- أنا بحبـك.. أوي!
- يارا
- نعـم؟
ارتفعت أنظارها نحوه فتفاجأت بهِ ينزح عبراتها بإبهام كفهِ الذي ضمّ جانب وجنتها، بينما أناملهِ الأخرى منغرسة في خصلاتها، و بحركة مباغتة انحنى برأسهِ نحوها ليسترق شفاهها المرتعشتين في قبلة حسيّة عميقة، بعثت لديها فيض من المشاعر المتأججة، و جعلتها تعيش حالة من الاسترخاء المحبب، حتى ابتعد عنها قليلًا ليتأمل وجهها.. فرّقت "يارا" جفونها لتتبين لهُ ماستيها الزرقاوين ببريقهما المميز و الفريـد، تزين ثغرها بابتسامة عريضة و هي تمرر نظراتها بين غابات عينيهِ، و قد تهدجت أنفاسها فلفحت صفحة وجههِ، و باندفاعٍ محبب إليهِ كانت تشبّ على أطراف قدميها لتطوق عنقه بذراعيها دافنة وجهها في تجويفهِ، فداعبت خصلاتها الناعمة بشرتهِ الخشنة، تقوست شفتيه و هو يغرس أنامله مجددًا في خصلاتها، أحنى رأسه للجانب قليلًا ليطبع قبلة خبيرة على جانب عنقها جعلت قشعريرة محببة تسري في جسدها، أرخت رأسها مستمتعة بشعور الأمان الذي وجدتهُ في أحضانهِ، خاصة حينما ضمّ جسدها أكثر إليه بذراعه دون أن يعقب بحرفٍ واحد، فرددت معربة لهُ عن شعورها:
- زمان كنت فاكرة إنك أسوأ انسان قابلته في حياتي
 و ابتعدت بضع سنتيمترات لتسلط عينيها على نظراتهِ التي انصرفت نحوها، متابعة بإيماءة من رأسها من بين تهدج أنفاسها المعلن عن سعادتها التي فاضت بها نفسها في تلك اللحظة:
- و دلوقتي.. عرفت قد إيه كنت غبية، و مقدرتش أفهمك من أول لحظة
و أيضًا لم يعقب، فقط تستشعر أناملهِ الخشنة و هو يمررها في خصلاتها، و نظراته تتجول على صفحة وجهها، فراحت ترخى إحدى ذراعيها عن عنقهِ لتتلمس حرق وجنتهِ اليسرى الذى توارى قليلًا خلف شعيرات ذقنهِ، و رددت بصدقٍ راضي:
- دلوقتي لو تعرف شعوري مش هتقدر تتخيله، مهما حكيت.. حاسة إني.. إني مش بس لاقيت الراجل اللي بتتمناه أي بنت
و تنفست بارتياح و هي تستأنف مؤكدة:
- أنا لاقيت السند، الضهر، لاقيت راجل عارفة إنه مش هيبيعني، عارفة إن مهما حصل بيننا فهنكون سوا، عارفة إني مش هقع يا يامن.. لأنك في ضهري دايمًا، مهما واجهنا فمش هنفترق، علاقتنا.. أقوى من إن أي حاجة تفرقها، أقوى من الحب، و أقوى من الاهتمام، أقوى من أي مشاعر بين أي زوجين
حينها أشاح بوجههِ عنها ليردد بلهجة شبه ساخرة، متعمدًا إنهاء تلك المواضيع الشائكة من ناحيتهِ و التي تخصّ المشاعر و غيرها:
- مقولتليش كان نفسك تبقى دكتورة إيه
و نظر نحوها مجددًا و هو يردد مستأنفًا:
- أكيد قلب!
و كأنها لم تُصغى إليه، حيث كانت تتطلع إليه بعمقٍ انعكس في مقلتيها الشاردتين بخلجاتهِ و شريط حياتها يمر أمام عينيها:
- كنت فاكرة إنك بتأذيني.. و كنت بنكر إنك بتحميني دايمًا، و أول حد حميتني منه.. كان أبويا!
و اختنقت نبرتها.. فـ أحنت أهدابها و هي تغمغم بتشنج طفيف عمّ على نبرتها:
- يا ريتني صدقتك من الأول، مكانش كل ده حصل!
عقب أن استرق وجهها بنظرة شملت تقاسيمهُ، دفن وجهها في كتفهِ مجددًا و هو يردد آمرًا إياها بلهجة صلبة:
- متفكريش في حاجة دلوقتي
تأوّهت بخفوت متبعة إياه بتنهيدة مطولة و هي تقبض جفونها:
- عمري ما حسيت بالأمان دا في حضن حد، حتى في حضنه مكنتش حاساه!
و انفرجت شفتيها بعبوسٍ متابعة باستهجان:
- أساسًا عمره ما حبني.. و لا عمري كنت هلاقي أمان معاه، مع واحد قتل أخوه بسبب طمعه و جشعه
فتقوست شفتيه باستنكارٍ ساخر، فـأخيه لم يكن أكثر منهُ نبلًا أيضًا..
 أخيه.. كان مجرد رجل سار خلف شهواته، غير مباليًا بتدمير حياة احداهنّ و هدمها فوق رأسها، كلما ظنّ أنه تجاوز يتيقن أنه لم و لن يتجاوز، حقيقةً كتلك لن يتمكن من تجاوزها ببساطة و المضي قدمًا، هو فقط يُخدر شعوره.. أو يدفنه كالمعتاد داخله فلا يقوى أي كائنٍ كان على اختراقهِ..
 "يوسف".. "كمال".. "حسين"، الثلاثة كانوا مثالًا للفساد، و كأن جدهُ "يعقوب" من أسوأ البشر، ليورّث صفاته و جيناتهِ في أبنائهِ الثلاث، هو أيضًا أخطأ، وثق بوالده ثقة عمياء.. گهي تمامًا، و لكنه صُدم بالواقع و الحقائق.. صدمة أودت بما داخله، و كأن روحهُ تشبعت بالتمزق و الفتوق، و لم يجد سواها على الرغم من ذلك.
 و كأنها تمتصّ طاقتهِ السلبية و تخلصه من أفكاره المهلكة أكثر لنفسه المعذبة، مجرد شعوره أنها جواره يخفف من وطأة الوصب على روحهِ، و أعرب عن شعوره ذلك بكلمة واحدة كمن في كل حرفٍ منها إحساسًا مختلف على حدا.. "الاحتياج".
زفرة مطولة ملتهبة صدرت عنها جعلتهُ يستفيق من شروده اللحظيّ، حتى أتبعت زفيرها بـ:
- يا ريتني عرفت الحقيقة من الأول، يا ريتك دخلت حياتي من زمان، بشكل تاني.. مختلف، يا ريتني ما كرهتك أبدًا، و لا اتمنيت في يوم إنك تخرج منها
و أطبقت جفونها متابعة بتنهيدة متأججة:
- يا ريت البداية كانت غير يا يامن.. يا ريت
و ابتعدت قليلًا مجددًا لتبتسم ابتسامة مرتعشة متابعة بأعين وامضة بالتماعة العشق:
- بس تعرف يا يامن.. حاسة إن لو مكانتش دي البداية، مش هنكون هنا دلوقتي، كأن.. كأن كل حاجة شوفتها منك ربنا عوضني عنها بوجودك!
أراد أن يوقفها عن استرسالها و قد أضناهُ حديثها المطول بّلك العمق الذي لا يُحبّذه، فنطق و أنظاره تتجه نحو القصر مجددًا بضجرٍ أبداهُ عن عمد في لهجتهِ:
- هنفضل واقفين هنا كتير.. خلينا ندخل
فتضاحكت بخفوتٍ قبل أن تدير وجنتهِ إليها بكفها عمدًا مرددة:
- حاضر يا عاقد الحاجبين، ثانية واحدة
و أطبقت بشفاهها على شفتيه في قبلة خاطفة، ثم ابتعد لتنفلت من بين أحضانه و هي تردد بحاجبين ارتفعا في عبثٍ:
- شكرًا!
و همّت بالحراك مبتعدة عنهُ، و لكنه اجتذبها إليه من عضدها ليدير جسدها إليهِ و قد تأججت رغبتهُ في التذوق من شهدها المغريّ، تسلطت عيناهُ على شفتيها و هو يردد بخبثٍ بائن:
- استنى كده رايحة فين؟
فـ أجابتهُ "يارا" ببراءة مُصطنعة و هي تعبث في أرنبة أنفهِ بطرف إصبعها:
- إيه يا بيبي!.. مش هندخل
- عايز أقولك حاجة مهمة
انعقد حاجبيها في عدم فهم و أنظارها المستوضحة تتسلط على عينيهِ مباشرة:
- حاجة مهمة!.. حاجة إيه
فتمتم "يامن" و هو ينحني بجذعهِ ليمرر ذراعه خلف ركبتيها:
- فوق.. هقولك فوق! و لا مش عايزة تشوفي أوضتنا الجديدة؟
و حالما تفهمت مقصدهِ انفلتت ضحكة رقيعة منها و هي تحيط عنقهُ بذراعيها، أججت مشاعرهُ أكثر نحوها و........
.......................................................
.........................
...........................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Donde viven las historias. Descúbrelo ahora