"الفصل الثاني و الخمسون"

738 18 2
                                    

" الفصل الثاني و الخمسـون"
جسدها بأكملهِ يرتجف و گأن هنالك سحابة حطت فوق رأسها و تمطر فوقها هي فقط دونًا عن باقي البشـر، جبينها متفصدًا بحبات العرق المتلألئة، وجهها شاحبًا و عيناها متوسعتين عن آخرهما و هي لا تكاد تصدق أنها هي ذاتها من عايشت تلك اللحظات المرعبة، تضمّ ركبيتها لصدرها أعلى مقعدها، بينما نظراتها الهلعة مُسلطة على الزجاج الأمامي للسيارة، صدرها ينهج علوًا و هبوطًا، قلبها يتقافز بين أضلعها و كأنه سيخترقها و يخرج عن تجويف صدرها
أطبق "يامن" جفونهُ محاولًا الحفاظ على آخر ذرات هدوئهِ، ثم صفّ السيارة على جانب الطريق، التفت نحوها محاولًا تهدئتها بما بقى بهِ من ثبات انفعاليّ:
ـ اهدي
ـ ماتوا.. كلهم ماتوا! ماتوا بسببي أنا
: و دفنت رأسها في ركبتيها، و هي تردد بلهجة شابها الندم
ـ ماتوا بسبب غبائي، ماتوا بسببي، عم منصور اتقتل بسببي، كلهم ماتوا بسببي أنا، ماتوا بسببي
ـ كفايـة
كلمة محذرة صارمة خرجت من بين شفتيه فجعلتها ترفع نظراتها المتسائلة إليه.. ففسر قوله و هو يرمقها بنظرة متصلبة:
ـ انتي ملكيش ذنب في حاجة
هزت رأسها نفيًا و قد شعرت بصعوبة في التنفس، راحت المشاهد تعاد نصب عينيها، ما عايشته منذ دقائق ليس بالهيّن مطلقًا، شعرت و كأن هنالك ما يُطبق على صدرها، أحنت بصرها عنه و هي تقول بصعوبة من بين شفتيها:
ـ أنا.. قتلتهم، أنا مجرمة
حاولت سحب شهيقًا تحبسه في صدرها ففشلت، راحت تضع كفها أعلى صدرها و هي تحاول جاهدة التنفس فباءت محاولتها بالفشل، شهقت و قد شعرت و كأن روحها تتصاعد من بين جنبيها، اضمحّلت المسافة بين حاجبيهِ، امتد كفهُ ليدير رأسها إليهِ و هو يناديها بصوتهِ و قد طغى القلق على نبرتهِ:
- يارا
لم يتلقَ منها إجابة، فأزاح كفه عن وجهها، ترجّل عن مقعدهِ، و دار حول السيارة، فتح باب مقعدها و انحنى عليها و هو يزيح خصلاتها عن عينيها محاولًا إجبارها على الخروج من حالتها المريبة تلك:
ـ يارا..يارا، ركزي، انتي ملكيش ذنب في حاجة، يــارا
هدر بكلمتهِ الأخيرة و قد تشنجت عضلات عنقه، انحرفت نظراتها نحوهُ عقب ندائهِ الأخير و قد تعالى بهِ صوته، فهمست بتحشرجٍ و هي تفرك عنقها بأناملها:
ـ مش قادرة آخد نفسي، مش عارفة آخد نفسي
فراح يحل أزرار كنزتها الأولى و هو يردد بلهجة صلبة:
- أنا معاكي.. اهدي!
انحرفت نظراتها نحوه و هي تحاول جاهدة التقاط أنفاسها:
ـ عم منصور مات.. اتقتل بسببي، كلهم ماتوا، كلهم
فضمّ وجهها بين راحتيهِ، و ردد بلهجة حازمة مُشددًا على كلماتهِ:
ـ انتي ملكيش ذنب، فاهمـة؟
و ازاح كفيه عن وجهها، انتصب في وقفتهِ، ثم همّ بسحبها ليجبرها على الترجل، ولكنها تشبثت بكفهِ فـ أجبرتهُ أن يظل محنيًا، و بعسر بالغ.. بلغت بذراعها الآخر رقبتهِ و تعلقت بها و كأنهُ الملاذ، ثُم استشعر بعدها سكونها بين أحضانه، و كأنها لا تجد سوى فقدان الوعي بعد أن فشلت في استيعاب ما مرت بهِ
..............................................................
لم تكُن تصدق ما تراه.. فعليّا إنه يقتادها لمنزل رفيقتها، ر لم تقتنع بذلك سوى مع استقلالها للمصعد، ازدردت ريقها بتخوف و هي تعبث بكفيها ثم قالت:
ـ انت جايبني هنا ليـه؟
كان لا يزال مرتديّا نظارتهِ ذات الزجاج الرمادي اللون مخفيًا عينيه الغامضتين خلفهما، أجابها "فارس" بلهجة مريبة:
ـ هتعرفي
وكأن هنالك خطب ما.. همّت بالاستفسار و لكن توقف المصعد بمحله، و فتح بابهِ تلقائيّا، عبر منه أولًا فتبعته على مضض، هرعت من خلفه ثم توقفت أمامه قبل أن يقرع الجرس، ضيقت عينيها و هي تسألهُ بتشكك:
ـ فارس.. انت بتعمل ايه هنا؟
ـ قولتلك هتعرفي
فسألته بارتياب و هي تعقد حاجبيها:
ـ أعرف ايه بالظبط؟
و قبل أن يبسط كفه ليقرع الجرس.. كانت تحول دون ذلك بكفها و هي تنظر صوبهُ باحتداد، و حذّرته بقولها:
ـ فـارس.. عارف لو عملت فيها حاجة!
دفع كفها و هو يصرف بصره عنها ببرود، ثُم قرع الجرس عدة مرات، التفتت "ولاء" لتنظر صوب رفيقتها فور أن انفتح الباب، و التي بدا الارتباك جليّا على ملامحها و هي تنظر صوبهُ تحديدًا، قرأت "ولاء" ارتباكها الظاهر، فزمت شفتيها بضيق ثُم قالت و هي تقف حائلًا بينهما:
ـ وداد، متقلقيش.. مش هيحصل حاجة
فـ بادر "فارس" و شفتيه تتقوسان بجفاء:
ـ أهلًا وداد.. أخبارك؟
و دفعها قليلًا من كتفها ثم دلف و قد تنحت "وداد".. فهي عقب أن أمرها بعدم التواصل معها اضطرت لمحادثته و إعلامه بكمّ الاتصالات الواردة منها، تابعتهُ و هو يدلف بأريحية متجولًا بنظراته في المكان، فدلفت "ولاء" من خلفه ثم توقف أمامه و هي تُحذره:
ـ فارس.. يا ريت تمشي من هنا، أنا مش عايزة مشاكل مع صاحبتي!
انعطفت أنظارهِ إليها، و هو يرفع حاجبيه مستنكرًا:
ـ صاحبتك!.. هي فين صاحبتك دي؟
تنهدت "ولاء" بانزعاج شديد من أفعالهِ، بينما كان يشير للخلف و ثغره ينبعج بابتسامة هازئة:
ـ هي دي صاحبتك؟.. أومال أنا شايفها عدوة ليـه؟!
وجدت نفسها تلقائيًا تدفعه من كتفه فانحرفت نظراته نحوها، بينما كانت تتمتم من بين أسنانها المطبقة:
ـ فــارس.. أنا مش ناقصة رذالتك، يا ريت ترجعني بيتي أو تسيبني مع صاحبتي
تغضن جبينه و قد تلاشت السخرية عن محياه و هو يردف:
ـ صاحبتك مين يا ولاء؟.. انتي مصدقة نفسك
و اشار إلى تلك المطرقة باستهجان و هو يتابع و قد اشـتدت ملامحهُ:
ـ صاحبتك اللي ماشية وراها لحد ما كانت هتضيعك، صاحبتك اللي خليتك تشربي خمرة و خدتك ديسكو
و نظر نحوها باحتدام و هو يقول:
ـ ما تنطقي.. ما تقولي يا صاحبتها انتي كنتي هتعملي ايه!
و لكنها مبهوتة.. لم تردد حرفًا و قد شحب لون وجهها، فانتفض جسدها فجأة مع صرختهِ:
ـ انطــقي!
رمشت عدة مرات بارتباك و هي تضم كفيها معًا محاولة السيطرة على ارتجافة جسدها، ابتلعت ريقها بصعوبة و قد شعرت بجفاف حلقها، ثم وجّهت أبصارها نحو "ولاء" لتردف بلهجة مرتعشة:
ـ احنا.. متعرفناش على بعض صُدفة!
حملقت بها لثوان دون قدرة على الاستيعاب، ثم قالت ببلاهة:
ـ ازاي يعني يا وداد.. احنا اتقابلنا في الكافيه اللي في.....
قاطعتها "وداد" و هي تجفل بصرها:
ـ لأ.. مش مجرد صدفة، أنا اتبعتت ليكي عشان.. عشان أبقى قريبة منك دايمًا
بُهتت و خفت لون وجهها فتبدل بالصفرة الشاحبة، دقاتها قد تزايدت فدوى صوتها في أذنيها، و مع ذلك لم تصدق.. على محياها ابتسامة بلهاء و هي تدنو منها:
ـ ايه.. ايه اللي بتقوليه ده يا وداد؟
و تجلت الشراسة على ملامحها و هي تزجرهُ بنظراتها:
ـ انت.. انت اللي أجبرتها تقول كده يا فارس.. عشان عايزني أبقى وحيدة و ماليش حد، مش كده؟
فبادرت "وداد":
ـ لأ.. هو معملش حاجة، أنا.. أنا اللي اتبعتت ليكي
و كأنها مترددة لا تقوى على الاستفاضة في حديثها، فـ نظرة واحدة محذرة منه جعلتها تُطأطأ رأسها و هي تعبث بأناملها متابعة بصعوبة:
ـ كنت.. هخليكي مدمنة، دي كانت مهمتي!
و ازدردت ريقها لتبلل به جفاف حلقها، ثم استطردت و هي ترفع بصرها:
ـ و كنت هديكي أول جرعة.. لكن هو لحقك، كوباية العصير اللي كنتي هتشربيها،.. كان فيها هيروين!
و كأنها أسقطت نيزكًا فوق رأسها، نظرت صوبها بأعين متسعة عن آخرها و قد شعرت و كأن الدنيا تميدُ بها، رمشت عدة مرات و كأنها تحاول التأكد أن من تقف أمامها هي نفسها.. "وداد"، من شاطرتها أسرارها و أحزانها، من وضعت كامل ثقتها بها و بحثت عنها ليلًا نهارًا لتشاركها مشاعرها الشجية، و اذ بالدماء تندفع في عروقها و قد التهبت وجنتيها بحمرة غاضبة، زمجرت و هي تخطو نحوها هادرة باستهجان:
ـ انتي!.. انتي تعملي كده فيا! ليـه؟
و أشارت بكفها و هي تتابع:
ـ ده أنا آمنتك على كل أسراري، و شاركتك حياتي، حطيت كل ثقتي فيكي! بقيت ادور عليكي زي المجنونة لو غيبتي و في الآخر تطلعي كده
حاولت "وداد" التبرير و هي تحرف نظراتها بينها و بين "فارس" المتجمد عاقدًا ساعديه أمام صدره:
ـ أنا..
فهدرت بها ساخطة:
ـ انتي تخرسي خالص
و احتدت و هي تسألها:
ـ ميـن؟ مين اللي بعتك ليا!؟. مين قالك تعملي كدا فيا، قولي.. ميــن؟
و هدرت بكلمتها الأخيرة و هي تطيح بإحدى قطع الأنتيكة، و لكنها تيبست و هي تقول مرفرفة برموشها و قد تضاعف ارتباكها:
ـ مقدرش أقول
فدنت منها "ولاء" دافعة لها بعنف من كتفها للخلف و هي تصيح:
ـ يعني ايه متقدريش! يعني ايــه؟
حل "فارس" عقدة ساعديه حين نظرت "وداد" نحوه باستجداء.. هي نفذّت أمره حرفيًا، أطلعتها على ما كادت تفعل، و لكنها لم تُطلعها على الباعث لها، زفر أنفاسهِ الملتهبة و هو يخطو نحوهما، ثم قبض على عضدها و هو يقول:
ـ مش مهم.. المهم انك عرفتي صاحبتك اللي واثقة فيها طلعت مين
فنظرت نحوه باستهجان و هي تنطق بـ:
ـ يعني ايه مش مهم!.. يعني إيـه؟ قولي
فشدد من قبضته و هو يردف بخشونة:
ـ ولاء.. خلينا نمشي
و كاد يصحبها معه و لكنها قالت و هي تستوقفهُ:
‏ـ استنى يا فارس
‏أرخى قبضته قليلًا عنها فسحبت ذراعها، تلك الشعيرات الحمراء قد برزت وسط هالة عينيها البيضاء، و وجنتيها و كأنهما جمرتين متوقدتين، ملامحها المتشنجة و هي تخطو نحوها جعلتها تكاد تتراجع للخلف، و لكنها تجمدت بمحلها حين شعرت بألم يحيط بوجنتها و قد تلقت تلك الصفعة العنيفة التي دوى صوتها في أنحاء شقتها، تلمست "وداد" موضع صفعتها و قد تركت أنامل "ولاء" أثرًا، ثم التفتت لتنظر نحوها بأعين متسعة، فبادرت "ولاء" و هي تلوى شفتيها بازدراء تام:
‏ـ أنا لو ندمت على حاجة في حياتي.. مش هندم الا على معرفتي ليكي
‏و برحت محلها عقب أن منحتها نظرة مشمئزة من شخصها، أوفضت مارة من جواره بخطى متشنجة لتفر من ذلك المكان الذي أطبق على صدرها، و لكنها فور أن خطت لخارج المنزل توقفت محلها حين استمعتهُ يجيب على اتصال هاتفي وردهُ:
‏ـ ألو.. أيوة فارس، ليه؟ ايــه!
‏و أنهى المكالمة و هو يوفض للخارج ساحبًا لها من ذراعها خلفه:
‏ـ خلينا نمشي بسرعة
‏فاسترابت و هي تسأل و مازال ذلك التجهم عن وجهها:
‏ـ في ايه؟
‏نقر "فارس" زر استدعاء المصعد و هو يحرر كفه عنها، ثم مرر أنامله بين خصلاته و هو يحرر أنفاسًا ملتهبة عن صدرهِ:
‏ـ هُــدى.. ماتت
‏............................................................
گالطود العظيـم..
‏من يراهُ الآن لا يتكهن بانهيارهِ التام البارحة فقط، و هو يُشيعها مثواها الأخير، تعاون "فارس" في حمل تابوتها برفقتهِ و هو يمضى بها من باب المقبرة، حتى توقف أمام قبرها.. بوجه جامد متصلب خالي من التعبيرات، هبط كلاهُما ليترك بعدها التابوت أرضًا و وسط الرمال، ثم انحنى ليفتح التابوت، حمل جسدها المغلف بالكفن الأبيض و قد تواثب قلبه بين أضلعهِ، انحنى ليتركها جبرًا.. و كأنهُ لا يود مفارقتها، و لكن ما بيده حيلة، مرّ أمام عينيه تلك اللحظات التي سبق و أن عايشها قبلًا، و اليوم يعاد نفس الإحساس.. إنه يتيم من جديد، و تلك المرة هو قاتلها، هُــو.. و ليس غيره.
‏و بالرغم من تصلب ملامحهِ.. إلا أن خُضرة عينيه أُحيطتا بالشعيرات الدموية الملتهبة، حتى فرّت تلك الدمعة العابرة من احداهما و هو يستقيم في وقفتهِ، حمل "يامن" التابوت و صعد للأعلى ثم تركهُ توقف قليلًا ليسترق نظرة نحوها.. نظرة أخيرة لن تُكرر ثانية ما حيي، ثم أغلق قبرها، و توقف محله و قد شعر بصعوبة في التنفس.. لا يكاد يستمع كلمة واحدة من ذلك التجمع حوله، حتى "فارس" الذي وقف بجواره مؤازرًا لم يكترث له، فقط نظراته محدقة بقبرها، ألم يعتصر فؤادهِ و هو يقف هكذا و كأنه لا يعبأ، انتبه أخيرًا إلى "فارس" الذي ضمّ أناملهِ على كتفه و هو يسأله:
- انت كويس؟
زفرة قوية منه مشبعة بتلك النيران المتوقدة في صدره و تلتهم شظاياها منهُ، ثم أطبق جفنيه و هو يرفع كفيه، ليقرأ الفاتحة على روحها التي فارقتهُ.. بسببهِ.
‏................................................
‏قطعًا خشبية تتبعثر و تتشتت هنا و هناك...
تحت ‏أشعة الشمس الذهبية، عاري الصدر.. حبات العرق تتلالأ على عضلاته و تقاسيمهِ، و ذلك الفأس الذي يضرب بهُ ضربة واحدة فتكفى لتقسم كل قطعة أمامه لشطرين، و كأنهُ يحاول التنفيث عن نيرانه المتوقدة التي لا يجد لها مُخمدًا، عاقدًا حاجبيهِ و وجههُ محتفظًا بالتعبيرات الثابتة، و لكنها تبدلت.. تحولت للشراسة و هو يرفع الفأس عاليًا ثم يهوي به مجددًا، ثم يضع قطعة جديدة و هكذا، و ملامحه تتفاقم شراستها، لو أنهُ لم يتأخر.. لو أنه ترك زوجتهِ من أجلها لكان لحق بها، لو أنها لم تتسبب في تأخرهِ عنها لما كانت الآن بين يدي بارئها.. لو أنه لم يفرط في قسوته بحديثه معها لما كان ما كان، لو أنهُ فقط غفر ذنبها لكانت قيد الحياة الآن، و شرع يستهجن أفعالهِ، و كأن ما فعلته من سوء لم يكُن، ما ذنبها؟.. أذنبها أنها أُجبرت على العيش مع رجل لا يشعر بقيمتها، أذنبها أنها كانت السبب خلف ما هو عليه الآن؟.. ذنبها انها جعلتهُ رجلًا بحقّ، ذنبها أنها أخطأت كما أخطأ من قبل و أكثر من مرة؟ ذنبها أنها گأيّ امرأة تحتاج رجلًا يُشعرها بأنوثتها؟ و هل هو ملاك يطير بجناحين؟.. ألم يخطؤ قط؟ على العكس تمامًا، حياتهِ مليئة بالأخطاء ، فمن هو إذًا ليحاسبها على ذنب اقترفتهُ؟.. أهو إله كي يفعل؟ من هـو؟
‏"يامن".. إنه "يامن"، ذلك الذي يفعل ما يشاء دون أن يحاسبه أحد، و لا يقوى أحدهم على مجابهته حتى بأخطائه، ذلك الذي يحمل ضعفًا يحاول مواراتهِ خلف شخصيته المتجبرة تلك، روحه تثقلت بالذنوب و الأخطاء گأي بشريّ يُخطئ فيعود.. و لكنه لم يعد، و مازال يخطو مستكملًا سيره بذلك الطريق الوعر الذي سيكون آخرهُ جهنم.. فلم يحاسبها إذًا؟!
‏و ها هو ذنب جديد يقترفهُ.. و لكنه لن يُكفر عنه، و ليس لديه نية بفعل ذلك، و گأن شيطانهِ يستحوذ على تفكيره بتلك اللحظة تحديــدًا.. ارتكب أخطاءً عديدة، و لكنهُ لم يعبر الجانب المُظلم بعد، و قد أخطأ.. محاولاته الجمّة لئلا يرتكب ذلك الجرم الأكبر كانت خطأً منذ البداية، حياته التي رسمها بنفسهِ لنفسهِ سـ تُجبره على فعل ذلك.
‏ودّ فقط لو كانت تموت موتة طبيعية.. ود لو كانت قد كفرت عن ذنوبها فتخلد في النعيـم، و لكن ما يجعل قلبهُ يعتصر ألمًا و همّا هو أنها ارتكبت خطيئة لا تغتفر بحق نفسها.. خطيئة ستودى بها لجهنم..و بسببهِ.
‏لم يكن يدري كم مضى من الوقت ، حتى انتبه إلى صوتها الضعيف و هي تخطو نحوه فاركة جفنيها:
‏ـ يامن
‏ألقى بالفأس أرضًا دون أن يرفع نظراته صوبها، و صدره ينهج علوًا و هبوطًا، بينما كانت ترمش عدة مرات و هي تستأنف سيرها البطئ متلفتة حولها:
‏ـ احنا..فين؟
‏و لكنه لم يجب ايضًا.. تلمست عنقها بكفها و قد شعرت بجفافهِ للغاية، فأعربت لهُ عن ظمأها:
‏ـ أنا عطشانة اوي.. مفيش ميا؟
أطلق سراح زفيرًا متأججًا من صدرهِ.. ثم ‏سحب لها مقعدًا و دنا منها، تركهُ أمامها ثم أجلسها، و جلس أمامها أعلى صخرة مرتفعة، بسط كفه بالزجاجة البلاستيكيّةعلىو بسط كفهُ بلاو ، رمشت عدة مرات و قد شعرت بأشعة الشمس البرتقاليّة مسلطة على عينيها و هي تتناولها، ثم أجفلت بصرها و هي تطبق جفنيها بقنوط، و شرعت تتجرع نصف ما بالزجاجة تقريبًا ثم أسلمتها لهُ، لم تقوَ على النظر إليهِ، إلا حينما سألها بجمودٍ تام:
- أحسن؟
ارتفعت حينها أنظارها إليهِ، و تسلطت عليه، ثم أومأت بحركة خفيفة، و هي تغمغم بخفوتٍ:
- أحسن
فـ تفاجأت بهِ ينهض من أمامها و يخطو للداخل، و هو يأمرها بخشونة:
- تعالي
فنهضت هي الأخرى، توقفت بمحلها لثوانٍ تتابع مسارهِ بأعين شاردة، هبّ نسيم بارد، فضمّت أطراف الشال الصوفي الذي ترتيه محاولة أن تستمد الدفء منه، ثم همّت بالسير في أعقابهِ لداخل منزلهِ المكون من طابق واحد و الذي يقع وسط أرض شاسعة يملكها مُكتظة بالأشجار و النخيل يُظلل الأفق من بعيد، أشبه ببيت حجريّ.. يُطل بواجهتهِ على النيل مباشرة، المنزل بأكمله أشبه بغرفة واسعـة من الداخل مُقسمًا.. و كأنه متحررًا من تلك القيود، جزءً للمطبخ مفصولًا عن باقى المنزل بذلك الحاجز الرخاميّ، و على جانبًا آخر الفراش العريض بجواره كومود واحد فقط.. منضدة مستطيلة أمامها أريكة عريضة، و أمامهما مدفأة خشبية على الطراز القديم.. و لكنها تحمل لمحة حديثة فجمعت بمزيج من كلاهما جعلت لها مظهرًا راقيًا.. حتى الخزانة غير موجودة، فظلّت الحقائب المعدة مركونة في زاوية ما، و كأنهُ غير مخصص للمعيشة، فقط المكوث بعض الوقت و الرحيل...
خطى للداخل، سحب قداحته و سيجارة من علبة سجائره و استأنف سيره و هو يشعلها ثم دس القداحة في جيب بنطالهِ، توقف أمام حقيبة ملابسهما، و انحنى ليفتحها مخرجًا ثوبًا بعينه و تركه أعلى الفراش.. ثم خطى متابعًا سيره حتى توقف أمام الحاجز الزجاجي المُطلّ على النيل الذي تلألأت صفحتهِ بفعل أشعة الشمس، حتى استمع إلى خطواتهِا من خلفهِ، فلم يلتفت و هو يسحب نفسًا عميقًا من سيجارته، زفره و كانه ينفث نيرانًا قابعة بين أضلعه، حتى اتاه صوتها الخافت المرتاب من خلفه:
‏ـ يامن؟
‏أشار بعينيه نحو الفراش ثم قال بلهجة متصلبة:
‏ـ البسي ده
‏نظرت صوب الفراش و قد شعرت و كأن طاقتها نفذت منذ مدة، ضاقت عيناها و هي تساله بخفوت منهك:
‏ـ اسود؟
‏حينها التفت نحوها، نظر لها نظرة مطولة و تلك السحابة الرمادية تنبعث من بين شفتيه، ثم قال بلهجة قاتمة تشبعت بالتهكّم القاسي:
‏ـ المرة دي الاسود هو اللي اختارني!
‏و حاد بأنظارهِ عنها و هو يقول بلهجة غامضة بينما يملأ رئتيه بتلك المادة السامّة:
‏ـ و اختارك معايا!
‏..................................................
‏أصابها الحُـزن..
‏ليس شعورًا عميقًا إلى ذلك الحد نظرًا لعداوتهما.. و لكنها تبقى روحًا أتت عليها الحياة و ضاقت بما رحبت فانتهى بها الأمر مرتكبة تلك الجريمة.
جلست بجوارها مُباشرة و قد بدا الأسى على صفحة وجهها، زفرة عميقة صدرت عنها و هي تربت على كتف ابنتها الباكية قائلة:
ـ لا حول و لا قوة الا بالله، اهدي يا بنتي.. ده مقدر و مكتوب
فنظرت "يارا" صوبها و هي تمسح أنفها بمنديل وقيّ:
ـ أنا السبب! أنا السبب في موتها
و أحنت بصرها و هي تتابع بنشيج خافت:
ـ يا ريتني سيبته يروحلها، كان فاتها عايشة دلوقتي
و قد رفض أن يجيبها.. رفض أن يبرر، رفض أن يعملها أيّ شئ، و فجأة وجدت نفسها بمنتصف قصرهِ، تقصّ عليها "سهير" ما حدث عندما دلفت بالغرفة مصادفة لتجدها هكذا عقب أن يئست من عودة ابنها، و كأنها كان تنتظر رؤيته للمرة الأخيرة.. و لكنهُ حرمها ذلك، فما كانت تود الانتظار، حينها فقط أيقنت أنها المتسببة بتلك الكوارث التي حلّت على رأسهِ، و بسبب انتقام تافه اعتقدت أنها ستستعيد جزءً من كرامتها بهِ و ان كانت تخلت عنه في النهاية.. و لكنها تبقى المتسبب الوحيد.
و لم تستفق سوى مع انحناء "حبيبة" لتطبع قبلة حانية على جبينها ثم أردفت و هي تضمّ شفتيها:
ـ انتي ملكيش ذنب يا حبيبتي، ده عمرها
هزّت "يارا" رأسها بالسلب و هي تردد بقنوطٍ:
- انتي متعرفيش حاجة يا ماما، مش هتفهمي حاجة
شددت "حبيبة" على أناملها لتجذب انتباهها الكامل إليها، و رددت بإصرارٍ لم يخبت:
- مش ده المهم.. الأهم قوليلي
تجعّد وجهها في ضيقٍ و هي تمسح أنفها المحمرّ بالمنديل الورقيّ من جديد و قد استشفّت ما ستقول، و بالفعل.. رددت "حبيبة" بإصرارٍ لم يخبت:
- معرفتيش هيطلقك امتي؟
كلمة واحدة جعلت مشاهدًا عايشتها برفقتهِ تلوح أمام ناظريها، انقبض صدرها و هي تحرف بصرها إليها، و قد شعرت بالأرض تضيق عليها بما رحبت، لفظت أنفاسها الملتهبة و أعقبتها بقولها و هي تحنى بصرها في فتورٍ تام:
- معرفش
زفرت "حبيبة" يأسًا، و لم تتمكن من منع نفسها من التفوّه الممتعض بـ:
- ما انتي لو كان عندك أب كان فاتك متطلقة من زمان، لو كان وقف جمبك مكنش هيبقى ده حالك
فوجهت "يارا" بصرها نحوها، و قد اهتاجت فجأة.. فصاحت دون مراعاة أو وعي:
- مامـا، انتي شايفة ان ده المكان المناسب لكلامك؟
فكان ردّ "حبيبة" مقنعًا و هي تردد بلهجة جادة للغاية:
- مفيش أنسب من الوقت ده يا يارا، لسه هتتورطي مع العيلة دي أكتر من كده إيه؟
و صمتت هنيهة تراقب تعبيرات وجهها المتقلصة، ثم أردفت:
- الحمد لله.. الناس كلها عارفة انكم متجوزين و خلاص خلصنا من الموضوع ده، دلوقتي جه الوقت اللي الحكاية دي تخلص فيه زي ما بدأت
حادت "يارا" ببصرها و قد شعرت بثقلٍ يجثُم على أضلعها، احتفظ وجهها بتقاسيمهِ المتقلصة و هي تردد بتشنجٍ غلف نبرتها:
- خلى الكلام ده وقت تاني، أنا فيا اللي مكفيني
فبزغ صوت "حبيبة" المعاتب بلهجتهِ الجافّة:
- يارا.. انتي لازم تكلميه، لازم يبقي ليكي رأي و صوت، لازم تحاولي تطلعي نفسك من الورطة اللي ورطي نفسك فيها من غير تفكير
فانفجرت في وجهها و قد أشعلت "حبيبة" فتيلها دون وعي منها:
- مكنش بإيدي.. كنت بحاول أحميه، مكنتش ذنبي إنه طلع ميستاهلش
و قبل أن تهمّ "حبيبة" بسؤالها عن مقصدها و قد تغضّن جبينها، أردفت "يارا" بمنطقيّة متعمدة إخفاء طبيعة وضعيهما و ما مرّا بهِ:
- و أظن انتي شايفة الوضع، مقدرش أتكلم في حاجة دلوقتي
فلم تصمت "حبيبة" أيضًا حينئذ، حيث رددت مُحتجّة:
- يارا.. أنا و انتي عارفين إنه عمره ما حبها
تطلعت إليها بعينينٍ لاح فيهما الاستنكار التام، ثم قالت مستدركة دون أن تنتبه لحمئتها الزائدة:
- بالعكس.. يامن لو شوفتيه هتقولي إن مش هامه حاجة، لكن أنا أكتر واحدة فاهماه
و أصرفت بصرها عنها، أطلقت سراح زفيرًا ملتهبًا من صدرها و هي تطبق جفونها، ثم عادت تفرّقهم لتردد بصوتٍ غلب عليهِ الشرود:
- و دي أكتر حاجة قلقاني، إنه مش مبين حاجة
تطلعت "حبيبة" إليها بتعمق شديد، و كأنها تعمدت أن تحاول إدراك حقيقة مشاعرها، تغيرت.. و ترى ذلك التغير بعواطفها نحوه بوضوح باديًا بين تقاسيم وجهها، و كأنها تعرف شعورها إذ عايشتهُ.. الحب، و لكنها اكتشفت أنهُ مجرد سراب، و تخشى أن يكون مصير ابنتها گمصيرها، تحب.. فتعيشُ أبد الدهرِ ترشفُ الهمّ من كؤوسهِ المرة، مقابل محاولاتها الجمّة للتشبث بذلك الحُب.
انتبهت "يارا" إلى انغماسها في شرودها، و خشت أن تكون أبدت ما لم تنتبه إليه، أو أن والدتها كشفتها بيسر، و قرأت ما يجول بخاطرها ككتابٍ مفتوح، فحمحمت و هي تمسح وجنتيها بأطراف أناملها، و نظرت نحوها من طرفها، تلفتت حولها ثم سلّطت بصرها عليها، و سألت و هي تغضن جبينها:
ـ ولاء فين؟ مش هتيجي؟
ابتلعت "يارا" ريقها، حين وجدتها لا تصرف بصرها المعاتب عنها، و كأنها شردت فيها و قد احتلّ اليأس تقاسيم وجهها، ثم غمغمت متسائلة:
- ماما.. روحتي فين؟
حادت "حبيبة" بأنظارها و هي تردد بجفاءٍ التمستهُ "يارا":
- لأ.. مرضيتش تيجي
- يارا
تنبهت "يارا" إلى صوت رفيقتها، فنهضت عن جلستها و كأنها وجدت ملاذها، ارتمت في أحضانها و قد انهمرت دموعها بصمت:
ـ رهيـف!
شددت من اطباقها عليها، محاولة أن تبث رسالة إليها، تفهمتها "رهيف" و حالما ابتعدت كانت تهمس و هي تمسد على خصلاتها:
ـ تعالى نتكلم في مكان بعيد شوية
و نظرت نحو "حبيبة" التي نهضت لاستقبالها.. ثم قالت:
ـ عن اذنك يا طنط، هاخد يارا شوية
أشارت "حبيية" بكفها و هي تقول بخفوت:
ـ اتفضل يا حبيبتي
و انتقلت معها نخو نقطة بعيدة نوعًا ما.. أجلستها "يارا" على احدى الأرائك متلفتة حولها لتضمن عدم متابعة أحدهم لها، بينما "رهيف" تسألها و هي تطبق على ساعدها:
ـ انتي فين يا بنتي من امبارح؟.. رنيت عليكي كتير لكن مرديتيش، قلقتيني!
استجمعت "يارا" شتاتها و هي تسلط بصرها عليها ثم قالت متنهدة بأسى:
ـ في حجات كتيـر حصلت، مش لاقية غيرك أحكيله
........................................................
و گأن شيئًا لم يكن..
من ينظر إليه يحسبهُ جامدًا لا يُبالى، وحدها من تمكنت من قراءة سطور عينيه الثاقبتين، وحدها من تمكنت من رؤية غمامة الحزن التي تُطل على خضراويه، وحدها من تُفسر تلك الحمرة المتمثلة في الشعيرات الدموية المحاوطة لهما.
صلدًا.. ثابتًا.. متماسكًا.. منتصبًا في وقفته.. يرتدي حلته القاتمة التي تعتبر جزءً لا يتجزأ منه، يتلقى واجب العزاء في السرادق المقام جوار القصر تحديدًا، بجوارهِ يقف "فارس"
انتبه "يامن" إلى تلك اليد الممدودة نحوهُ فتقوست شفتيه بضيق واضح و هو يضطر لمصافحتهِ و:
ـ البقاء لله
أحاد "يامن" بناظريه عنه و هو يجيبه باقتضابٍ:
ـ الدوام لله وحده
و نفض كفه عنهُ، فالتوى ثغر "راشد" بابتسامة سخيفة و هو يُصافح "فارس" ثم دلف للداخل بين الجموع، تابعتهُ نظرات "يامن" الممتعضة بينما كان "فارس" يقول متأففًا:
ـ بارد
مرر "يامن" أنامله بخصلاته و هو يردف مزدريًا:
ـ سيبك منـ...
و قبل أن يُتمم كلمتهِ تفاجأ بتلك اللكمة التي وجهت صوب وجنتهِ اليسرى، توسعت عينا "فارس" من تلك الحركة الجريئة، تلمس "يامن" وجنته و قد تحول وجهه لكتلة ملتهبة و هو يلتفت لينظر صوب الفاعل، فرمش عدة مرات و قد خمدت قليلًا ما به من ثورة أُشعلت منذ ثوان فقط، حينما كان الأخير يبادر باهتياج:
ـ ارتحت؟.. ارتحت لما ماتت؟ ارتحت لما انتحرت بسببك و بسببي و بسببنا كلنا؟ ارتحت؟
نظر "فارس" حوله حيث الأنظار المسلطة عليهم، ثم أطبق على ساعده و هو يحذره بقولهِ:
ـ ايه اللي بتعمله ده؟.. ده وقته! الناس كلها بتتفرج
فاجتذب "عمر" ذراعه و هو ينظر نحوه مغتاظًا، ثم ردد بامتعاضٍ:
ـ يا ريت تكون ارتحت انت كمان.. ما انت كنت تطيق العمى و لا تطيقها
فزفر "فارس" و هو ينفي قوله:
ـ استغفر الله العظيم! ايه اللي بتقوله ده، مهما حصل دي مرات أبويا أكيد مش هفرح في موتها
تقوست شفتا "عمر" و هو يدنو من أخيه مقلصًا المسافة بينهما محدجًا اياه بنظراته المحتدمة ثم أردف من بين أسنانهِ:
ـ أمي ماتت و أنا بعيد عنها، ماتت و مقضيتش آخر أيامي معاها! و كل ده بسببك
و كوّر قبضته و هو يستطرد بسخطٍ تام:
ـ خدت منها كل حاجة.. كل حاجة و سيبتها لوحدها، حتى جوزها خدته منها.. و كله بسبب مين؟
و أشار بسبابته و هو يهدر بصوتٍ ارتفع و قد بزغت عروق جبينه:
ـ كله بسبب الهانم يارا الحديدي.. بنت حسين الحديدي، مش كده يا يامن بيـه؟
ثم نقر بسبابته على صدره و هو يقول مشددًا على كلامته متهمًا اياه:
ـ أنا أمي مماتتش.. مقتلتش نفسها، أمي ماتت مقتولة.. انت.. انت اللي قتلتها، انت اللي خلصت عليها
ـ اضرب!
رمش "عمر" عدة مرات وسط احمرار عينيه بينما كان "يامن" يوجهه و هو يمسك بإحدى كفيه المكورين:
ـ اضرب تاني...اضرب!
و لم ينتظر منهُ أمرًا.. حيث كان يوجه لكمتهِ نحو صدغهِ و هو يزمجر غاضبًا، لكمة تشبعت بآلام روحه الناضجة، عاد "يامن" إثرها لخلف و هو ينزح تلك الدماء عن شِفاههِ، بينما كان "عمر" يتأوه متألمًا من فرط عنفهِ، أشرف "يامن" عليه بقامته من جديد و هو يستقبل الضربة التالية بسعة صدر:
ـ اضرب كمان.. اضرب، اضرب
و لكنه وجدهُ جامدًا بمجله و هو يرمقه بازدراء فجأر بهِ باهتياج:
ـ اضـــــرب!
و حينها تلقى لكمة لأنفهِ، و لم ينفك "عمر" و راح يسدد له لكمة أخرى حتى تراجع "يامن" خطوة واحدة للخلف و صدره ينهج علوًا و هبوطًا و هو يتحسس بأنامله تلك الدماء التي سالت من أنفهِ، ثم نظر نحوه و حثّه من جديد:
ـ اضرب كمان.. اضرب
حينها توقف "فارس" في المنتصف و هو يفصل بينهما معنفًا:
ـ بتعملوا ايه؟.. احترموا المكان اللي واقفين فيه على الأقل
و تحرك "مايكل" ايضًا ليدنو منهم عقب أن لاحظ اضطراب الوضع، وقف في مواجهة "يامن" و هو يقول متعجبًا:
ـ What are you doing?
حاول "عمر" الفكاك من بين ذراعيّ "فارس" و هو يصيح باحتدام مفرط:
ـ ضيعتنا.. ضيعتنا كلنا عشان خاطرها، عمي سجنته و أنا نفيتني، و أمي قتلتها!.. ضيعتنا كلنا عشانها
أتبع كلماتهِ بصراخه الهادر:
ـ انت ايه يا أخي؟ لعنة؟.. لعنة على كل واحد حبّك؟ لعنة علينا كلنا
ـ ليه بس كده؟.. ما تهدوا شوية! ده عزا برضو يا جماعة مينفعش كده
حينها اتجهت أنظاره المتوهجة نحوه، فشعر بلهيبهِ المتقد قد بلغ ذروتهِ، انطبقت أسنانهِ ثم همس من بينهما و هو يسبّه:
ـ آه يا *****
دفع بقسوة جسد "مايكل" الذي انحرفت عيناهُ الخضراء نحو شيئًا ما، فتراجع للخلف قليلًا و هو يسمح لـ "يامن" بالعبور، التفت الى "فارس" فوجده منشغلًا بمحاولة امتصاص غضب ابن عمهِ، فعقد العزم على المبادرة، بينما كان "يامن" يشق طريقه نحوه، و لم يتوقف.. بل اجتذبهُ من ياقتهِ بإحدى كفيهِ ليدحرهُ عن هنا، حتى ابتعدا بقدرٍ كافٍ عن السرادق، فأطبق على تلابيبهِ و هو يغرس نظراته في عينيه:
ـ جاي تشمت في موت أمي يا حديدي؟
فكان باردًا للغاية و هو يحاول إزاحة كفيه:
ـ تؤ!.. حاشا لله، و ده ينفع برضو
و افترّ ثغره بابتسامة باردة:
ـ ده أنا جاي أقوم الواجب يا جوز بنتي
دفعهُ "يامن" بعنف للخلف ثم جأر و قد تشنجت عضلات عنقه:
ـ اطلع بــرا.. بـــرا
ضبط "حسين" سترته و ياقته و هو يناظره باستخفاف، ثُم قال مؤنبًا:
ـ كده؟.. بقى أنا آجي أعزيك تطردني؟ هو ده ينفع برضو
فعاد يجتذبه مجددًا.. أطبق على تلابيبه و هو يناظرهُ باحتدام واضح ثم همس بهسيس شيطاني:
ـ اسمع يا حديدي.. أنا شياطين الدنيا كلها بتتنط في وشي
و أرخى كفيه عنه قليلًا و أنفاسه الملتهبة تلفح صفحة وجه الأخير، ثم ربت بعنف على كتفيه و هو يقول:
ـ لم الدور بقى و اطلع من نفسك.. بدل ما أطلعك أنا بطريقتي
مرر "حسين" أنامله في خصلاته التي غلب عليها اللون الأبيض معيدًا ترتيبها ثم غمغم و ابتسامة ساخرة تلوح على شفتيه:
ـ واضح انك مضايق على موتها.. معلش، ما هي برضو مماتتش موتة ربنا.. دي انتحرت!
و لوى شفتيه و هو يربت على كتفه برفق مؤازرًا:
ـ ربنا معاك يا حبيبي، خد بالك على باقية عيلتك بقى
و ضاقت عيناه و هو يقول قاصدًا سكب البنزين فوق نيرانه:
ـ هو انت لسه باقي لك مين صحيح؟
و أومأ و كأنه تذكر فجأة:
ـ صح..صح افتكرت، أخوك و ابن كمال.. و مراتك اللي هي بنتي طبعًا
و توسعت ابتسامته و هو يقول باستخفاف:
ـ اوعى تقصر في حق حد منهم بقى يا.. يامن، خد بالك منهم!
........................................................
..............................
............................................................................


في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now