"الفصل الثاني و الستّون"

626 19 2
                                    

" الفصل الثاني و الستون"
كانت تنتظرهُ ليستكمل الإجراءات أمام الاستقبال بالفندق الفخم، فأخذت تتأملهُ بأعين منبهرة، حتى تنبّهت لصوتهِ و هو يناولها بطاقة ذكية لدخول الغرف:
- اتفضلي
تناولتها منه و هي تسألهُ مضيقة عينيها:
- و انت؟
فأومأ و كأنهُ يطمئنها مرددًا:
- هكون في الأوضة اللي جمبك بالظبط عشان لو احتاجتي حاجة مني في أي وقت
فامتنّت لهُ بجفاف في تناقضٍ بداخلها و هي تحنى بصرها لتتفحص بطاقتها:
- شكرًا.. بس أكيد مش هحتاج منك حاجة
أشار "فارس" بعينيهِ المرتكزتين عليها و هو يشمل تقاسيم وجهها المحببة قائلًا بلهجة ذات مغزى مُحدد:
- مين عالم.. يمكن توقعي نفسك في مصيبة تانية و أضطر آجي ألحقك!
ضاقت عيناها و هي تنظر نحوه بتمقُّط شديد، فحاد بنظراتهِ عنها و هو يحكّ صدغه مردفًا:
- ميعادنا مع الدكتور بكرة.. فاطلعي ارتاحي شوية، أكيد تعبانة من السفر
فقالت بانزعاج واضح:
- طيب.. و ماما؟
فنظر نحوها مجددًا و هو يقول محاولًا بثّ الأمان في نفسها:
- هكلم يامن أشوف الدكتور قال إيه.. متقلقيش
أومأ "ولاء" برأسها و هي تنظر حولها متأملة المكان بأعين شاردة، ثم عادت تنظر نحوه و هي تعبث بحقيبة يدها بارتباك سكن داخلها و لم ترد أن يطفو على سطح وجهها:
- فارس.. تفتكر أنا هتعالج، تفتكر هرجع زي الأول
و كأنهُ انتشى مع سماعهِ لاسمه يُلفظ من بين شفتيها يشوبه اضطراب التمسهُ بيسر بالغ، تسلطت عينيه على نظراتها الزائغة متأملًا عمق عينيها السوداوين التى تحيطهما الأهداب الكثيفة فشبه عينيها بعيون الغزال، طوال سكونهِ جعلها تنظر نحوه محاولة استنباط سبب صمته، فوجدته يحدق بها بشكلٍ فاقم ارتباكها، عبثت بأناملها حينما كان هو ينطق أخيرًا و هو يتهرب بنظراته عن عينيها:
- و أحسن من الأول كمان، متفكريش كتير
 و أشار إلى العامل الذي حمل الحقائب الخاصة بهم استعدادًا لتتقدم:
- يالا بينا يا خُسن!
و سار من أمامها دون حتى أن ينتظرها، فتعقّبته بنظراتها المحتدة و هي تقول بسخط:
- ماشي يا فارس .. ماشي
..............................................................
و أخيرًا تسنى لها الدخول إليها، جلست جوارها مباشرة على مقعد جلدي، و راحت تتأمل ملامحها عن كثب، شعرت برغبة عارمة في البكاء و هي ترى وجهها المحاط بالشاش الطبيّ ليواري تشوههِ خلفه، غزت رؤيتها تشوهات "يامن" فخشت أن تجد ذلك في وجه والدتها، خصلاتها حتى بعضها قد احترقت، و ذراعيها تشوها تمامًا، كل ذلك لم ترهُ كونه مغطى بالشاش، ترقرقت العبرات بغزارة في عينيها و هي تحدق بها بنظرات شجيّة، حررت زفيرًا من صدرها ألهب جسدها بأكمله، و بحذر شديد تلمست كف والدتها و هي تتوسلها بصوت غصّ بالبكاء:
- ماما.. متسببنيش أرجوكي، عشان خاطري يا ماما خليكي معايا، أرجـوكي
و انحنت لتطبع قبلة حانية على الجزء الظاهر من كفها و غير المخفي خلف الشاش، ثم رفعت نظراتها إليها و هي تقول بآسى:
- أنا عارفة إنك عايزة تسيبينا.. لكن أرجوكي، أرجوكي متعمليش كده، أنا هعوضك عن أي حاجة يا ماما، لكن متسيبينيش، أنا محتاجاكي
نهضت بتروٍ عن المقعد و قد انتبهت إلى الباب الذي فُتح على مصراعيه، و دلف "يامن" من خلاله ثم أوصده مجددًا، ألقى "يامن" نظرة عابرة على "حبيبة" ثم عاد ينظر نحوها حين سألتهُ بارتياب شديد و هي تدنو منه:
- الدكتور قال إيه؟
وقفت أمامه مباشرة فقال مطمئنًا، مبررًا اغمائة والدتها التي طالت و هو يحيد ببصرهِ:
- السبب نفسي أكتر، لكن مفيش حاجة تقلق
تنفست الصعداء و هي تطبق جفنيها ارتياحًا:
- الحمد لله
فـ أضاف "يامن" دون أن ينظر نحوها:
- التشوه اللي حصل لها.. هيحتاج عملية تجميل، و كل ده هيتحل
فنظرت نحوهُ مغضنة جبينها و بتعجبٍ سألته:
- طب و انت؟
حينها ارتكز ببصرهِ عليها، حل عقدة حاجبيه ليرفع الأيسر استنكارًا، ثم دنا منها مقلصًا المسافة و هو يسألها بصوت جاف للغاية:
- خير؟.. قرفانة مني و أنا كده؟
تحرّجت قليلًا من التطرق لتلك المسألة التي تعتبرها حساسة للغاية لديهِ، فما أصاب والدتها حتى لا يُقارن بما أصابه.
لامتهُ "يارا" بنظراتها ثم قالت بخفوت حذر:
- ده مش قصدي أبدًا
فاحتد و هو يسألها و نظراته المحتدمة تتجول على صفحة وجهها:
- أومال قصدك إيه؟
فعرضت عليه و هي تحيد بنظراتها عنه:
- ليه متعملش عملية برضو؟.. إيه اللي هيحصل لو....
قاطعها مقوسًا شفتيه باستهجان:
- مش عايز.. إيه همّك؟
فنطقت باسمهِ بانزعاج مُعاتب:
- يامـن.. قولتلك مقصدش حاجة
لوى شدقيه بقسوة و هو ينظر نحوها بفتور، ثم ابتعد عنها و هو يخلع سترتهِ و قد توهج جسده بأكملهِ من طول تلك الفترة، و ألقاها على مقعد ما و هو يمضى نحو النافذة التي تاخذ عرض الحائط و لكنها قصيرة فتنتنصفهُ، أزاح الستائر الصفراء اللون و المخططة بالأبيض ليحملق بالمظهر الخارجيّ النافذ من الزجاج المريح للعين حيث تقع غرفتها بجوار شجرة ضخمة للغاية امتدت فروعها و أغصانها فألقت بأوراقها الخضراء على مقربة منهم، دس كفيه بجيبيه و هو يقف موليا ظهرهُ لها، فخطت "يارا" نحوهُ و هي تشير لسترته التي تركها و قد احتدت:
- شايف؟ هو ده قصدي.. انت بتعذب نفسك، بتتألم و مش بتتكلم، رافض حتى إنك تاخد مسكن لوجعك، و رافض إنك تدهن أي حاجة على ضهرك.. على الأقل ماما مش حاسة بحاجة، لكن انت واعي لكل حاجة و حاسس بكل ألم بتمر بيه
و صمتت هنيهة لتلتقط أنفاسها المهتاجة، ثم تابعت باستهجان:
- معيش نفسك في جحيم.. انت حرقت صدرك بالسجاير، بقيت بتخلص بالعلب في اليوم الواحد، بتعمل كده ليه في نفسك
اصطبغ وجههُ بالحمرة الفاقعة و هو يلتفت نحوها ليجأر:
- أنا أمي اتقتلت.. اتقتلت و مش عارف آخد حقها، عايزاني أعيش فين؟ في جنـة؟
تجمدت تعبيراتها من فرط الصدمة.. حملقت به مطولًا و بأعينه الشرسة التي ارتكزت عليها و هي تسألهُ بشدوه:
- اتـ..ـقتلت؟ اللي أعرفه إنها.. انتحرت!
حاد بناظريه عنها و هو يردد بجفاء يناقض ثورة بركانهِ:
- منتحرتش.. جوزها قتلها
رمشت عدة مرات و هي تسأله بتشكك:
- عمك؟
أطبق جفنيه مطلقًا زفيرًا ملتهبًا ثم فتحهما مجددًا دون أن يجيبها، فدنت منه أكثر و هي تسأله باستكار لائم:
- و انت عشان كده معذب نفسك
فتقوست شفتيه إزدراءً و هو  يشير بسبابتهِ:
- قاتل أمي عايش حياته عادي و بيتهني بيها و انتي عايزاني أعمل إيه؟
فقالت و هي تهز رأسها متذمرة:
- مفيش علاقة أصلًا.. بتعذب نفسك ليه؟ انت إيه ذنبك
نظر نحوها نظرة معبرة و هو يقول مخرسًا إيّاها بوقاحة زائدة:
- عشان مراتي حبت نلعب عريس و عروسة فخليتني أسيب أمي تتقتل!.. عرفتي ليه و لا لسه؟
تشربت وجنتيها بالحمرة الفاقعة و لم تقوَ حتى على النظر نحوه عقب كلمته، أحنت ناظريها و هي تغمغم بينما تعبث بأناملها:
- كنت خايفة  ترجع من عندها زي ما رجعت قبل كده، كنت خايفة تخليك تكرهني و...
فقاطعها بلهجة قاسية:
- و أديني روحت ملاقيتهاش.. ارتاحي!
و سحب سترتهِ و همّ بالخروج فاستوقفته باستنكار:
- انت رايح فين؟
- في داهية
و خرج صافعًا الباب بعن من خلفه، فتهالك جسدها على المقعد و هي تتأفف في ضيق أطبق على صدرها، و كأنها تألمت مع أول فراق منهُ.. بل تألمت بالفعل و قد شعرت برحيله كطعنة نافذة لمنتصف صدرها، إنهُ يحمل فوق كتفيه ثقلًا يكاد يحنى كاهلهُ.. و لكنه كالجبل الشامخ يواريه جيدًا و يتحمل مالا يتحملهُ بشري، دفنت وجهها في كفيها و هي تهمس بانزعاج:
- أوف
..........................................................
و لم يعد إليها سوى ليلًا.. و اصطحبها خارج المشفى و قد بات أكثر جفاءً معها، حتى وصلا الفندق القريب منها، أنهى "يامن" إجراءات الدخول و هي تقف بجواره، حتى انتهى فالتفت ليأمره بـ:
- امشي
ضاقت عيناها و قد احتدت و هي تسأله:
- انت حجزت أوضة واحدة؟
حدجها بنظرة حانقة من طرفهِ، ثم سار بارحًا محله فتبعتهُ و العامل من خلفهم، حاولت مجاراة خطواته و هي تردد محتجة:
- احجزلي أوضة تانية.. مش عايزة أبات معاك
لم يبالي بها، فزمجرت و هي تقول باحتداد:
- يامــن.. مش هنام معاك في نفس الأوضة، تمام؟
توقف محله بشكل مفاجئ فارتطمت بظهره و ارتد جسدها، كادت تسقط و لكنه استدار ليوازن جسدها قابضًا على مرفقها، و اجتذب جسدها إليه و هو يخفض رأسه نحوها ليردد من بين أسنانه المطبقة:
- يارا.. عدي يومك لأني على أخرى
فتعنّدت و لم تتراجع عن قرارها و هي تغرس نظراتها القوية بعينيه:
- و أنا قولتلك مش هبات معاك في نفس الأوضة.. أوكي؟
فردد و قد ارتفع حاجبه الأيسر باستنكار:
- يعني ده آخر كلام عندك؟
أومأت مؤكدة و قد استنبطت أنهُ سيوافق على مطلبها:
- أيوة
- سوري.. الأوبشن ده مش عندي
و بمقدمة رأسهِ بطح جبينها بطحة عنيفة أفقدتها الوعي على الفور تجمّد العامل محلهُ و هو يرتكز بأعينه المتوسعة عليهما، ضربته تلك ألمتهُ أولًا كون رأسهُ مصابًا.. و لكنها لم يبالي و لم يظهر تأثرًا و هو ينحني عليها ليمرر ذراعه خلف ركبتيها حينما كانت تهمس من بين اللاوعي:
- آآه.. يا همجي، حرام عليك
حملها بين ذراعيه متحاملًا على آلام ظهره الطاحنة، ثم قال ببرود و هو يخطو متابعًا سيره:
- عشان تبقى تفكري مرتين قبل ما تعندي قصادي بعد كده!
توقف محلهُ و هو يلتفت ليجد العامل متيبسًا محله، فقال محادثًا إياه بالإيطالية:
- تحرك، أستقف هكذا؟
فسار من فورهِ و هو يحمل الحقائب دون التفوه بحرف، فتابع " يامن" سيرهُ نحو غرفتهِ و قد سئم تعندها الزائد معهُ.
...........................................................
 تأوهت بصوت خفيض و هي تتحسس جبهتها بتألم بالغ معتدلة في جلستها، ضاقت عيناها باغتياظ شديد و هي تبحث عنه في أرجاء الغرفة هنا و هناك حتى ارتكزت بناظريها على الباب، انتوت أن تفسد عليه يومه بأكمله بسبب فعلته، و كأنها شعرت بها حجة مناسبة لتحاسبه على أخطائهِ أجمع معها، نهضت عن الفراش و هي تغمغم بـ:
- همجي
و تسللت على أطراف أناملها و قد استمعت لهدير المياه من الداخل، فأطبقت أسنانها و هي تدمدم ساخطة:
- بتاخد شاور و مستمتع و لا على بالك اللي انت بطحتها دي!
و أخفضت ناظريها و هي تجلس على طرف الفراش، استعادت كلماتهِ فأشعرتها بالذنب كونها كانت سببًا رئيسيًا في موت والدتهِ أيضًا، و ذلك الشعور جعل ضيقها يتفاقم، أطبق جفنيها و اعتصرتهما بقوة و هي تردد بترح بادي:
- كفاية أوي اللي اتسببت فيه ليك.. وجودي لعنة في حياتك
ارتدت قناع العناد و التحدي حين تعبقت الغرفة برائحة سائل الاستحمام المنعشة، فرفعت أنظارها نحوهُ.. و على عكس ما توقعت كان يرتدى بنطالهِ و قميصٍ داخلي أسود اللون أبرز عضلات ذراعيه، و كأنه تيقن من أنها استعادت وعيها فواري كالمعتاد ظهره عن أنظارها، ترك المنشفة جانبًا و وقف أمام منضدة الزينة عقب أن شملها بنظرة باردة غير مكترثة، و شرع يعيد خصلاته المبتلة للخلف نافضًا إياها، عقدت "يارا" ساعديها و هي تتأملهُ بنظراتها المحتدة و هي تهز إحدى ساقيها بانفعال، ثم سألته باحتداد:
- ممكن تقولي إيه اللي عملته ده؟
نظر بانعكاس صورتها في المرآة، ثم حاد عنها و هو ينظر لنفسهِ مرددًا ببلادة:
- ما قولتلك.. عشان تتعلمي تتحديني بعد كده
فجأرت و هي تنهض بتشنج عن جلستها:
- انت انسان همجي
التفت نحوها ليرمقها بنظرة محتدة ثم قال محذرًا:
- عدي ليلتك
فتحدتهُ أيضًا و هي تقول:
- و لو معديتهاش هتعمل فيا إيه؟ هتطلع روحي في إيدك؟
فضرب براحتهِ على سطح منضدة الزينة و هو يهدر بتشنج:
- إنتي عايزة إيـه؟
فنطقت باحتدامٍ دون أن تكترث لردّ فعلهِ:
- تطلقني
فجأر بها في المقابل و قد توهّج وجههُ تمامًا:
- شيلي كلمة الطلاق من دماغك، طلاق مش هطلق
فدنت منه.. قطعت المسافة الفاصلة بينهما و هي تردد باستهجانٍ غير زائف:
- ليــه؟ مش السبب اللي اتجوزتني عشانه راح؟.. مش خلاص السبب اللي وافقت أتجوزك عشانه راح؟ مش اللي كان رابطني بيك راح؟
و توقفت أمامه مباشرة، قطبت جبينها و هي تردد بسخرية هازئة، أثناء عقدها لساعديها:
- لسه متمسك بيا ليه؟ مش كنت عايزني بس عشان تحرم أبويا مني؟ رافض تطلقني ليه دلوقتي؟
أطبق "يامن" على ساعدها، مجتذبًا لجسدها إليه فقلّص المسافة بينهما، و قد بزغت عروق جبينهِ و نحره و هو يزعَق بـ:
- عشان تخصيني!.. عظيم؟ تخصيني
تقوست شفتيها بابتسامة ساخرة، مقابلة تجهّم وجههِ بذلك، فاضمحلت المسافة بين حاجبيه،  ضاقت عيناهُ و هو يدقق في عينيها، فتبين له تلك النظرة التي لاحت فيهما، حينما كانت تسأل بتهكم:
- لما بتبص لي مش بتشوفه؟.. لما بتبص في وشي مش بتشوف صورته قدامك
فكانت نظرتهِ التي قابلها بها غامضة، مبهمة بالنسبة إليها، ارتفع ذقنها و هي تردد مردفة بنبرة قاتمة:
- أنا بنته.. من دمه، يبقى خد بالك، هكون كابوسك.. كل ما هتبص لي هتفكتره، كون اني جزء منه ده كفيل يخليك مش طايق تبص في وشي، خاصة بعد ما مات، هتحس اني نسخة مصغرة منه، خد بالك يا يامن
و أسقطت نظراتها، حتى صدرهِ المتواري خلف قميصهِ الذي ترك أغلب أزراره مفتوحة، غُصة علقت في حلقها ابتلعتها بعسرٍ محاولة التشبث بموقفها المعادي و البارد، و رددت دون أن تقوى على رفع نظراتها إليهِ:
-  يمكن حتى أقتلك.. زي ما حاولت أعمل قبل كده
و صمتت هنهة ثم عقّبت في محاولة منها لصرف تفكيرهِ عن كونها قد تيقنت:
- طالما مقتنع ان هو اللي قتل.. يوسف
أدرك "يامن" جيّدًا على الرغم من محاولتها الفاشلة تلك، أن ما تفعلهُ ليس من فراغ، و أقرب ما قفز إلى ذهنهِ أنها أصغت لحديثهِ مع رفيقه أو جزءً منه على الأقل، أرخى أنامله عن ساعدها ليحررها و هو يردد بجفاءٍ:
- سيبك من الهري دا، خلينا نتكلم بصراحة!
فبزغت ابتسامتها الهازئة و قد تفهّمت مقصده فورًا:
- كنت عارفة انك هتفهم
فسأل بإيجازٍ:
- امتى؟
فـ أجابت بامتعاضٍ غلّف لهجتها دون أن تقوى على رفع ناظريها اليه:
- من أول ما صاحبك سأل ازاي مش هتعرفني!
أومأ بحركة لا تكاد تلحظ، ثم مرّ عابرًا من جوارها دون أن يجيبها إجابة شافية، فـ أطبقت جفونها و هي تطرد زفيرًا حارًا من صدرها، و رددت حين أضحى خلفها تمامًا:
- طلقني يا يامن
فسأل بتشنجٍ و هو يلتفت إليها، تاركًا عنان سخطهِ:
- إيه علاقة ده بالطلاق؟
التفتت بانفعالٍ و هي تردد بلهجة مُشتدة:
- مش عارف إيـه؟.. أنا كنت السبب في كل حاجة حصلت لك، أي حاجة وحشة حصلت معاك أنا كنت السبب فيها
فقطع المسافة الفاصلة بينهما بخطوة واحدة و هو يجيبها باستهجانٍ نبع من نظراتهِ المتوقّدة:
- أنا اتهمتك؟!
فـ أشاحت بوجههِ عنها و هي تردد باختناقٍ جافّ:
- و دا اللي مضايقني، انت حتى معرفتنيش، حتى مواجهتنيش
و ابتلعت غصة عالقة في حلقها و هي تعطف نظراتها إليه من جديد، سلطت بصرها العميق على عينيهِ، ثم رددت بثباتٍ:
- مش هينفع.. كل ما أبص لك هفتكر إني كنت السبب في تدمير حياتك، و انت مهما حاولت.. هييجي اليوم اللي هتندم فيه، انك سيبت بنت قاتل أبوك على ذمتك، مهما حاولت انت تتقبل الموضوع دلوقتي، هييجي اليوم اللي هتكرهني فيه، و اللي هتعايرني فيه، هييجي اليوم اللي هنتعذب فيه بسبب الحقيقة دي!
اجتذبها من عضدها ليقرب جسدها إليهِ، فلفحت أنفاسه المهتاجة بشرتها و هو يردد بسخطٍ مبرر:
- مش من حقك تقرري عني يا.. بنت حسين
و أشار بسبابتهِ لصدره و هو يردد بسخطٍ مبرَر:
- مش من حقك تحكمي عليا، لأن مهما حاولتي مش هتقدري تفهميني!
فلم تشعر بنفسها سوى و هي تصرخ في وجههِ، باهتياجٍ مفاجئ و قد فقدت زمام تماسكها:
- و لا انت هتقدر تفهمني في يوم!.. عمرك ما هتفهم حاجة 
فجأر "يامن" في المقابل، و هو يُشدد من قبضته على ساعدها:
- أفهم إيـه؟
- إني بحبـــــك
تيبّس، حدق في وجهها بنظرة مشتعلة لم يخمد لهيبها، حينما كانت تتابع و هي تهز رأسها بإيماءة قوية:
- أيوة بحبك، معرفش ده حصل امتى و ازاي، لكن حبيتك، و دي كانت غلطتي!
و دنت منه خطوة أخرى، حتى أضحت المسافة بينهما لا تحتسب، ثم نطقت محتفظة باشتداد نبرتها:
- غلطت.. و بحاول أصلح غلطي بطلبي الطلاق منك، احنا مينفعش نكمل، مش لبعض، متخلقناش لبعض و لا عمرنا هنكون، انت واحد ميعرفش معنى الحب و ده كان بسببي، و أنا واحدة ارتكبت في حق قلبي جريمة عمره ما هيغفرها و وقعت في حبك، كل حاجة هتقف قصادنا، حتى انت.. انت كمان هتقف في وش الحب ده، لأن عمرك ما هتحبني!
- كويس انك عارفة ده!
فافترّت شِفاهها عن ابتسامة ساخرة، و قد ترقرقت العبرات المكلومة في عينيها، فريثما تحدث لم ينطق سوى بما هو موجع لروحها الملتاعة، دون أن تتبدل تعابير وجههِ الثابتة، و كأنهُ نُحت من الصخر، و كأن ما رددت لا يعنيهِ حتى، و لم تجد ما تقول سوى أنها ردددت مستنكرة ذلك:
- شايف؟.. أول حاجة قولتها كانت ايه لما اعترفت لك بحبي؟
و احتدت لهجتها و هي تهدر فيهِ علّه يستشعر لهيب الحب الذي ترعرع في قلبها:
- بقول بحبــك، بحبــــك! عارف ده معناه إيه؟
فكانت لهجتهِ الجافّة تناقضُ ما يعتمل في صدره، و لكنها تعكس شعورًا لديه، بأن يقصيها عن محيطهِ حالما تيقن من مشاعرها تجاههِ:
ـ مش عايز أعرف، لا عايز حبك، و لا طلبته منك!
فغرت شفتيها و قد توهج وجهها بالحمرة الغاضبة، ثم رددت باستهجانٍ تام:
- مطلبتوش!.. و أنا كمان مطلبتش حبك
فغمغم باقتضابٍ مثير للأعصاب:
- عظيم
فـ أومأت هي الأخرى على الرغم من اغتياظها من كلمتهِ تلك:
- عظيم.. احنا مينفعش نكمل.....آآ..
فـ اقتطع صوتها بقسوة عنيفة و قد استعاد كلمتها السابقة إليهِ:
ـ مفيش حاجة اسمها احنا! مش ده كلامك يا بنت حسين؟
فـ بررت و هي تصرف بصرها عنه، مرددة بخفوت:
- كنت بحاول أبعدك عني، لكـن..
فـ دمدم "يامن" دون أن يُحدث أي تغير على تقاسيمهِ تشي بشعورٍ سوى الصلابة:
ـ مفيش لكن!.. ده اللي كنتي عايزاه و هيحصل!
بُهتت و تيبست الدموع بحدقتيها، استشعرت جفاف حلقِها فتسائلت بنبرة وجلة و قد استشعرت فؤادها يُقتلع من محله:
ـ قـ..قـصدك إيه؟..!
لم تكن تتوقع ذلك الجفاء في نبرتهِ و هو يردف بصوتٍ خرق روحها، و كأنه لم يكن مطلبها منذ دقائق فقط:
ـ أول ما نرجع مصر كل حاجة هتنتهي، هطلقك.. يا بنت حسين
و أشاح بوجههِ متابعًا مضيّه تاركًا لها وحدها، و ما إن خرج حتى صفق الباب بعنفٍ من خلفه، فظلّت متيبسة مسلطة لبصرها على باب الغرفة، و الدموع تنحدر على وجنتيها كأنهُ فيضانًا منهمرًا، غصّ قلبها، و شعرت بوغزة حادة بهِ، كم كانت تنتظر لو يتشبث بوجودها في حياتهِ بتناقضٍ فكريّ بحت في ذهنها، و لكنها رأت أنه تخلى عنها ببساطة تامة، شهقة تلو الأخرى انفلتت منها، متأثرة بكلمته الأخيرة ، فتركت ساقيها تقتادانها للأرضية، و هي تستند بذراعها للفراش لتودع إليهِ رأسها، و هي تنتحب بصوتٍ امتزج ما شهقاتٍ مكلومة، موقنة أنها عشقته حتى النخاع، و أضحى لزامًا عليها أن تتحمل العواقب.
....................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now